الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القصيدة الومضة..

القصيدة الومضة..
2 مارس 2011 18:34
إذا ما قلنا إن التكثيف الشديد هو السمة الأوضح في بناء قصيدة الومضة فإننا نكون قد خطونا الخطوة الأولى في عالم قصيدة الومضة، وأنا مع من رأى أن جذور قصيدة الومضة تمتد عبر الشعر العربي القديم، لا سيما في تلك الأبيات المفردة مكتملة المعنى وفيما دعي بوحدة البيت بحيث يبدو وكأنه قصيدة منفصلة تومض في الذهن وفي القلب معا. وليس من شأن هذه السطور أن تتوغل في أفق التنظير لهذا النمط من القصيدة الشعرية بل أنها تتلمس في ومضات الشاعر الأميركي إثيلبرت ميلر أصداء لملامح قصيدة الومضة التي ربما أملتها ظروف هذا العصر ذي الطابع السريع الخاطف. والشاعر إثيلبرت ميلر يسعى واعيا إلى أن يطبع شعره بطابع إنساني عالمي. يأتي هذا على لسانه في مقدمة له لمختارات من شعره باللغة العربية ترجمتها له وصال العلاق تحت عنوان “في الليل كلنا شعراء سود”، وصدر الكتاب عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة) عام 2009. وليس هذا العنوان اللافت “في الليل كلنا شعراء سود” إلا ومضة من ومضات الشاعر ميلر. وثمة إشارات إلى أن الشاعر الأميركي ميلر له صلات وثيقة بشخصيات أدبية في اليمن والبحرين والسعودية والعراق وأن له قصائد مستوحاة من المذهب الصوفي كان لها صدى في الأوساط الثقافية العربية. ويصرح الشاعر بأنه شديد الإعجاب بالشاعر اللبناني جبران خليل جبران حتى أنه أسمى ولده باسمه تيمنا بموهبته الشعرية الفذة. وتكاد تكون قصائد ميلر عامة توثيقا لسيرة حياته، لا سيما فيما يثير شجونه وفيما له صلة بالهوية والجذور: “في أوائل العشرينيات جاء قارب بأبي إلى أمريكا وقد عبر عن انطباعاته الأولى بالأسبانية وبمرور السنين وعندما نسي اللغة لم يعد يذكر ما كان قد رآه حينها” وفي ومضة أخرى يلمح المضمون ذاته: “في كوبا سألتني سيدة سمراء البشرة إن كنت من أنغولا؟ أحاول أن أخبرها وبما لا أجيده من الأسبانية أنني أمريكي فتجد السيدة هذا الأمر صعب التصديق أحيانا أشعر أنا بالشيء ذاته.” وربما نقل مشهدا من حياته نابضا بتفاصيل اليومي وبأسلوب لا يخلو من سخرية مرة: “زوجتك في المطبخ تنتظر تسخين وجبة أخرى من الشجار وأنت لا ترغب في ذلك. تشم رائحة السنين المتعفنة أم إنها رائحة أنفاسك وأنت تناديها بـ(عزيزتي) وحين تقف قرب الموقد، تكتشف أن البيض مهشم كله. كم سيكون لذيذا مذاق اللحم المقدد أو الطلاق في هذه اللحظة. يقرقع الزيت في المقلاة ولا أحد منكما ينطق بكلمة.” ومن الواضح أن هذه الومضة تؤرخ لنضوب علاقة حب وهي تنذر بالفرقة متخذة من الأشياء خارج الذات معادلا موضوعيا لمشاعر متقدة مكتومة لا تجد لها منفذا إلا من خلال هذه الومضة المفخخة بأحاسيس الكراهية والندم على شبح حب غابر. وإذا كان الشاعر قد أرخ للحظات غياب الحب عبر تقنية قصيدة الومضة فإنه عبر عن احتفائه بالحب الذي هو حضارة وانتماء، تأمل قوله: “إن كان لابد لي أن أتعذب وأعيش وحيدا بين أطلال مدينة ضائعة أو منسية فلتكن مدينة عرفت حضارة حبك” وقد تتماهى القصيدة لدى الشاعر مع المعشوقة فكلتاهما حميمة لصيقة بالشاعر: ولا يحتفي الشاعر ميلر بالحب وحده، بل تنافسه الصداقة التي بدت للشاعر: “كالموسيقى الجديدة لاتشيخ أبدا تلك هي الصداقة” ويكرس ميلر حسه الإنساني وحميميته مع الكائن البشري في كل مكان, واهتمامه بما يدور حوله في هذا العالم إذ قد يدخل في إهاب يتيم في بيروت ويتحدث من داخل ذاته: “بالأمس كان لي أم وأب بالأمس كانت لي يدان” وقد يتقمص شخصية الجندي في وجهه السلبي إذ إن الوجه الإيجابي معروف: “لم أشأ أن أكون مزارعا كأبي أو أخوتي فأصبحت جنديا. كان الأمر شاقا لكنني نجحت. كنت نحيلا عندما بدأت تدريباتي العسكرية. أخبرني القائد المسؤول أن وزني سيزداد بعد أن أنفذ عددا من عمليات القتل” وتنعكس معاناة الكادح على وعي الشاعر ميلر متمثلا بعامل الصيانة، وقد رصد أدق التفاصيل في عمله اليومي الروتيني وبعينين مشفقتين ورؤية إنسانية: ومما يميز ومضاته تشكيلها السردي المندغم بالنسيج الشعري، وكأن الشاعر ميلر يقتطع شريحة سردية نابضة بالحياة يضمنها صوره الشعرية ورؤاه، وربما استمد ومضته ذات الطابع السردي من صميم حياته مستقيا شخصياتها من أقرب الناس إليه مضفيا عليها طابعه وبصمات تقنيته الشعرية: “ذات ليلة نظرت إلى والدي وهما نائمان في غرفتهما وكانا متباعدين عن بعضهما...... كانا يبدوان وكأنهما غريبان نائمان في محطة باص أو على متن طائرة ولا يمكنني تصديق أنهما كانا حبيبين يوما ما أغلقت الباب كي أبقي سرهما طي الكتمان” وهنا تتأكد لنا سعة أفق الشاعر ميلر وإنسانية رؤاه ومضامينه وسعيه إلى أن تكون قصيدته شاهدا منصفا يعكس بصمات هذا العصر ممتزجة ببصمات ذات الشاعر. ولا يخفى تنوع مضامين ميلر وتنقله بوعي منه بين إضمامة من الثقافات ولذلك تتردد أصداء حضارات حفرت بعيدا في الذاكرة البشرية. وقد أعانته موهبته الشعرية في ومضاته المؤثرة على أن يلخص لنا وبشعرية بالغة سيرة حياة خصبة بكل سياقاتها وأسرارها منتقيا منها الأكثر دلالة والأبعد تأثيرا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©