الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ترويض سينمائي للغرب المتوحش

ترويض سينمائي للغرب المتوحش
8 مايو 2008 03:34
تعمل بعض الأفلام ضد عناوينها، بحيث يتحول العنوان إلى عتبة تمهيدية أو لافتة أولية تستدرج المشاهد إلى أرض شاسعة من العتبات الثانوية واللافتات الفرعية الدالة على تأويلات وشروح متعددة لا تطمئن لقصة الفيلم وخطوطه الخارجية فقط، بل تناور وتشتغل على الثيمات النفسية والخروقات البصرية المبثوثة في نسيج هذه القصة، وهذا التكنيك السينمائي الصعب الذين يلجأ إليه بعض المخرجين المتمكنين من أدواتهم الفنية يدخل في سياق ما يمكن نعته بجماليات التضاد، أو ميكانيزم التمويه· يصلح هذا المدخل لوصف فيلم ''اغتيال جيسي جيمس على يد الجبان روبرت فورد'' للمخرج أندرو دومينيك، فهو فيلم يتمتع بخيال إخراجي خصب، تتحول معه المشاهد واللقطات إلى كادرات تشكيلية وقصائد بصرية وتحليلات نفسية تتجاوز ظاهر العنوان وتفاصيل القصة، وتغوص في معالجات موازية أو بديلة، هي في ذات الوقت معالجات أسلوبية فارهة لا تعترف بالحلول السهلة والكلاسيكية عند التعامل مع فن استثنائي كالسينما، والتي لا يمكن لها أن تهمل مرادفاتها الأصيلة كالشعر والرسم والمسرح والموسيقا · يمتد زمن الفيلم إلى ساعتين ونصف، ويستعين برواية تحمل ذات العنوان للكاتب رون هانسن أطلقها العام 1983 معتمداً في ذلك على وقائع حقيقية لحكاية جيسي جيمس أحد أشهر المارقين والمتمردين الذي تحول إلى أسطورة في الغرب الأميركي في نهايات القرن التاسع عشر، وشخصية جيسي جيمس يمكن أن توصف بأنها روبن هود الغرب كمسحة من الجلال والهيبة وتبرير الدوافع الذاتية وظروف المكان التي أملت على جيمس التورط في جرائم وسرقات تبدو في الظاهر أنها مدانة قانونياً، ولكنها وفي العمق تتجلى بثيمات الحب العائلي والتضحية الذاتية ومساعدة البؤساء· يركز الفيلم وبعيداً عن تفصيلات وتفرعات القصة على نقطة الصراع النفسي الخفي الذي ينشأ فجأة بين جيسي جيمس وهو في الرابعة والثلاثين من عمره (يقوم بدوره براد بت) وبين روبرت فورد صاحب التسعة عشر عاماً، والمنضم حديثا لعصابة جيمس (يقوم بدوره كايسي آفليك)· فهذه العصابة المتماسكة عرقياً مكونة من أخوة ينحدرون من عائلتين فقط هما عائلة جيمس وعائلة فورد، ويمتد عمرها إلى 14 عاماً، وهي الأعوام التي روعت الغرب الأميركي بأكمله وامتد تأثيرها إلى حوالي عشر ولايات أميركية، ولكن في العام 1881 تحديداً بدأت هذه العصابة تشهد أولى بوادر اضمحلالها وانطفاء أسطورتها وصيتها المدوي، وكانت مؤشرات هذا الانطفاء واضحة مع انسحاب الأخ الأكبر لجيمس من العصابة، وانضمام فورد (الشخصية الضعيفة والمتوحدة والغامضة) كبديل للأخ الأكبر فرانك ( يقوم بدوره الممثل المخضرم سام شيبرد)، والتي كانت السرقة الفاشلة لإحدى القطارات هي آخر مغامراته مع العصابة· خيانة الأيقونة ومع مرور زمن الفيلم تتكشف أمام المشاهد الشروخ النفسية العميقة لروبرت فورد، حيث نرى هوسه بشخصية جيسي جيمس ورغبته الداخلية الجارفة في التشبه به على الرغم من أنه لا يملك المواصفات السحرية والكاريزمية التي يتمتع بها جيسي· يتحول هذا الهوس الداخلي لدى فورد إلى صراع نفسي مشتت بين الكراهية والحب، وبين الضغينة والإعجاب، يقرأ فورد كل الكتب والروايات التي دارت حول الأسطورة جيسي جيمس، ويراقب تصرفاته ويفتش في ماضيه وينضم إلى عائلته وأصدقائه ويقلده في تصرفاته اليومية ويتربص بكل صغيرة وكبيرة في أسلوب حياته وتفسيراته ونظرته للوجود، حتى أنه بات يقلده في طريقة تدخينه للسيجار! ولكن (فورد) ومع مرور الوقت يتحول إلى مسخ ونسخة مشوهة من شخصية جيسي الحقيقية، هذا الفشل يحول فورد (الجبان) إلى ذات متوحشة تنهش نفسها من الداخل وتضحي بكل القوانين الداخلية المقدسة للعصابة من أجل التفوق على جيسي نفسه وحيازة الشهرة ولو كان ذلك من خلال وسائل دنيئة وماكرة تعتمد على الخيانة وطعن الضحية من الخلف· وهو ما يتحقق فعلا عندما يتعاون فورد مع السلطات المحلية، ويتحرك كما لو كان خلية نائمة وسط العصابة، فهو الجاسوس والعميل الذي يلجأ في النهاية إلى خيانة الرجل الذي آواه وعامله كفرد من العائلة· يصفي فورد (الجبان) غريمه القوي والأسطوري (جيسي جيمس)، ويطلق عليه رصاصة من ذات المسدس الذي أهداه إياه جيمس في عيد ميلاده العشرين· يقتل فورد الأيقونة التي طالما أعجب بها، ولكن من الخلف هذه المرة ومن خلال نوايا مريضة، وبدم بارد، وقلب يخلو تماما من العاطفة والتأنيب· وللإمعان في الشهرة المزيفة التي حازها فورد يقوم وبالمشاركة مع شقيقه الأكبر ـ والذي كان منضما لعصابة جيمس ـ في أداء مسرحية تصف اللحظات الأخيرة لمشهد قتل جيسي جيمس في منزله، يتجول فورد بهذه المسرحية في عدة ولايات أميركية ولكن الجمهور يرميه بالمخلفات أثناء العرض، ويصفه بالجبان الذي اتكأ على الحيلة والغدر لتحقيق نواياه الذاتية المريضة، وفي نهاية الفيلم يقوم أحد أقارب جيمس بالانتقام من فورد وتصفيته جسديا، ليدفن مع جثته كل الأكاذيب والبطولات الصفراء والأوهام المتورمة لحياة عابرة، لم يعد يتذكرها أحد· مديح المكان عموما فإن فيلم ''اغتيال جيسي جيمس'' هو واحد من أميز الأفلام التي شاهدناها في الأعوام الأخيرة، والتي صورت الغرب الأميركي من جانبه الروحي والجمالي، وأتاح الرصد الشعري الذي انتبه له مخرج الفيلم للمتفرج الإطلاع على سينما مختلفة عن الطابع الفلكلوري لأفلام (الويسترن) التقليدية· اختبر المخرج أندرو دومينيك أدواته الفنية وحسه العالي في التعامل مع اللقطة والمشهد وانفعالات الشخصية فخرج برصيد هائل من الابتكارات والحلول الإخراجية ذات البصمة الفريدة، والتي توزعت برشاقة وتناغم على التقسيمات الزمنية للفيلم، لجأ دومينيك للقطات الصامتة التي ذكرتنا بإرث السينما الروسية وروادها الكبار أمثال برادجانوف وتاركوفسكي وميخائيلكوف·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©