الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زوَّارُ الليل

زوَّارُ الليل
2 مارس 2011 18:40
خروج: أُخرِج الرجل من الحي عارياً، وعاد إليه بعد مدة مرتدياً حُلة الجنون. حدث ذلك قُبيل عيد الأضحى بأيام قلائل، وثمة أربع روايات تحكي كيفية خروج الرجل من الحي، بيد أنها لا توضح لماذا حدث ذلك، فالأسباب، أنا وحدي من يعرفها، ورغم تباين تلك الروايات إلا أن الذين حكوها أجمعوا على شيئين: وقت الخروج، والريبة التي صاحبت تنفيذه من قِبل أشخاص لا علاقة لهم بالحي. تفاصيل الخروج جاره من الناحية الشرقية، حينما روى ملابسات الاختفاء، قال إنه سمع صوت عربة تقف بالقرب من باب الرجل، وبعد لحظات سمع طرقات عنيفة تتهاوى على الباب ـ لم يذكر أن ثمة من فتحه ـ ولكن بعد لحظات قليلة تناهى إلى سمعه ما يشبه العراك داخل الغرفة المتاخمة للحائط الذي يفصل بين منزله وبيت جاره، قال الجار إن الأصوات احتدت وارتفعت نبراتها، بعضها كان يهدد ويتوعد، وصوت واحد مكتوم كان يأتي كأنما مصدره بئر عميقة، لا يُسمع منه سوى آهات وأنين متقطع، وعندما انتقلت الجلبة إلى فناء الدار، قرر الجار استجلاء الأمر، فخرج من منزله إلى الشارع، ولكن العربة كانت قد غادرت مسرعة وفي جوفها الرجل. خفير البقالة عند ناصية الشارع المؤدي إلى المنزل المعني، قال انه كان يتوضأ لصلاة الصبح حين مرت ذات العربة من أمامه، وخفَت صوت محركها عندما اقتربت من بيت الرجل حتى وقفت عند المدخل، قال انه لم يعر الأمر انتباهاً فمضى إلى المسجد لأداء صلاة الصبح. بائعة الشاي التي تتخذ من أمام بيتها ـ الواقع عند المدخل الشرقي للحي وبالقرب من محطة المواصلات ـ مكاناً لمزاولة نشاطها في بيع الشاي، ذكرت أن عربة تصميمها يشبه (صابون لوكس)، توقفت في وسط الشارع بمحاذاتها، وكانت تحمل أربعة رجال، تبدو عليهم علامات الدعة والحبور، أعمارهم متقاربة، يرتدون زياً موحداً قماشه بلون الرماد، أحدهم أمرها بالدخول إلى المنزل حتى تشرق الشمس، وأردف قوله بجُمل لم تفقه منها شيئا كما ذكرت لزبائنها بعد ذلك. قالت إن الرجال مضوا بعربتهم وتوغلوا في داخل الحي. كنت عائداً من وردية الليل بمصنع الأجبان، منهك وتعِب من جراء العمل الشاق في المصنع، يشغل تفكيري كيفية توفير مستلزمات العيد الذي على الأبواب، وفجأة استحضرت ذاكرتي ما دار في اجتماع أهل الحي الذي عقد قبل يومين، ونوقشت فيه العديد من المواضيع التي تهم السكان، وكان أكثر المواضيع إثارة، هو كيفية الاستفادة من جلود الأضاحي التي سيذبحها أهالي الحي أيام عيد الأضحية. تذكرت ما قاله الأستاذ جابر في هذا الصدد، وعند هذه النقطة من التفكير، انتبهت للعربة التي تقف أمام بابه في مثل هذا الوقت من الصباح، وقبل أن استجمع شتات أفكاري الشاردة، حدث ما جعلني أقف متسمراً في مكاني على الأرض مثل عامود الإنارة، ما رأيته شل تفكيري وقدرتي على الاستيعاب. كان النهار على وشك الإفصاح عن تفاصيله، فالطيور بدأت تغادر أعشاشها في رحلتها الأبدية نحو الرزق، والديوك تتبادل الصياح من أمكنة متباعدة في الحي كأنما تعلن عن أهمية وجودها. رأيت في ذلك الوقت كائنا آدمياً يخرج على ظهره من منزل الأستاذ جابر ويداه ممسكتان بقدمين. القدمان كانتا تنتفضان بقوة في محاولة للفكاك من تلك القبضة القاهرة. واكتمل المشهد بخروج كامل الجسد ـ عارياً إلا من الصراخ والشتم ـ وثمة كائن آخر ممسكاً بيدَي الجسد العاري يبدأ في الظهور، ثم رأيت الكائنين يقذفان الرجل في جوف العربة التي تحركت بسرعة بعد أن لحق بها ثالث خرج من المنزل يحمل رزمة أوراق. لم استوعب ما الذي حدث بالتحديد، فالأمر تم بسرعة مباغتة، بدا لي كأنه مشهد من فيلم درامي فاتني بعض أحداثه. تابعت العربة حتى اختفت عن ناظري، وحين اتخذ نظري مساره العكسي في رحلة الرجوع إليّ، اصطدم بجار أستاذ جابر الخارج لتوه من منزله، فاتجهت صوبه. في تلك الأثناء، كلانا لم يفهم ما الذي جرى بالضبط، ولماذا جرى، ولكني عند أول يوم من أيام عيد الأضحية من ذلك العام وأيامه التالية، وضحت لي المسألة. أسباب الخروج بعد أن أدى سكان الحي صلاة العيد وعادوا إلى منازلهم، تفاجأوا بعد حين بانتشار العسس في الطرقات والأزقة بصحبة بعض الأفراد الذين يرتدون حُللا مميزة، أشخاص مريبون، لا ينتمون للحي. في البدء كانوا يجوبون الطرقات من أقصاها إلى أقصاها، ثم صاروا يطرقون الأبواب ويسألون عن جلود الأضاحي، كانوا كلما تسلموا جلداَ، كبروا الله. كانوا يكبرون الله عند الجلود. سألني ابني: لماذا يصيحون هكذا. لم يتركوا لي خياراً منطقياً أُقنع به الولد غير الصمت. كرر سؤاله مرة أخرى ولما لم أجبه بادر بتفسير الأمر لوحده، قال: إنهم يخافون من الجلد لذلك يستنجدون بالإله! اتخذوا من مدرسة الحي مكاناً لتجميع الجلود، هي ذات المدرسة التي كان يعمل فيها الأستاذ جابر معلماً، والتي اقترح دعمها ـ يوم الاجتماع ـ من خلال التبرع بجلود الأضاحي ثم بيعها، لتكملة السور الغربي الذي سقط إبان فصل الأمطار. في ذلك اليوم وافق الجميع على الاقتراح إلا شخص واحد. هو من سكان الحي الجدد، لا أحد يدري من أين أتى، ماذا يفعل، وأين يعمل، الجميع يراه كل يوم إما نازلاً من عربته أو راكباً. كان لا يختلط بالناس كبقية أفراد الحي. اقترح الساكن الجديد يوم الاجتماع أن تذهب جلود الأضاحي إلى (الإخوة) في مناطق الحرب، وان يتبرع كل فرد بجلد أضحيته لوجه الله تعالى. سرت همهمات بين الحضور، قطعها أستاذ جابر بأن يُخضع الأمر للتصويت على الاقتراحين، وافق الحضور على ذلك. وكان أن صوت ثلثا الحاضرين على اقتراح أستاذ جابر الذي اختفى في ظرف يومين من ذلك الاجتماع. بعد أشهر قليلة من اختفائه، استيقظ الجيران وسكان الحي ذات صباح على صوت آليات تدك منزل الرجل، وفي ذات اليوم، قدِمت شاحنات تحمل مواد بناء (طوب، أسمنت، سيخ، رمل وحجارة)، وفي غضون أيام شُيّد في مكان المنزل مسجد فاخر لا يبعد كثيراً عن مسجد الحي القديم. مآلات الخروج ذات صباح، وبينما كان خفير البقالة في طريقه إلى المسجد القديم لأداء صلاة الصبح، لمح شخصاً يحوم حول المسجد الجديد، اعتقد أنه أحد اللصوص، ولكن حينما اقترب الشخص من بؤرة ضوء ساقطة من أحد أعمدة الإنارة، تبين الخفير ملامح الرجل، فاقترب منه يريد تحيته، لكن الرجل نظر إليه طويلاً ثم واصل طوافه حول المسجد، تحوقل الخفير واستغفر ثم مضى في طريقه إلى مسجد الحي القديم، تاركاً أستاذ جابر طائفاً حول... بيت الله. * قاص من السودان
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©