الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الماغوط·· صراخ وصمت وغضب واستكانة

الماغوط·· صراخ وصمت وغضب واستكانة
8 مايو 2008 03:36
في الثالث من أبريل ،2006 رحل عنا ابن قرية (سلمية) السورية الشاعر الأبرز في قصيدة النثر العربية، محمد الماغوط، رحل ولم يكن قد مر أكثر من شهر على حيازته جائزة سلطان العويس التي قال إنه سوف يصرف قيمتها (120 ألف دولار) لشراء الأدوية التي أخذ يتعاطاها في السنوات الأخيرة من حياته، حيث أقعدته مجموعة من الأمراض، مضافا إليها سمنة فائقة راح يعاني منها، حتى أنه لم يعد يحضر إلى مجلسه الذي عرفناه فيه في مقهى فندق الشام، ولم يعد يشاهد بعصاه وقبعته وهو يتمشى في الطريق إلى المقهى الآخر الواقع على طريق دمر· كان يوما شتويا حين اتصلت به في العام 2002 لأطلب لقاءه، وأخبرته أنني أعد ملفا عنه لصحيفة أردنية، فرحب مشترطا عدم اصطحاب كاميرا أو مسجل، فهو يعتبر المسجل على الطاولة أمامه بمثابة المسدس المشهَر في رأسه، وكان له ما أراد· ولما كانت قد مرت سنوات لم أره خلالها، فقد فوجئت ونحن ندخل عليه -خليل صويلح وأنا- أنني أمام شخص غير ذلك الشاعر الذي فتن جيلنا بشعره وتمرده·· بمجموعاته الثلاث فقط التي أسست كينونته الشعرية بدءا من ''حزن في ضوء القمر'' و''غرفة بملايين الجدران'' الصادرتين في العامين 1959 و1960 ثم ''الفرح ليس مهنتي'' الصادرة في العام ·1970 في الطريق، كنت أفكر فيما سيكون عليه اللقاء؟ طافت في رأسي كتاباته وأشعاره، مسرحياته ومقالاته في مجلة ''الوسط''· تذكرت روايته ''الأرجوحة''، و''البطل'' فهد التنبل، الأديب المغمور ''كالجذور في الربيع''، والمناضل المرعوب من العالم، ومن أجل العالم، وصديقته المناضلة ''غيمة''· عادت بي الذاكرة إلى ''ضيعة تشرين'' و''غربة''· أخيراً، ها نحن، خليل وأنا، نطرق الباب، وأتوقع أن يطل بقامته الفارعة، وعيني الصقر الشاسعتين· لكن توقعي ذهب سدى، فسرعان ما انفتح الباب عن شاب طويل وسيم، قادنا في ممر قصير، خلتُ أنه لن ينتهي· فأخذت أتأمل جدران الممر المحتشدة بالصور، صور شخصيات وأمكنة، صور الماغوط وغيفارا، مكتبة تغطي جداراً في الممر، وفجأة ظهر الماغوط الذي أعرفه، لكنه الماغوط الذي لا أعرفه أيضا· بدا وكأنه فوجئ بغزو من كائنات وهمية·· هل أنحني وأقبله، فيما هو جالس، متكئ في سريره؟ لقد بدا لي أضخم مما توقعت· كان وزنه قد تزايد فعلاً عن آخر لقاء بيننا، وعن آخر صورة له· كنت قد فكرت، مجرد تفكير، في أسئلة كثيرة أطلب منه الوقوف عندها، لكنني رأيت اليأس جالساً على الطاولة بيني وبين الشاعر، فطويت أسئلتي ورحت أصغي إلى صمته الصارخ، وذكرياته الجارحة التي قرأتها هنا وهناك· كان يدخن بشراهة، كما لو أنها آخر سيجارة، فيما السيجارة التالية تشتعل بجمرة السابقة، لتنعقد حلقات دخان أزرق مثل كلمات الشاعر، فيما يتحدث عن أصدقاء ذهبوا، ويتوقف لحظة ليرفع سماعة الهاتف ويرد على حفيدته بعذوبة ورقَّة· كان دافئاً في حديثه وحانياً في أسئلته· ذلك الدفء والحنان اللذين تتوقعهما من شاعر متسكع كالماغوط· من الصعب، طبعاً، توقع الشاعر والداً، فما بالك به جداً لأحفاد وحفيدات؟ لكنه حين يغدو كذلك، يتصرف كشاعر حقيقي· شاعر وأب وجد· وتظل الأسئلة تحوم بيننا، أسئلة الحزن والتشاؤم القاتم الشديد الحضور في نصوص الشاعر، وأسئلة الفرح الغائب بقوة عن هذه النصوص· كيف يكون التشاؤم أصيلاً وحقيقياً، ويكون التفاؤل أعمى أيها الشاعر؟ هل هي فلسفة مترفة هذه التي لا ترى في الحياة سوى الدم والدموع؟ أم أنها الفلسفة الوحيدة الصادقة والحقيقية والعميقة؟ العدالة الناقصة من أكثر من أثاروا القضايا الكبرى في تاريخ كتابتنا الشعرية المعاصرة، حتى لو قال هو غير ذلك· فحين يكتب شاعر، في الستينات، عن العدالة الناقصة ''العدالة التي تشمل الجميع وتستثني فرداً واحداً ولو في مجاهل الاسكيمو، هي عدالة رأسها الظلم وذيلها الإرهاب· والرخاء الذي يرفرف على موائد العالم ويتجاهل مائدة واحدة في أحقر الأحياء، هو رخاء مشوه''· وحين يطالب بـ''الكل أو لا شيء، طالما أن الشمس تشرق على الجميع، طالما أن السنبلة الأولى لم تكن ملكاً لأحد''، حين يكتب مثل هذا، فهو يجعلنا نتساءل، ونحن نقرأ روايته ''الأرجوحة'' (كتبها عام ،1963 ولم تصدر طبعتها الأولى إلا عام 1974)، عن أي إرهاب كان يتحدث في ذلك الوقت؟ أهي نبوءة الشاعر الرائي، أم ربما كانت القضية مرتبطة بجوهر الصراع في العالم، فهو صراع بين عالمين، صراع تلخصه عبارة في قصيدة، أحياناً، كما في قوله ''نزرع في الهجير ويأكلون في الظل''، أو محاورة في مسرحية، أو مشهد في رواية· وهنا يكفي أن نعود إلى قصيدته ''الظل والهجير''، ففيها صراع بين ''هم ونحن··''، حيث يخاطب الشاعر حبيبته: حبيبتي هم يسافرون ونحن ننتظر هم يملكون المشانق ونحن نملك الأعناق هم يملكون اللآلئ ونحن نملك النمش والتواليل نزرع في الهجير ويأكلون في الظل (من مجموعة ''الفرح ليس مهنتي'')· كان رائياً كبيراً، لأنه كان شاعراً صادقاً وحقيقياً وشرساً، وهذا ما نفهمه من شهادة الشاعر نزار قباني، حين قال له ''أنت، يا محمد، أصدقنا·· أصدق شعراء جيلنا· حلمي أن أكتب بالرؤى وبالنفس البريء، البعيد النظر الذي كنت تكتب به في الخمسينات· كان حزنك وتشاؤمك أصيلين·· وكان تفاؤلنا وانبهارنا بالعالم خادعاً''· أما شراسته، شراسة لغته وكلماته، فيصفها الشهيد غسان كنفاني بأنها ''كلمات مسلحة بالمخالب والأضراس· ومع ذلك، فإنها قادرة على تحقيق إيقاع عذب ومدهش، وأحياناً مفاجئ· كأن يتحول صليل السلاسل إلى عزف منفرد أمام عينيك ذاتهما في لحظة واحدة''· الماغوط، الناثر، لم يترك قضية، كبرى كانت أم صغرى، إلا وراح يُجري جرداً لها في واحد من مقالاته التي درج على نشرها في مجلة الوسط بين 1998 و،2001 ثم جمعها في كتابه ''سياف الزهور'' (افتتح الكتاب بقصيدته التي تحمل العنوان نفسه، والموجهة إلى رفيقة دربه سنية صالح)· نأخذ من مقال ''اغتصاب كان وأخواتها''، مطلعها على سبيل المثال ''فجأة، ودون سابق إنذار، ركنوا جانباً قضية فلسطين، وتعثر المفاوضات على المسارات كلها، واستمرار قصف الجنوب، وحصار العراق، واحتمال تقسيمه إلى حارات وأزقة، والحلف التركي- الإسرائيلي، ولوكربي، والمذابح في الجزائر، والوضع المتفجر في البلقان والقرن الأفريقي، وقضية أوجلان··''، فهل ثمة، في الكون، قضايا أكبر من هذه؟ وهو حين يسخر من السياسة، يحن إلى ''الدفاتر المدرسية القديمة·· خاصة تلك التي على غلافها الأخير صورة جدول الضرب، وعلى الغلاف الأول صورة الكشاف أو الطالب المُجدّ بكتابه المرفوع في الهواء، وخطواته الثابتة الواثقة وقد كتب تحتها ''إلى الأمام·· لا إلى: مدريد·· وأوسلو وواشنطن وتل أبيب!!''· كما أنه لا يجد أغرب من العرب، يلخص حالنا في أن ''بلادنا غارقة في المرض والجهل والبطالة والديون والعمالة والجنس والحرمان والمهدئات والمخدرات والوصولية والأصولية والطائفية والعنف والدم والدموع، ونحن مشغولون بغرق تيتانيك''· (سياف الزهور، دار المدى، أواخر عام 2001)· أطفالها غيومها يخاطب قريته التي غادرها مبكراً وبصورة فاجعة حيث اقتيد سجينا بسبب مواقفه وشعره: سلمية·· الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا وهي تلهو بأقراطها الفاطمية·· يحدها من الشمال الرعب ومن الجنوب الحزن ومن الشرق الغبار ومن الغرب الأطلال والغربان·· لا تعرف الجوع أبداً لأن أطفالها بعدد غيومها·· حزينة أبداً لأن طيورها بلا مأوى·· والنجوم أصابع مفتوحة لالتقاطها سلمية هذه، البلدة القرمطية، المشاكسة، التي يتذكرها ''فهد التنبل'' بطل رواية ''الأرجوحة''، ويتذكر نفسه فيها حين كان طفلاً، فيرى ذلك الطفل وهو يتصدى للإقطاعي، فيبدأ وعي الصراع الطبقي من الأرض، لا من الكتب· تقول والدة فهد عنه إنه ''يخجل من النسيم، وإذا رأى فراشة تموت بكى طوال الليل· إنه الوحيد في قريتنا الذي لا تخافه عصافير الدوري، بل تغط على رأسه وكتفيه، وتمتص لعابه من بين شفتيه''· ورغم هذه الرقة، ففهد هو الوحيد الذي يتصدى للإقطاعي ''كان عمره تسع سنوات حين قذف جواد الأمير بحجر، وكان يقصد جمجمة الأمير، لأنه (الأمير) قذف له أجرته من فوق صهوة الجواد· كان بالطبع سيأخذها لو أعطاه إياها يداً بيد، ولكن أن يقذفها له والسوط في يده، فهذا ما لم يحتمله ولدي الصغير·· ولم يهرب· بل مكث واقفاً يلهث بأنفه الصغير أمام الأمير وسوطه وجواده، وكان قميصه الرقيق يخرج نتفاً على طرف السوط· لقد ضربه حتى أدماه'' (أعمال محمد الماغوط، الأرجوحة، ص 456)· ومع ذلك فتهمته حين سجن أنه يتعاون مع الإقطاعيين· ومن حياة السجن وتفاصيله، ستتولد لديه ثنائية ''القفص/ العصفور''· ووعي أكبر وأوسع بالصراعات· هذا الوعي الذي سيشقي حياته، ويقوده إلى الشعر بموهبته الفذة والبريئة· وهو الذي سيخرجه من سلمية إلى سجن المزة في دمشق، بين 1955 و،1956 حيث يتعرف إلى أدونيس، الذي سيقدمه في ما بعد إلى شعراء مجلة ''شعر''، حين كان الماغوط في بيروت لاجئاً سياسياً (يسخر فيقول إنه كان لاجئاً اقتصادياً·· فاللقاءات التي كانت تتم في بيت يوسف الخال، كان يحضرها مستمعاً، يسمع أسماء شعراء (غربيين) لا يعرفهم، وعندما يحضر الطعام يأكل· فقد كان الخال وزوجته يعدان الطعام لأسبوع كامل، على الطريقة الأميركية)· ومع ذلك لم ينجُ من شعور الغربة والنفي· هذا الشعور الذي سيكبر معه حتى يلتقي رفيقته سنية صالح، الصديقة أولاً، والزوجة لاحقاً، التي احتضنت أحزانه وآلامه، وضمدت جراح روحه قبل طعنات جسده· سنية التي كتبت عنه في مقدمة أعماله الكاملة (الطبعة الأولى، وهي المقدمة التي تضمها الطبعة الصادرة في دار المدى 1998)، أنها خرجت تبحث عنه في اثر أحد الانقلابات، ''وكان في ضائقة قد تجره إلى السجن أو ما هو أمرّ منه''، فعملت على إخفائه عن الأنظار في ''غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت في خاصرة أحد المباني، بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن·· سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم''· علينا أن نتوقف عند عنوان كتابه ''سأخون وطني''، وهو عنوان شديد النفور والقسوة، شديد الإيلام والسخرية في آن· عنوان صادم لوهلة· لكن الذي يقرأ جوهر ما فيه، سيجد أن الوطن الذي سيخونه الشاعر هو ''وطن الذل والقهر والعبودية، فالوطن الذي يستحق الخيانة عند الماغوط هو دائماً ''وطن الظلم والإرهاب والاضطهاد''، كما يقول رياض الريس· أما المتمرد الآخر زكريا تامر، فيقدم للكتاب بقوله إن الماغوط نجح في أن يجمع على أرض واحدة ''بين الليل والنهار، بين الأمل واليأس، بين مرارة الهزائم وغضب العاجز، ليقدم صورة لما يعانيه الإنسان العربي من بلاء من سياسييه ومثقفيه وجنده وشرطته وأجهزة إعلامه، مكثفاً ذلك البلاء الكثير من الوجوه في بلاء واحد، هو فقدان الحرية''· فرغم ما يقوله عن وطنه يقول عن دمشق وهو يطالب بقتلها: ولكن·· اسملوا عينيّ قبل أن تفعلوا ذلك إنني أحبها يا رجال ولن أخونها وعن علاقة الفرد بالثورة، يضعنا الماغوط أمام فلسفته الساخرة: كلنا فداء الثورة· يقول ساخرا، وتبلغ السخرية مداها هنا ''إنها (أي الثورة) جائعة·· وهي لن تنمو ما لم تجد لقمة هنا ولقمة هناك''· فأية ثورة هذه التي تتغذى على الشعب؟ ''لتتغذَّ بنفسها إذا كانت جائعة إلى هذا الحد··'' تقول صديقة فهد بسخرية مريرة· سخرية من الثورة التي تقود الناس إلى السجون· ومن يعرف حياة الماغوط، يعرف أنه سجن بلا مبررات سوى أنه انتمى- بالصدفة- إلى حزب كان قريباً من بيته، وكان لدى الحزب مدفأة، في الوقت الذي كانت غالبية بيوت الناس بلا مدافئ!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©