الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من «ربيع» أبيض إلى «ربيع» أسود

من «ربيع» أبيض إلى «ربيع» أسود
18 مايو 2016 23:01
ملف من إعداد وتنسيق ــ نبيل سليمان يتعذر في مثل هذا الملف إيفاء الرقة حقها من البحث والضوء.. فمهما يكتب المرء سيظل هناك في تفاصيل التفاصيل، ما هو ثاوٍ وناءٍ وصعب الالتقاط، هل يكفي، لوصف مدينة مثل الرقة بكل ما تنطوي عليه ذاكرتها من حضور تاريخي وحضاري وثقافي، أن يستعرض المرء سيرتها عبر التاريخ؟ هل يفيها حقها القول أنها كانت مركزاً للنشاط والإبداع والفاعلية الثقافية والفكرية؟ هل يمكن لسردٍ ساخنٍ، خارج من قلب لحظة قاتمة، سوداء، ترزح تحت وطأتها المدينة، أن يرسم ملامحها؟ في هذا الملف الذي أعدّه لنا الزميل نبيل سليمان شيء من هذا كله.. وفيه أيضاً تلك الزفرة الحارقة اللامتناهية لما تعانيه الرقة، البالغة في الرقة، القابضة على جمالها بكل ما في قلبها من قوة حضارية، وبكل ما في روحها من صلابة إنسانية وإبداعية، وبكل ما في وعيها من قدرة على التشبث بالباقي الذي لا يزول... ستخرج من زلزالها الرقة، بهية كما كانت دائماً، قادرة على أن تقول للعالم ما ينبغي أن تقوله، وأن تعيد صورتها، وتستعيدها، من السواد... ستنهض كالفينيق عفيّةً وجميلة... أجمل من فضاءاتنا التي خصصناها لها في «الاتحاد الثقافي» من الصفحات (8-12). (1) تقفين الآن في ساحة الدلّة، والساحة تضيق بمن احتشدوا فيها، لكأن كل من في الرقة حضر ليشهد ما لايصدق: تمثال الرئيس المتعالي بعباءته المذهبة، الشوكة الحديدية توازي رأس التمثال ثم تهوي، تنكتم الأنفاس، الشوكة تخبط على كتف التمثال فيترنح إلى أن يسقط، البلاط يرتج مثل الصدور والأصوات والأكف. قبل ذلك بأيام، وربما بشهور، كنت أنت تلتحف الظلام مع من يتقدمك ومن يلحق بكما، واحد يكتب على جدار محطة القطار: الشعب يريد، اثنان يعلقان اللافتة في دوار النعيم، وآخرون يلصقون الملصقات على أبواب المحلات المغلقة في شارع المنصور. لماذا الرقة نائمة بينما البلاد تتزلزل؟ من مظاهرة صغيرة من جامع الفردوس تأتي بجواب يكذب النوم. ومن المظاهرة – الاحتفالية المسائية الأولى تأتين بجواب. وأنت وهي وهم وهنّ تردون السؤال ملء مظاهرة مقبرة حطين أو الجنازة التي شيعت الشهيد الأول، أو تردون السؤال بالمعسكر الذي ضاق بالنازحين من حلب وحماة ودير الزور إلى الرقة الآمنة. (2) في السبت الأول أو الاثنين الأول من سنة 2013، ومن الشرفة العالية، تداهم نظراتكَ سيارات الرايات السوداء التي تملأ دوار الدلّة. وأنتِ من نافذة المطبخ ترين المسلحين السود يملؤون ساحة الساعة. وأنت تلجأ إلى بيتها فراراً من المعركة الناشبة حول أحد المقرات الأمنية. وأنت إلى من تلجئين فراراً من هؤلاء الذين بدؤوا بتحريم الرسم على الجدار، أو بقطع يد ابن عمك الذي لم ينبت شارباه بعد لأنه سرق.. سرق ماذا؟ وأنت وهي وهم وهن إلى من ستلجؤون فراراً من قصف الطائرات لحي البياطرة أو لمنطقة الملاهي؟ بل فراراً من هؤلاء الذين أغلقوا الجامعة لأن الطلاب والطالبات لايكتفون بالاختلاط فقط، بل يحتجون على شرطة (الحسبة) التي سحلت أختك: لماذا؟ لأن نقابها ليس ملتزماً 100% بل 99% فقط. هكذا تنظمون حملة (اخرجوا من الرقة) في السنة التالية. وبعدما تصبح الرقة عاصمة الخلافة الداعشية، ستنظمون حملة (طهروا الرقة من عصابة البغدادي). وقبل ذلك ستكون خدمات الإنترنيت والموبايل التركية قد أنعمت عليكم، مثلها مثل رواتب الموظفين التي لا تزال تصل من دمشق، لكن صار على أحدكم أن يذهب إلى دير الزور كي يقبض راتبه وربما راتب زوجته، وعلى إحداكن أن تذهب إلى الحسكة لتقبض راتبها وراتب ابنها الذي استدعي إلى الخدمة الاحتياطية في الجيش. أما أخوها الذي لم يحمل بعد دفتر العسكرية، لأن شهراً واحداً ما زال يفصله عن الثامنة عشرة، فقد أسرع إلى واحد من معسكرات الرايات السوداء متطوعاً من أجل خمسمائة دولار، بينما يقبض صنوه التونسي أو الليبي أو الفرنسي أو الشيشاني ضعف ذلك أو ضعفيه. (3) وفي غمضة عين ستتزلزل الرقة ثانية جراء الصراع بين الرايات السوداء، إلى أن تنفرد داعش بالرقة، وتسرع إلى إعلان دولتها في سوريا والعراق. حسناً. أنت تهتفين في الجمع الصغير في شارع تل أبيض: (الرقة ما خذلت حدْ/‏‏ ثرنا ومن الله المدد). وأنت تحمل روحك على كفك وتهتف في جمع صغير في شارع القوتلي: (الرقة حرة حرة/‏‏ وداعش يطلع بره). لكن داعش سيطلق شرطة توبة المعلمين كي يتبعوا دورات شرعية، وإلا عوملوا كمرتدين. وأنت ترجفين هلعاً مما يتعلمه ابنك (11 سنة) من القتال. وأنت ترجف هلعاً لأن شرطة داعش منعت البيع على العربات في الشوارع والساحات: مابدنا بوعزيزي رقاوي. ثم يأتي نبأ (هوتة) سلوك: المنخفض الذي كان متنزهاً سياحياً على مسافة 65 كلم شمال الرقة، والحفرة الخرافية التي بلا قرار، حيث سترمي داعش بجثث أعدائها، وقد ترمي بهم أحياء، حتى إذا ضاقت الحفرة بمن فيها، انقضّت الكواسر على اللحم الميت أو الحي. وقبل ذلك أو بعده – سيّان – سيكون أحدٌ ما قد اقتادك إلى دوار الحرية بعدما نادى المنادي كي يهرع الذين سيتفرجون على قطع رأسك أو رأسها: سيان. (4) ذات ربيع كان القوم يهرعون إلى البادية: رحلة البر. وذات صيف كان الفرات يشهد المهرجان: نساء على الجسر العتيق أو على الضفة، نثار من جزات الصوف وأكواخ القصب وقطعان الغنم وعرائس الذرة، وصبيان يتقافزون، ودوارات وطمي وقفف العجور واللوبياء والطرفاء وقامات شجر الغَرَب، والسمك ملء الفرات: المشط الفراتي والمشط البحري والفرخ والحبار والسلوري و.. وذات ربيع يفيض الفرات حتى يكتب عبدالسلام العجيلي قصة (النهر سلطان). وذات صيف ينهض سد الفرات وتغمر بحيرته الأمداء، فيكتب العجيلي أيضاً روايته (المغمورون)، ثم... ثم يتبدد الزمان، فلا يبقى في الربع أثر من عود الهوى أو الحرمل أو الشيخ أو الزلّ... ولا يبقى في حديقة الحيوان نعامة ولا ثعلب ولا قرد ولا غزال ولا تمساح... ولا يزداد الزلزال إلا زلزلة، والعالم يصير ليلاً، وسيزداد ليل العالم تليّلاً إلى أن تزلزل عنقاء الرقة زلزالها. من أعماق التاريخ إلى داعش إنها الرقة: الأرض الملساء التي يغمرها الماء، ثم ينحسر عنها. ولكن أليست هي (نقفوريون) التي بناها سلوقوس نيكاتور الأول، مؤسس الدولة السلوقية وأحد قواد الإسكندر المقدوني، في القرن الثالث قبل الميلاد، إلى جانب تل البيعة؟ إذن هي التي كانت بين الألفين الثاني والثالث قبل الميلاد مملكة (توتول) التي قامت على تل البيعة – والبيعة سوف تعني الكنيسة – في موقع الرقة الحالي، وازدهرت إلى أن دمرها حمورابي عام 1750 ق.م. بل الرقة هي تلك التي سماها الإمبراطور الروماني غالينوس: كالينيكوس، أي: الرقة السمراء. وربما يعود الاسم إلى الفيلسوف اليوناني كالينيكوس الذي يُعتقد أنه توفي في الرقة. كانت كالينيكوس (الرقة) عاصمة (ديار مضر)، وهو الاسم الذي عرفت به منطقة الجزيرة السورية التي تشمل محافظتي دير الزور والحسكة. وكان كسرى أنو شروان قد استولى على المنطقة سنة 542م. ووطّن فيها قبائل مضر. الرقة الأموي إزاء اسم الرقة السمراء، كان أيضاً اسم الرقة البيضاء، تيمناً بالقصر الأبيض، أحد القصور التي بناها هارون الرشيد في الرقة التي كانت عاصمته الثانية، وليس فقط مصيفاً له. لكن الرقة قبل ذلك كانت العاصمة الأموية لشرقها الفسيح. فمنها كان هشام بن عبد الملك يدير الجزيرة السورية وأرمينية وأذربيجان. وإليها جرّ من نهر الفرات قناتين (قناة النهي وقناة المري). وعرفت المدينة الصغيرة التي قامت بينهما (واسط الرقة أو رقة واسط)، وكان فيها سوق هشام الكبير. ولم يكن الجسر الذي شيده هشام على نهر الفرات أول جسر للرقة، فمن قبل كان علي بن أبي طالب قد عبر الفرات إلى صفّين بجوار الرقة، على جسر من المراكب شيده الأهلون. وقد ارتبط اسم هشام بلؤلؤة بادية الشام، وهو الاسم الذي عرفت به رصافة هشام التي كانت منتجعه الصيفي على بعد 30 كيلو متراً من الرقة، وإليها كان ينتقل كل صيف من قصر الحير الشرقي على مسافة 75 كلم، وقد شيد فيها قصرين. وكان الآشوريون قد سموها منذ القرن التاسع قبل الميلاد (Rasappa)، وغزاها الإغريق والفرس، ثم ألحقت بمملكة تدمر، وهدمها التتار، وفيها أنقاض كنائس. وتيمناً بها بنى هشام بن عبد الرحمن الداخل الرصافة الأندلسية في ضاحية قرطبة، وجعلها مقره الصيفي. وقد بنت إسبانيا مكانها فندقاً سياحياً سمته باسمها. الرقة العباسية أرسل الخليفة العباسي الأول ابنه سنة 156هـ - 772م إلى الرقة ليبني مدينة منافسة لها على مسافة 2 كلم منها. هكذا جاءت على يد أبي جعفر المنصور مدينة الرافقة غربي الرقة، وعلى شاكلة بغداد، إذ سورها بسور ذي بابين كسور بغداد، اندثر منهما الغربي، ولا يزال الشرقي قائماً، وهو باب بغداد. من بعد توسعت الرافقة حتى احتوت المدينة القديمة (الرقة)، وصار اسم الرافقة للمدينتين. وكان الخليفة الأب قد أرسل الحامية الخراسانية إلى الرقة التي تفاقم غيظها. حتى إذا جاء دور الابن المنصور الذي يحمل اسمه أحد أكبر وأقدم شوارع الرقة، فتح الأسواق بين المدينتين، لعله يمتص غضب الأقدم التي لم تبدل هواها الأموي، بعدما خوى قصر هشام، ولم تعد الخيول الأصلية تتبختر فيها. وحين جاء الوريث – الخليفة الثالث ضاعف من العناية بما بين المدينتين، فعاد للرقة في عهد هارون الرشيد ما كان لها في عهد هشام. وراح هذا الذي ستحمل الرقة اسمه لتصير (محافظة الرشيد)، راح يبني القصور شمالي السور، ويقضي كل صيف في واحد منها تحت الظلال الظليلة التي كانت تظلله من بغداد إلى الرقة. وقد أنشأ الرشيد ميادين لسباق الخيل، وحدائق على ضفتي النهر، وميناء للسفن النهرية، وشق قناة لريّ الأراضي شمال الرقة، وكانت هذه القناة تعرف بنهر الذهب في عهد الرشيد، واليوم اسمها (الحفر). أما قصوره فمنها القصر الأبيض وقصر السلام وقصر هرقلة الذي شُيّد على مسافة 7 كلم من الرقة، احتفالاً بالانتصار على نقفور والسيطرة على مدينة هرقلة. وقد أضاف الخليفة المعتصم إلى ذلك قصراً، لكن بناءه لسامراء أنهى ازدهار الرقة. ولم تكد تنهض إلا في عهد الزنكيين والأيوبيين، لتتراجع من بعد طوال تفتت الخلافة العباسية والحروب الصليبية، وهو ما تتوج باجتياح تيمورلنك لها سنة 773هـ - 1371م. الرقة تصير بدداً.. ولكن إلى حين كانت الغابات تملأ فضاء الرقة في عصرها الذهبي، عصر هارون الرشيد، وفيها تقنص الفهود والنمور والأسود أيضاً. ولئن أقام الرشيد في الرقة فليس فقط ليستجم أو ليدير المعارك مع الروم، بل لتكون الرقة ـ الرافقة عاصمة أخرى له مثل بغداد. لكن الرقة - الرافقة ما لبثت أن انتفضت عندما غادرها هارون الرشيد، وقد خلا له الجو في بغداد من البرامكة. ولم يكن بعد من متسع لتعيش المدينتان معاً، ولم ينفع الجدار الذي شيد بينهما لدرء القتال، فهذا الفضاء ليس له إلا مدينة واحدة هي الرقة، وإن تكن الرافقة صارت إلى حين مركزاً مستقلاً، قل: دويلة، كما الرقة. وحين أغار الصليبيون تراجعت الرقة لتصبح ذيلاً لغريمتها، لكن الدمار لفهما معاً على يد تيمورلنك. وكانت النذر قد تواترت منذ سقطت بغداد أمامه. هكذا لم يعد ثمة سوى سهول السوس والأشجار التي تتراجع، والقفر الذي يتقدم، والبداة العابرين. لم يعد هذا الفضاء موئلاً للمسافرين من شريط الشام البحري إلى ما بين النهرين. لم يعد محطة للقادمين من شريط الفرات أو البليخ أو سواهما. لقد تهدم السور الذي كان البيزنطيون والفرس يتبادلون بين يديه الهزيمة والنصر، والسور العباسي ما عاد سوراً، فصارت الرقة تلحق مرة بأورفة، ومرة بحلب، ومرة بدير الزور، إذ ما من والٍ يقبل أن يقيم في هذا اليباب. عبر ذلك لم تكن اندفاعات القبائل وسائر عموم الغزاة من الحضر، تنقطع عن المكان. وكل اندفاعة تضطر من يكون أمامها إلى أن يغادر الخيمة إلى الكوخ، والرمح إلى المجرفة، والبداوة إلى الفلاحة، فتتناثر البقع المأهولة وشبه المأهولة، على شريط النهر. وإذا كانت أسماء القبائل في البداية محدودة وشهيرة، من زبيدة وعنزة وشمّر والعقيدات وطي وسواها، فقد غابت من بعد أسماء الأصول والفروع الأولى، لتفسح لأسماء فروع الفروع، ولِما تمازج منها فبات فرعاً جديداً أو فرعاً لفرع جديد، فيمتلئ المكان بالوِلْدة والعفادلة والبقارة والبوشعبان والخرصة والبوعساف والبوجرادة وسواهم. الرقة في زمن العثمانيين والإنجليز والفرنسيين وفي رواية أن العثمانيين، بعدما تفككت الوحدة السورية المصرية، التي أقامها إبراهيم باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، التفتوا إلى الشريط الفراتي، سعياً إلى توطين البدو فيه. وفي هذه الرواية أيضاً أن الإنجليز بدأوا يلتفتون إلى الشريط الفراتي، سعياً إلى طريق إلى الهند، قبل أن تكون قناة السويس. كانت الخيام والأخصاص المتنازعة تتناثر على ضفتي النهر. وكانت أشجار التوت والطرفاء والجوز والنخيل والكرمة لا تزال تغطي أمداء متفاوتة من الضفتين. أما الإنجليز فكانوا بارعين في التغلغل في ذلك الجمع الصغير من البشر المتنازعين، يدغدغونهم بالهدايا، ويمنون النفس بالفحم الذي ستؤول إليه أشجار الضفتين. لكن قناة السويس بدلت من أماني الإنجليز، وأودت بما كان قد بدأ يتبرعم من أحلام البدو والفلاحين. في ذلك الأوان لم يكن ثمة في هذا الفضاء بيوت. كانت الرقة أكواخاً من عيدان السوس، والقبائل التي تشتو فيها، سرعان ما تشد الرحال حين يتلامح الصيف. كانت حملات السَّوْق العثمانية للرجال إلى الحرب، وغزوات البدو، والضرائب أيضاً، لا تكاد تدع للإنسي من مقام في هذا الفضاء كله، حتى جاء أبو الدستور مدحت باشا، وراح ينثر مخافر (الضبطية) على ضفتي النهر، موزعاً الهبات والألقاب على الشيوخ، وساعياً إلى توطين البشر. ومن أجل التوطين، كان يمنح العفو من حملات السَّوْق ومن الضرائب للقبيلة التي تختار المعمورة على البادية، وكان يمنح الشيخ صكوك التمليك الجماعية للقبيلة كلها، فيغدو الشيخ بين طرفة عين وأخرى واحداً من كبار الملاكين. وفي روايات شتى أن القيامة الجديدة للرقة إنما كانت بمخفر الضبطية، إذ تحلقت حول المخفر أسر قليلة، وتكاثر الوافدون، ومنهم من كانوا من نزاعات العشائر وثارات القبائل، إليها يأوون، ومنهم من كانوا في موسم الفيضان الربيعي يأتون، يزرعون الأرض التي ينحسر النهر عنها بالقثاء والبطيخ، وفي الخريف يرحلون، حتى إذا قام المخفر باتوا يقيمون، والرقة مسقط الرأس، باتوا يؤثرون. كانت أعداد قليلة من الجندرمة تراقب عبور النهر وتفض النزاعات. ومن حين إلى حين كانت تلوح بالراية من الكراكول ـ أي: والتي لاتلوح إلا طلباً للنجدة من الكراكولات المجاورة نهاراً، ومثلها الفانوس في الليالي المعتمة أو المقمرة. كان من الناس من يعين رجال السلطان العثماني في مجاهل هذا الفضاء، وأخذوا ينأون عن السور الذي سيتحول إلى مأوى للجن والذئاب. ولا أحد يدري كيف حملت الأسر الأولى المسوّرة للمخفر اسم (الغول)، ولا كيف ظهر الباعة الجوالون. ومن سنة إلى سنة، أخذت تكبر جرأة الناس على الأرض التي يخلفها الفيضان الربيعي، مجللة بالطمي، فيقيمون فيها الأكواخ، يستظلون بالسقوف القشية، يربون الأغنام بخاصة، وينجزون التفاصيل الصغيرة التي لا تفتأ تتوالد كي يعمر المكان إلى أن يودعهم الصيف. بعد أقل من عقدين لم يعد (الكراكول) كافياً، فقامت السرايا. ولأن الصلاة باتت مطلباً ملحاً للمكان، منذ أرسل عمر بن الخطاب عياض بن غنم، فحاصر الرقة ستة أيام قبل أن يفتحها، لذلك أصغى الأهلون إلى الشيخ الحلبي الذي عبر بهم، وأخلص لهم النصح ببناء المسجد. ولأنهم كانوا عاجزين عن ذلك، انتظروا حتى عبر بهم شيخ آخر من بلديات جمال الدين الأفغاني الذي يمم شطر مصر، بينما يمم أفغاني الرقة إلى الباب العالي، بعد أن تزوج أحلى البنات ثمناً مدفوعاً سلفاً لوساطته في إقامة المسجد. ولم يخيب الباب العالي الظن. بالمخفر أولاً، والمسجد ثانياً، ومن بعده من البيوت والأكواخ والخيام، ثالثاً، تجلت القيامة الجديدة للرقة. وكما كان الإنجليز من قبل، ها هم الفرنسيون يحاولون تسيير الملاحة في الفرات بالمراكب البخارية. لكن الفرات لم يعنهم على ذلك، ولم تلبث المحاولة أن توقفت، ليستأنفوها مراراً، حتى بعد أن احتلوا سوريا. ومثل الفرنسيين حاول الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى أن ينقلوا المعدات عبر النهر. وبينما كان ذلك كله يجري، كانت أفواج المهاجرين الجدد تترى: جاء الشاشان والشراكسة، فأعان قدومهم على المجاعة والجفاف الذي فرض على الحكومة العثمانية أن تخفض قيمة العملة: المجيدي والبشليك. جاء الأرمن الفارون من المذابح. جاء البراجكلية، وجاء الأكراد، وجاءت شركة السوس لتشحن عروقه إلى حلب وإلى إسكندرون. ولئن كان هؤلاء المهاجرون قد عبروا الحدود إلى الرقة، فقد كانت أفواج أخرى تفد إليها من أنحاء سورية كلها: البادية تدفع بالسخّانة من السخنة، فورة القطن تجذب أثرياء حلب ودير الزور، سنوات الجفاف تدفع بفقراء (تادف) من شمال حلب مثلما تدفع بفقراء حوران. ومن زمن إلى زمن تتجدد غواية الرقة ويكثر الغاوون، من قبل أن يرحل الأتراك وبعد أن رحل الفرنسيون، قبل أن يأتي جمال عبد الناصر وبعد هزيمة 1967 حين دخلتُ الرقة لأول مرة، لأعمل فيها مدرساً للغة العربية، ولم يكن فيها شارع معبد. كنوز الآثار في الرقة في الزمن الداعشي دمّرت الجرافات أسدين آشوريين عند مدخل حديقة الرشيد. وفي الحديقة بدا تمثال هارون الرشيد بلا ذراع وبنصف رأس وشقفة من الكتف، كأنما يلوّح لتمثال أبي العلاء المعري في مدينته معرة النعمان، أو لتمثال محمد الفراتي في دير الزور، أو لتمثالي أم كلثوم وطه حسين في مصر أو... ومن الأصداء الداعشية في الرقة أن تونسياً من أمراء داعش هو من يتابع التنقيب عن الآثار في تل البيعة (توتول) بأجهزة متطورة. ومن الأصداء أيضاً أن داعش شرّع لمن يشاء أن ينقب عن الآثار مقابل الخمس. وقد فجّر داعش ضريح عمار بن ياسر الذي كانت إيران قد مولت تشييده كصرح باهر. كما فجّر داعش موقع الشيخ حسن الأثري الواقع على الضفة اليسرى لنهر البليخ على مسافة 50 كلم شمال الرقة، وليس سراً نشاط تهريب الآثار من الرقة وجوارها، وبخاصة عبر معبر تل أبيض إلى تركيا. يتوسط مدينة الرقة متحفها في بداية شارع المنصور، وقد كان هو السرايا الحكومية في زمن الاستعمار الفرنسي. وفي الطابق الأرضي من هذا المتحف الذي انطلق العام 1961 لوحة فسيفسائية عثر عليها في حويجة حلاوة. وقد خصص قسم من المتحف للتقاليد الشعبية. وفي الرقة أيضاً دار التراث والتقاليد الشعبية، حيث تشاهد صنوف الأسلحة القديمة والرحى والربعة البدوية. ومن العصر الأيوبي ثمة قصر البنات – أو قصر العذارى، ومن قبله (القرن الثامن الميلادي) ثمة الجامع الكبير. وتحفّ المواقع الأثرية بالرقة، مثل تل حمام التركمان على مسافة 80 كلم شمالاً، ولعل تل مريبط أن يكون من أهم وأعرق الكنوز الآثارية في الرقة وسواها، إذ بنى الإنسان فيه أول بيت عام 8300 قبل الميلاد، ويقع على يسار نهر الفرات مقابل مسكنة القديمة التي كانت تعرف باسم بالس. وقد غمرت مياه سد الفرات هذا الموقع، كما غمرت موقع أبو هريرة الذي يقع جنوب مريبط على مسافة 40 كلم. وفي بحيرة السد تنهض قلعة جعبر التي صارت جزيرة منذ العام 1974. وتنسب هذه القلعة إلى جعبر القشيري. ويقال إن القلعة تلت قلعةً أنشأها قبل الإسلام دوسر غلام النعمان بن المنذر ملك الحيرة. وقد جعلت جبهة النصرة من قلعة جعبر واحداً من مقراتها بعدما طردتها داعش من الرقة، ثم طردتها من القلعة وحوّلتها إلى مقر لها. وكان متحف القلعة قد نهب العام 2012، وفي محتوياته الثمينة تماثيل لعشتار. وهكذا كذّبت داعش وأخواتها الخرافة التي كانت تحمي الآثار في الرقة، وخلاصتها أن زوجة ملك الجان تسكن القلاع الخاوية، وقد تظهر في هيئة عنزة أو قطة سوداء أو امرأة تبيع غزل البنات، وتخطف من يدخل قصرها. وبفضل الخرافة تحاشى لصوص القلاع والآثار، إلى أن حل الزمن الداعشي. شموس من الرقة البتاني أبو عبدالله محمد بن جابر بن سنان الرقي الحراني، نسبة إلى الرقة وحران. وبتّان من نواحي حران على ضفاف نهر البليخ. ولد سنة 858 وتوفي سنة 929م. وهو عالم الرياضيات والفلك الذي سار لقبه: بطليموس العرب. وقد أنشأ في الرقة مرصداً فلكياً عرف باسم مرصد البتاني، واعترافاً بمكانته أُطلق اسمه على إحدى فوهات القمر في المنطقة المركزية المواجهة للأرض. من كتبه (زيج الصابئ) الذي ظل يُدرس في مراكز العلم الأوروبية عشرة قرون. وله (معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك) و(تعديل الكواكب) و(شرح أربع مقالات) لبطليموس. ثابت بن قره الحراني الصابئي عالم الرياضيات والطبيعة والفلسفة والطب والفلك والموسيقى. عاش بين 827- 900م. وهو خال البتاني وأستاذه. تأثر بأفلاطون وسقراط وإقليدس وجالينوس، وقال بالحرية العقلية، وكان يجيد السريانية، وعمل في الترجمة، وأسس في الرقة ما يشبه المعهد العالي لتدريس الفلسفة والطب والفلك. وكان بين تلامذته المسيحي واليهودي والحراني، وهو مؤسس علم الهندسة التحليلية، ومكتشف علم التفاضل والتكامل، ومن كتبه (البصر والبصيرة). أليس من العجب العُجاب أن يكون داعش في الرقة وريث البتّاني وثابت بن قرة؟!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©