الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
17 يونيو 2009 02:39
أزعم أن المرحوم جدي لم يقصدني بهجائيته المقذعة: «...الحمار، حمارا ولو طوقته بالذهب»، حتى ولو لم يكن أحد غير الحفيد في محيط غضبه. فقد رنّت الهجائية في ذهن الصبي ابن العاشرة، كأول جملة شعرية غير مدرسية، لتفتح بعدها آفاق الشعر المغاير. في زمن غابر، كنا ننسب الحمير المؤصلة إلى جزيرة قبرص دونما سبب واضح، لكن زميلا أصرّ على أن حمير بلده أعرق نسبا، غير أنه أقرّ بأن حمير القبارصة أكثر فطنة.. تستحق الحمير مكانة أفضل في مخيلة العامة، وهي التي أنصفتها النخبة منذ زمن. وإذا كان المطرب الشعبي قد رد لها بعض الاعتبار بأغنيته الذائعة «بحبك يا حمار»، لكن الأمر لم يصل بعد إلى حدود التعاون المتبادل كما يفعل الفرنسي مارك روجيه لخدمة الكاتب والكتاب والقارئ (راجع تحقيقا عنه في هذا العدد). تعيد مبادرة مارك روجيه وحماره، ذكرى حمار آخر. ففي زمن الانتداب، عجزت بعثة هندسية فرنسية عن شق طريق يربط قريتنا المتوارية خلف الجبال بأقرب مدينة. هنا اقترح أحد حكماء القرية، الاستعانة بحمار «يهندس» الطريق، فهو بحكم الغريزة سوف يسلك أيسر السبل عابرا المرتفعات والوهاد الوعرة، وقد كان. فتبعت الجرافات الفرنسية الحمار لكي تمهد الطريق أمام دبابات الجنرال غورو. فكان ذلك الحمار أول من يرتكب الخيانة الوطنية في التاريخ العربي المعاصر. بعد ذلك بسنوات طويلة سوف ينضم إلى أسرتنا الصغيرة «أبوصابر». وهو حمار اشتراه الوالد بتحويشة العمر، لكي يساهم في فك الحصار الذي ضربته اسرائيل على القرية. فقد كانت مهمته نقل الحطب من «الحرج» بديلا من محروقات التدفئة التي منع العدو وصولها. كانت مفاجأتنا مروعة حينما اكتشفنا أن حمارنا أعرج وأعور، ما اقتضى أن أتقاسم مع الوالد حمل الحطب، ويتولى أخي الأصغر حمل «أبوصابر». لكن «أبوصابر» هذا سوف يبقى حيث هو بعد الاحتلال، والتهجير، رافضا الانخراط في صفوف العملاء حسبما تواترت الأخبار عنه. مثل «أبوصابر» كان حمار توفيق الحكيم، حكيما وبليغا، يدل على الغلط ويرفس الخاطئ. وقد استعار الأديب المصري أسطورة قديمة ليدلل بها على رفعة حماره. تقول الأسطورة: «قال حمار الحكيم يوما: متى ينصف الزمان فأركب، فأنا جاهل بسيط، أما صاحبي فجاهل مركّب. فقيل له: وما الفرق بين الجاهل البسيط والجاهل المركّب؟ فقال: الجاهل البسيط هو من يعلم أنه جاهل، أما الجاهل المركّب فهو من يجهل أنه جاهل». ومن الواضح أن حمار حجا لم يكن جاهلا أبدا. وواقعة تحديه للعلماء في مجلس الخليفة، تثبت قدرته على قلب الحقائق وكسر قواعد المنطق وإعلاء سطوة العبث.. ويبدو أن معادلة صعبة تحكم ساحتنا الثقافية طرفاها: «فلسفة» حمار الحكيم «وفهلوة» حمار جحا. بين هذين الحدين «يسرح» كثيرون، فتختلط «الفلسفة» و»الفهلوة»، ويتسابق الجميع للفوز بجائزة «البردعة» صعبة المنال. adelk58@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©