بؤسـاء هوجو يقفون في طوابير الخبز

في الوقت الذي يتردد فيه أن عرض مسرحية ''دماء على ستار الكعبة'' منع من التليفزيون المصري لأنه كان يضم مشهداً لثورة الجياع المطالبين بالخبز وهو ما تقول الشائعة أنه كان سبباً كافياً لمنع عرضه· جاء تقديم عرض ''البؤساء'' للروائي الفرنسي فيكتور هوجو على المسرح القومي المصري لينفي الشائعة بشكل عملي فالبطل في المسرحية سجن لأنه سرق رغيفاً يطعم به ابنة اخته التي كانت تتضور جوعاً بينما كان القمح والدقيق يملآن مخازن التجار الجشعين· رغيف خبز كان سبباً لسجن جان فالجان وهو نفسه رغيف الخبز الذي كان سبباً في أزمات أدت إلى موت بشر في طوابير الخبز بمصر ومع ذلك خرج العمل من دون أزمات ليؤكد أن المبدع يستطيع أن يقول كلمته مهما كانت المحظورات المعلنة أو المخفية أو التي لا مكان لها إلا في خيال البعض· بهذه الروح قدم شباب مسرح ''الطليعة'' بالقاهرة عرض ''البؤساء'' التي ترجمها وأعدها للمسرح أسامة نور الدين الفائز بجائزة أحسن تأليف العام الماضي وأخرجها هشام عطوة صاحب جائزة الإخراج لتكتمل منظومة الجوائز بمعد الموسيقى طارق مهران والفائز بجائزة أحسن موسيقي وصبحي السيد مهندس الديكور الذي فاز بجائزة أحسن سينوغرافيا في مهرجان المسرح القومي المصري· الممثل كمال سليمان في دور ''جان فالجان'' استطاع أن يجسد الشقاء الذي عاشه البطل وهو الشقاء الذي لم تمحه أي نعمة أو ثروة فضياع 19 عاماً من عمر انسان في شقاء السجن وعذاب الشعور بالظلم يكفي لتكدير صفوه· ويقول كمال سليمان: كنت أحلم بهذا الدور الذي يعطي الفنان فرصة كبيرة لإظهار قدراته من خلال مشاعر متناقضة بالإضافة إلى المباراة التي يعيشها معظم الوقت مع الشرطي ''جافير'' الذي يطارده بدعوى تحقيق العدالة· أما يحيى أحمد الذي يقوم بدورالشرطي ''جافير'' فقد استطاع أن يقدم الدور باقتدار ويقول: شخصية ''جافير'' حيرتني فهو متمسك بالقانون بلا عواطف وهذه ميزة ربما غيابها يسبب مشاكل كثيرة فالعدالة يجب أن تطبق وهو رجل شرطة ينفذ حكم المحكمة فهو لم يقض على ''فالجان'' بالسجن لكنه ينفذ حكما صدر بعد تأنٍ· الممثلة نيرمين زعزع التي تقوم بدور ''فانتين'' والابنة ''كوزيت'' تمر بتجربة مهمة في العرض فهي تقدم شخصيتين هما الأم التي تعاني قهر المجتمع وتسعى إلى الحصول على المال لتنفق على ابنة تركتها في نزل بعد ان تركهما أبوها· وبعد أن تموت ''فانتين'' تقوم بدور ''كوزيت'' الابنة التي يرعاها ''جان فالجانو'' وتقول نيرمين: أستمتع كل يوم بتقديم ''البؤساء'' الرواية التي سحرتني عندما قرأتها وعندما عرض عليَّ أن اقوم بالدورين كنت في غاية الحماس ولم أعبأ بالجهد الذي أبذله في الدورين حيث يفترض أنهما مختلفان· وتضيف'' كنت محظوظة بأن أقدم الشخصيتين فكل منهما تكمل الأخرى كما أن المعد أسامة نور الدين كان مضطراً لعمل اختصارات لذلك جاء مشهد وفاة الأم مبكراً· فكان قيامي بدور الابنة تعويضاً عن اختصار دور الأم الذي يجذبني أكثر من كوزيت· واستطاع خالد النجدي بخفة دمه أن يخلص جمهور ''البؤساء'' من قتامة الأحداث في دور ''تيناردييه'' الذي جاء على غير تصور هوجو نفسه فهو ضخم الجسم قوي البنيان· بينما مدام تيناردييه هي الضخمة الطويلة عكس ولاء فريد التي أسند لها الدور· ويبدو أن المخرج هشام عطوة قرر أن يتخلص من قيود هوجو الشكلية ليكون تيناردييه قزماً معنوياً بانسحاقه أمام زوجته الضئيلة الجسم والعملاقة بشرها ودهائها· الثنائي تيناردييه كان فرصة لتصوير واقع المجتمع العشوائي أو مجتمع تحت الأرض في باريس· وبالكوميديا والمفارقات والشر على طريقة استيفان روستي واستطاع الثنائي وخاصة خالد النجدي انتزاع ضحكات مريرة من الجمهور ويفجر من قلب المأساة ضحكة إلى أن اصطدم هو وزوجته بجثة ابنته ''ايبونين'' بين جثث الثوار ليتحول الشر والقسوة إلى أب وأم فقدا ابنتهما· أما ايمان البحطيطي التي قامت بدور ''ايبونين'' فتقول: قمت بدور المحبة لماريوس الذي يراها طفلة ولا يراها أنثى ويتعلق بحب كوزيت وهو شعور أنثوي قاتل وهذا ما يميز الدور المليء بالمتناقضات· وفي دور القس لم يجد مصطفى طلبة صعوبة في أن يظهر قدراته فيه فهو الذي يفتح أبواب النور والانسانية في وجه ''فالجان'' الذي أغلقت الأبواب في وجهه وظلت السابقة تطارده كأنها قيد في عنقه فبكلمات كلها رحمة فتح لقلبه النور بعد أن أشعره بإنسانيته واستضافه في بيته حتى عندما سرقه غفر له· هشام عطوة مخرج ''البؤساء'' يقول إن أسامة نور الدين معد ومترجم البؤساء يمتلك لغة خاصة شاعرية ورومانسية وقد ترجم المسرحية وحذف منها وفقاً لرؤيته الخاصة· ''البؤساء'' في النص الأصلي مباراة بين اللص والشرطي بينما في المسرحية التي أعدها أسامة نور الدين عمل على أكثر من مستوى وهو يدين المجتمع كله ويرى أن الكل بؤساء حتى الشرطي لأنه غير قادر على أن يكون سوياً وتخلص من حياته لأنه يقع تحت قهر القانون لذلك عندما يقول له ''جان فالجان'' أنت رجل حبست نفسك في زيك· فيرد عليه أنه ينفذ عدالة الله· وعندما يتأكد من إنسانية ''جان فالجان'' انتحر لأنه لو عاش لظل يطارده لأنه رجل قانون لا يعرف إلا تطبيقه· ويضيف هشام عطوة: ربما يرى البعض أن العرض مناسب للحظة الراهنة لكني عندما أخترته لم أتعمد ان يرتبط بحدث آني· فالبؤساء في كل مكان وزمان ولا أربط العرض بالغلاء أو غيره· وعن عرض المسرحية على خشبة المسرح القومي المصري· وهي من إنتاج مسرح ''الطليعة'' قال هشام عطوة: هما المكانان المناسبان للمسرحية والكوميديا في العرض ضرورة يفرضها النص الذي أفضل ألا يكتفي بالقتامة التي يحملها عالم البؤس والشقاء لذلك اخترت العامية للشخصيات التي تعيش في الشارع وفي الأحياء الفقيرة ومن هذه الشخصيات تتفجر الكوميديا·