الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

معزوفة الألوان

معزوفة الألوان
8 مايو 2008 03:40
يمضي السرى الرفاء في استعراضه للأشعار التي قيلت عن ثياب النساء في الجزء الأول من مختاراته الشيقة، فيورد الأبيات التي قيلت عن السواد وهي كثيرة، لأن للسواد إيحاءاته المتناقضة في إبراز الفتنة من ناحية والرمز للفقد والحداد من ناحية أخرى، وإن كان يغري الجميع بأقرب التشبيهات وأكثرها دورانًا في تمثيل جمال المرأة بطلوع البدر، لكن براعة كل فنان تتجلى في السياق الذي يقيمه، فهذا عليّ بن الجهم يقول: طلعت وهي في ثياب حداد طلعة البدر من خلال السحابِ بتُّ في الهوى واللذاذة ليلي أرشف الخمر من ثنايا عذابِ نتجنّى، وساعةً نتراضى عبثًا والقلوب غير غِضابِ وشربنا من العتاب كؤوساً وجعلنا التقبيل نُقْلَ الشراب وربما كان لون المشاعر أكثر بروزاً في هذه الأبيات من لون الثياب، فهو يستقبل طلعتها المنوّرة بالبهجة المناقضة لشعور الحداد الذي يثيره السواد، ويمعن في اللهو وارتشاف الرضاب معبراً عن ذلك بكلمة طريفة لم تفقد طزاجتها حتى اليوم وهي ''اللذاذة''، لكنه يصور حالته مع حبيبته بين التجنّي والغضب والتراضي العابث في تلاؤم لطيف لاتفسده الحدّة، بل يجعل العتاب الحلو كؤوس مُدامٍ يحتسيها مع نديمته متخذين من القبلات المتبادلة ''نُقْل الشراب'' في ظرف لامثيل له· وأحسب أن الشعراء يقومون بدور أساتذة ''فن الهوى'' في ثقافاتهم منذ القدم، فهم الذين يمنحون العواطف بمختلف درجاتها أسماءها ويجعلون منها نبض الوجود الساخن، ولعل من يدينونهم لذلك أن يكونوا أحوج إليهم من غيرهم من البشر· ويأتي ''الصنوبري'' ليستهويه اللون الأخضر في ملبس محبوبته فيقول: وشاطرة أدبتها الشطارة حِلَى الروض من حسنها مستعارة أميرة حُسنٍ إذا مابدتْ أقرّ الأمير لها بالإمارة بدت في لباس لها أخضـرٍ كما تلبس الورق الجلنارة فقلت لها مااسم هذا اللباس؟ فردت جوابًا ظريف العبارة شققنا مرائر قوم به فنحن نسميه ''شقَّ المرارة'' والصنوبري معروف في تاريخ الشعر المشرقي بأنه من أهم من وصفوا الطبيعة وتغنوا بجمال الأزهار والبساتين حتى أصبح ''جَنّان المشرق'' في مقابل ابن خفاجة الأندلسي، لكنه هنا يظهر مهارة فائقة في وصفه لحسنائه، وهي غالباً من الجواري، فهي شاطرة مؤدبة- كما نقول اليوم بالضبط- استعار الروض منها ألوانه وحُلِيَّة ونضرة، فأصبحت ''أميرة الحسن'' أم ''ملكة جمال'' بعبارتنا اليوم، واعترف لها الأمير الحقيقي بذلك، وقد اختارت لملبسها في هذا اليوم فستاناً أخضر فبدت مثل زهرة الجلنار المكسوة بالأوراق الريانة، لكنها إضافة إلى ذلك لبقة زكية تحسن تعليل الأسماء، مثقفة تجيد كيد العوازل، ويصور لنا الشاعر ذلك على هيئة حوار ظريف ينم عن ''الموضات'' التي كانت شائعة في الملابس والتسميات التي كانت تطلق عليها، مما يشفّ عن تفنن المجتمع العربي في فنون الترف والتحضر في ثقافة الملابس والتنعم بجمالياتها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©