الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أيقونة الإبداع

أيقونة الإبداع
18 مايو 2016 23:03
لعله ليس من المبالغة أن يذهب المرء إلى أن الحياة الثقافية في مدينة الرقة كانت تضاهي نظيرتها في العاصمة دمشق أو في حلب: غزارة وتميزاً. ويتعين ذلك بالضبط في العقد الأول من هذا القرن، حيث يحار المرء من أين يبدأ. فعلى المستوى المحلي كانت تتبارى الجوائز في تنشيط الإبداعات الشابة، من جائزة ربيعة الرقي للشعر والقصة، إلى جائزة عبد الحميد الكاتب للخط العربي، إلى جائزة خليل جاسم الحميدي للقصة القصيرة، إلى جائزة البتّاني للقصة القصيرة، إلى جائزة الإبداع والوفاء، وكذلك جائزة عبد السلام العجيلي للقصة القصيرة في مدينة الطبقة، وجائزة ثابت بن قرة الحراني للشعر والقصة في مدينة تل أبيض. ومن المفكرين والباحثين الذين ساهموا في مؤتمرات وندوات الرقة: طيب تيزيني وحسن حنفي وأحمد برقاوي ويوسف سلامة وأبو يعرب المرزوقي وعمر عبد العزيز والمنصف المرزوقي الذي صار الرئيس التونسي... أما الشعراء الذين أحيوا دورات مهرجان الشعر فمنهم قاسم حداد وحمدة خميس وسعدي يوسف وأحمد الشهاوي ومحمد عفيفي مطر وميسون صقر وزينب الأعوج وعبد المنعم رمضان وحسن طلب وبروين حبيب وأدونيس وعناية جابر ونزيه أبو عفش وجميلة الماجري و... ورافقت دورات مهرجان الشعر جلسات نقدية، منها ما كان حول (الشعر المعاصر ومسؤولية التنوير) في الدورة الخامسة (نيسان – إبريل 2010). ومما لا ينسى أيضاً أن شعراً باللغة الكردية قد قُدم في مهرجان ربيعة الرقي سنة 2012. إلى جانب ذلك كان يقام مهرجان المسرح الدولي في الشهر العاشر من كل عام، لتشهد المدينة النائية الصغيرة عروضاً مسرحية ولجان تحكيم وجوائز وتكريماً لممثلين وممثلات منهم أسعد فضة ومنى واصف والراحل الكبير نضال سيجري وغيرهم... مهرجان العجيلي للرواية العربية في رأس هذا الدفق الثقافي لمدينة الرقة كان مهرجان عبد السلام العجيلي للرواية العربية، والذي انطلق بين 4 و6 كانون الأول – ديسمبر سنة 2005. وقد بدأت حكايته في صيف السنة نفسها، عندما شاركتُ في مهرجان للقصة القصيرة في مدينة الطبقة. وعلى مشهد من سد الفرات أثار ذلك المهرجان حماستي وغيرتي، فناديت بمهرجان للرواية في الرقة، وتلقف النداء مدير الثقافة والناشط الثقافي الاستثنائي الذي عرفه وشهد له مئات المبدعين العرب: حمود الموسى. بسرعة ضوئية وتفانٍ جرى الإعداد للمهرجان الذي سمي باسم شيخ القصة القصيرة العربية: عبد السلام العجيلي. وقد جاء المهرجان منذ دورته الأولى مضاهياً لأي من مهرجانات الرواية التي شهدتُها في بلاد العرب، وأخصّ بالذكر أكبرها: مهرجان القاهرة للإبداع الروائي. وسوف تتوالى الشهادات المماثلة للروائيين والنقاد العرب من دورة إلى دورة لمهرجان العجيلي. وقد وجّه هذا الذي لقبه المهرجان بـ (أيقونة الرقة) رسالة إلى المشاركين في الدورة الأولى تذكر برسالة نجيب محفوظ التي وجهها إلى الدورة الأولى لمهرجان القاهرة للإبداع الروائي، سوى أن محفوظ عاش من بعد سنوات، أما العجيلي فقد رحل بعد شهور، ومما جاء في رسالته: «أيها الأحبة والمحبون: أعتز بهذه المناسبة، ولكم هو جميل أن أكون مثالاً للإنجاز والمنجز الفكري والأدبي، وبين أهلي، وأن يتنادى المحبون من كل حدب وصوب، وكأنني بالرقة تزحف إلى كل مدينة جاؤوا منها». تواصلت دورات المهرجان بانتظام حتى السادسة التي انعقدت من 17 إلى 20 ديسمبر كانون الأول 2010، ثم كان ما كان، ولم يكف خلية النحل الرقاوية الثقافية، من بعد، ما فعلت بها داعش وأخواتها، حتى جاء طيران التحالف الدولي بالطامة. وقد شارك في الدورة الأخيرة للمهرجان: أحمد المديني (المغرب) والحبيب السالمي (تونس) وعلي بدر (العراق) وجمال ناجي (الأردن) وهالة البدري (مصر) و.. كما شارك أدباء أتراك في سائر دورات المهرجان، منهم في دورته الأخيرة: سحر أتش أيوض التي تعلقت مداخلتها بمسألة الشرق والغرب في الرواية التركية. لكل دورة من المهرجان كان موضوعها الرئيس. وفي كل دورة قدم عدد من الروائيين والروائيات شهادات. فمن خصوصية الرواية العربية إلى الفنون والأساطير فيها إلى جمالياتها إلى الرواية والنقد... تنوعت الموضوعات كما شاركت في الدورة الرابعة تولاي أكيون التركية التي تعلق بحثها بمنعكسات العولمة في الأدب التركي، وكذلك: زكي طومباق التركي الذي تعلق موضوعه بالرواية المؤامراتية التركية. وكما في كل دورة، نظمت رحلة للمشاركين إلى مدينة الطبقة وسد الفرات وقلعة جعبر والرصافة. فرقة الرقة للفنون الشعبية في كل دورة من دورات مهرجان الشعر ومهرجان المسرح ومهرجان الرواية، كان يصاحب المهرجان معرض للكتاب ومعرض للفنون التشكيلية. وفي الافتتاح تقدم فرقة الرقة للفنون الشعبية سحرها. وقد شهدتُ تأسيس هذه الفرقة في الرقة عام 1969 من عشرين راقصاً وراقصة، في فضاء تشتبك فيه ظلال البداوة مع المحافظة مع التوق الحداثي. وكانت المشاركة الأولى لهذه الفرقة التي قادها منذ التأسيس الفنان إسماعيل العجيلي، في الجارة مدينة دير الزور عام 1971. وعنيت الفرقة في البداية بعرض الأعمال التراثية كلوحات راقصة. لكن ذلك تطور في ثمانينات القرن الماضي إلى عروض مسرحية راقصة. وقد قال الفنان صباح فخري إن هذه الفرقة قد «استطاعتْ أن تتميز بحق عن كثير من الفرق العربية والعالمية، إذ حققت نجاحات كبيرة وكثيرة. فرقة الرقة علامة مميزة في الفن العربي». أما الشاعر اللبناني طلال حيدر الذي غنت له فيروز ومرسيل خليفة ووديع الصافي ونجوى كرم... فقد قال في الرقة وفرقتها: أحلى من الركوة على منقل عرب أحلى من الفنجان حلوة متل عبي القصب خيط القصب تعبان إنت الرقة والذهب إنت منهل الظميان لقد تعاقب على هذه الفرقة أربعة أجيال من الراقصين والراقصات، بقيادة إسماعيل العجيلي، إلى أن رفرفت الرايات السود في الرقة، وبدأ التضييق على الفن والثقافة، حتى توقفت الفرقة ونجا أعضاؤها برؤوسهم إذ توزعتهم المدن السورية والمنافي. وكانت الفرقة خلال أربعة عقود قد شاركت في مهرجان جرش في الأردن 1975 ومهرجان الشباب العالمي في البرتغال 1999 ومهرجان التسوق في دبي خلال سنوات 2002- 2003- 2004، وكذلك في مهرجان قرطاج في تونس 2005 وفي مهرجان مسقط 2006. وقدمت الفرقة عروضاً في لندن وباريس وبرلين والقاهرة والبحرين والجزائر ورومانيا وتركيا. وكان (أيقونة الرقة) عبد السلام العجيلي قد كتب للفرقة خصيصاً عروضها: بداوة، والأصايل عام 1978- الصحراوية 1979- ليل العشاير 1980- عرس الصبايا 1983- صيد الحباري 1984- قصر البنات 1985- برج عليا 1978- عرس الغيوم 1988- حصار الثكنة 1990... ولئن كان في كل ما قدمته هذه الفرقة سحر الفن، فقد تميزت بخاصة عروضها: بانوراما اللالا - بانوراما الجزراوية - بانوراما الفراتية. ومن الأصوات التي صدحت في عروض الفرقة، فنافست نجوم الطرب البدوي بخاصة، والغناء بعامة: خولة حسين الحسن. ومن بديع ما غنّت في عروض الفرقة وخارجها: من فوق جسر الرقة سلّم عليّ بإيده ما قدرت ردّ السلام خافْ يقولون تريده وقد تعسر بعض المفردات أو الصور المتجذرة في الفولكلور المحلي الذي تترجّع فيه الأصداء من شرق سورية وشمالها وجنوبها إلى العراق والأردن والخليج العربي. ففي أغنية رقاوية نقرأ – نسمع: دربكْ عِدِلْ ع الرقه يا مناحر السالوبي يا ريت نيتك خضرا ومحالل وما هو بي أو هذه الأغنية: أبو الخديد الوردتين الّالا يا دهب مشغولْ ما بكْ لولا كَلتلها أروح وياچ قالت لا لا نفسك دنيّهْ وزاد طَبعي أكشرْ الشعر النبطي في الرقة واستطراداً تبتغي الإشارة إلى ما للشعر النبطي من جذر مكين في التراث وفي الوجدان وفي الحاضر، في الرقة. وأشير هنا إلى كتاب موسى الحومد (أحاديث على الهامش في الشعر الشعبي) وإلى الشعراء النبطيين حسين العلي العصمان وأحمد القريط ومحمود الذخيرة ومحمد الذخيرة وعلي الكلاج وخالد الحسن. ومن الروّاد هوذا حمدي العجيلي، وهو عمّ عبد السلام العجيلي، ومن شعره: من غير ريم المها محّدْ ملا عيني الله يذل الذين صاروا ملا عيني النجمة اللي ورا السليق مَلَتْ عيني وهنا نجم السما كله بلا شيّا وهذا أيضاً عبد الله بن خميس الذي يقول في قصيدة (الخوارد): يا غزال جوذري قلبي صويب من طلق عينين تصيب الما يصاب يا عيون صادفتني ع القليب كالرشا بالقرب مفتول الهداب وإن أنسَ فلن أنسى ما سكنني من سحر الشعر النبطي بصوت واحدة من (الحجيات) الصبايا اللواتي كن يصدحن في سوار الرقة، ومنه: من عرق خده لشيل ظماي بالجودي ضلّيت برجوة تِرِفْ لمّن دبل عودي دنياك يا صاحبي حظواك وسعودي كلهن ذلولهم مشتْ وآني حِرجتْ بيّا وكذلك: أمدوّر الخدين بدر المطاليعِ نجمة الثريا بجبينو أظني يا دهر يا خوان مالك روابيعِ ادعيتني ما نام ليلي أغنّي الفن التشكيلي منذ قرابة أربعين عاماً أعلنت أعمال الفنانين الشباب عنايت عطار وعبد الحميد فياض وموفق فرزات ومحمد صفوت نهاراً تشكيلياً رقاوياً سيظل يتقد حتى ترفرف الرايات السوداء في سماء الرقة. ومنذ قام (تجمُّع فناني الرقة) تواصلت المعارض الجمعية والفردية، وتنوعت الرؤى بين الفنانين المقيمين في الرقة من أبناء المحافظات الأخرى، وبين من هم من مدينة الرقة ومحافظتها، كما هو الأمر في ميادين الإبداع الأخرى. وكما كان لتلك الميادين مهرجاناتها وملتقياتها وندواتها ومؤتمراتها، كان للفن التشكيلي. ففي سنة 2008 أقيم الملتقى الدولي الأول بمشاركة خمسة وثمانين فناناً من ألمانيا واليابان وفرنسا وسويسرا وتركيا والمغرب والجزائر... وجاء الملتقى الدولي الثاني سنة 2009 بمشاركة خمسة وستين فناناً، وقد أقيمت فعالياته في قلعة جعبر. وهكذا تتدافع الأسماء من شتّى الأجيال: ياسين الجدوع وطلال معلا ومصطفى صافي وحمزة الحسين وفراس المطر وجورج شمعون وبشير سليم وإبراهيم الموسى ونسرين طعمة وجمال شعيب ومحمد العزو وأمير زينب وأيمن ناصر الذي أسرعت إلى مرسمه الرايات السود فحطمته كما حطمت منحوتاته ومنحوتات سواه في أرجاء الرقة. وأيمن ناصر روائي أيضاً، لاقت روايته (اللحاف) من العنت المجتمعي ما لاقت. وقد ظل هذا الرسام والنحات والروائي مقيماً في الرقة حتى شهور قليلة مضت، خرج بعدها مع أسرته إلى تركيا، ما عدا ابنه حاتم الذي كان معتقلاً عند داعش، وأفرج عنه منتصف شباط – فبراير الماضي. وقد كتب أيمن ناصر لهذا الملف: «أما وقد ازداد القهر والقتل والاعتقال في السنوات الخمس الأخيرة، وتقطعت المدن وتدمرت البيوت في زمن ثورة مسروقة، قصفاً بالصواريخ وبراميل النظام، ومزقت الأجساد واللوحات، ومنعت الكتب وحرقت، وغدت الأمكنة بلا روح، والشوارع بلا بشر تضج بأشباح مقنعين غرباء تنهش عيونهم لحم النساء، تشد وثاقهن بمفاهيم متطرفة وقوانين ضيقة لا إنسانية، حتى غدونا محاصرين بقهر وتهميش من نوع فريد. وعلى الصعيد الشخصي قاموا بتحطيم المرسم ومحتوياته وكافة أعمالي النحتية في أرجاء المدينة إلى أن اعتقلت وجُلدت بتهمة مصور و(صانع أصنام). وبعد الإفراج عني ما عدت أطيق العيش أو التعايش بذلّة في وطن جريح مقطع الأوصال، فقررت النجاة بعائلتي خشية أن أُتهم بالردة أو بصنع اللات والعزّى». أيقونة الرقة... أيقونة الإبداع في مطلع تشرين الأول 1967 قذفتني وظيفة مدرس اللغة العربية إلى الرقة. ووافاني الحظ بالغرفة التي سكنتها سنة بطولها على أمتار من منزل عبد السلام العجيلي الذي تهيّبت لقاءه زمناً. ولد عبد السلام العجيلي – على الأرجح – عام 1918. وقد شارك عمه وهبي العجيلي في حكومة الرقة إبان انسحاب الأتراك منها. وهذا الذي صار طبيباً، ونائباً في البرلمان، وتولى سنة 1962 وزارة الثقافة، ثم جمع إليها وزارتي الإعلام والخارجية معاً، ظل ابن الرقة الوفي، يؤوب إلى عيادته فيها مهما نأى به الترحال أو طال. وقد بدأت حياته الأدبية بنشر قصة (نومان) عام 1936 في مجلة الرسالة المصرية. وفي عام 1948 صدرت مجموعته القصصية الأولى (بنت الساحرة). كما نظم في هذا العام مع عدد من الظرفاء والساخرين (عصبة الساخرين). وعقب قيام إسرائيل تطوع هذا النائب الشاب في جيش الإنقاذ ملبياً نداء فلسطين، ومتح من ذلك قصصاً كثيرة. من مجموعات العجيلي القصصية أذكر ساعة الملازم 1951 – الحب والنفس 1959 –فارس مدينة القنطرة 1971- مجهولة على الطريق 1997- حب أول وحب أخير 2003. ومن روايات العجيلي: باسمة بين الدموع 1959- قلوب على الأسلاك 1974- أرض السياد 2001. أما في المقالة، فقد أصدر كتباً عديدة منها: أحاديث العشيات 1965- السيف والتابوت 1974- في كل واد عصا 1984- خواطر مسافر 1997. وترك العجيلي كتاباً واحداً ضم محاوراته الصحفية، وكتاباً في المراثي، وكتاباً في المقامة، وآخر في الشعر، وبعد كل ذلك كان العجيلي يصر على أنه في الأدب هاوٍ، وليس محترفاً. من بدائع العجيلي ما كتب لفرقة الرقة للفنون الشعبية، وكذلك مساهمته في فن المقامة، ومنها المقامة النهدية التي أرسلها نزار قباني إلى العجيلي من أنقرة، حيث كان يعمل في السفارة السورية. ومما كتب نزار واصفاً لقاءً بإحدى الفاتنات: «ولما هممنا بالتقاط لازورد الشفة، تفلّتت من ذراعنا بخفة، وقالت إنما يؤكل الكرز نتفة نتفة..» ووقع نزار المقامة بقوله «عن أبي الفرج الأصفهاني: أبو النهد الأشقراني». وقد رد العجيلي بالمقامة القنصلية، وسمى فيها نزاراً بصريع الغواني، وكتب أن الرجل قد خان أصحابه في أنقرة، فبدلاً من أن يبحث عن رفات امرئ القيس «فإنه تأبط قيثاره وعوده، وامتطى للغزل قَعوده، وانشغل عن البعثة والسفارة بصبايا الحارة وعشق الجارة». ونظم العجيلي على لسان نزار قباني معرضاً بديوانه الأول (قالت لي السمراء): قالت لي السمراء إنك بارد فأجبتها بل أنت مني أبردُ ترمين بالنعل العتيقة شاعراً يروي حكايات الغرام وينشد تيهي علينا بالصدود فإنني عبد لحسنك والقناصل تشهد. وفي هذه الإشارة الخاطفة إلى العجيلي، لا ينسى المرء هذا الذي قاله منذ عام 1964 في احتفال لرابطة حقوق الإنسان، وهو مما يخاطب يومنا وغدنا، حيث عدّ مفكري السلطات المستبدة مرتزقة فكر، وعلى النقيض منهم يأتي المثقفون المضطهدون، وقال: «إن للموت أشكالاً جسدية وروحية تُسأل عنها المنافي والمعتقلات والمقابر في كل بلد عربي حكمته سلطة مستبدة في يوم من الأيام». شخصيات معاصرة وأبدأ بمن رحلوا منذ حين، وأولهم محمد هيثم الخوجة الذي كان من طلابي في ثانوية الرشيد قبل أكثر من أربعة عقود، وكان يكتب القصة آنئذٍ. وقد اعتقل أثناء دراسته الجامعية، وبعد سنوات أفرج عنه، لكن الموت عاجله بعد أسابيع. وقد صدرت له مجموعة (القحط) القصصية بعد رحيله. وهذا أيضاً الراحل الذي عرف بالغرنوق الدنف – الأمير الشرقي كما كان الشاعر عبد اللطيف خطاب يحب أن يُسمّى. وكان من مؤسسي ملتقى جامعة حلب. وفي الرقة كان عبد اللطيف خطاب يملأ المساءات في مقهى الواحة مع المثقفين. وفي الرقة ترأس أيضاً جمعية العاديات لفترة. وقد اشتهر من قصائده: أفول نجم الديكتاتور، وتاريخ الجمجمة، وموت الشاعر، وطغيان رمل الموت. وبعد ديوانه (زوال أمير شرقي) ترك مخطوطتي (سفر الرمل) و(الغرنوق الدنف). من الأحياء يتصدر ياسين الحاج صالح المشهد الثقافي، ليس في الرقة فقط، بل سورياً وعربياً. بما قدم من تحليل وتنظير في الثقافة والديمقراطية والعلمانية. وقد اعتقل الرجل عام 1980 لمدة ستة عشر عاماً. واشتهر بـ (حكيم الثورة السورية) بعد عام 2011، واضطر إلى التخفي، وتسلل من غوطة دمشق حيث اعتقل المسلحون زوجته الناشطة سميرة خليل، إلى الرقة، وكانت الرايات السود قد اعتقلت شقيقه فراس. ومن الرقة حيث تخفّى أيضاً، تسلل إلى تركيا. وقد حصل ياسين الحاج صالح على جائزة الأمير كلاوس الهولندية الشهيرة. ومن مؤلفاته: (سورية من الظل: نظرات داخل الصندوق الأسود) و(أساطير الآخرين: نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده) و(السير على قدم واحدة) وسيرته في السجن في كتاب (بالخلاص يا شباب). يتعذر في مثل هذا الملف إيفاء الشخصيات المعاصرة في الرقة حقهم، وبخاصة من الأدباء والتشكيليين. ولعل الإشارة إلى قلّة منهم تشفع. وفي المقدمة تأتي الروائية والناقدة شهلا العجيلي التي حفرت في التاريخ لتقع على اللحظة الداعشية في الرقة، قبل أن تقع، وذلك في روايتها (سجاد عجمي). وفي الرواية تلتمع أعمال إبراهيم الخليل وإبراهيم العلوش وماجد رشيد العويد ونجاح إبراهيم، وفي الشعر يزهو اسم إبراهيم الجرادي. أما في الفن التشكيلي فقد سبقت الإشارة إلى كثيرين منهم. ومعذرة ممن فات ذكرهم وذكرهن. في منتصف ليل العالم عزت القمحاوي لم أعرف أنني بعد كل هذه السنوات سأعرف معنى الغربة بسقوط درة الفرات أسيرة في يدي تنظيم همجي تم تصنيعه وتجميعه ليسخر من رقة المدينة ومعنى الألفة الذي كان أبرز ما يواجه ضيفها. تتواتر الأخبار من عاصمة الخلافة الداعشية الساخرة، فأكاد لا أصدق، على الرغم من أن الأخبار تعلمنا الاعتياد، لكنني صدّقت عندما قرأت مؤخرًا التفاصيل اليومية المؤلمة التي رواها الصديق نبيل سليمان مؤخرًا في روايته الجديدة «ليل العالم»، وكأن ابن اللاذقية أحد شهود مأساة الرقة التي قضى فيها سنوات شبابه معلمًا. وحتمًا سينجلي هذا الجنون بصبح، لكن متى؟ لا أحد يعلم، فكلما لاح فجر كاذب نعود لنكتشف أننا لم نزل في منتصف ليل العالم. شتاء العرب القارس من كان يعتقد أنّ الرّقّةَ، هذه المدينةَ الصّغيرة ستكون عاصمةً للدّواعش وسيتّخذونها منطلقًا لغزواتهم للمنطقة العربيّةِ كلِّها من الشّرق إلى الغرب بمساندةٍ خفيّةٍ من القوى الدّوليّةِ الّتي تتحكّم في العالم الآن؟ يقول التّاريخ إنّ أبا جعفر المنصور هو الّذي بناها، لقد ظلّت الرقة مدينةً تاريخيّةً متألّقةً طيلة شموخ الدّولة الإسلاميّة ولم يصبها الوَهنُ إلّا مع العثمانيين الّذين بنوا خلافتَهم طيلة قرونٍ على الأراضي العربيّة، مدنِها وسهولِها وجبالهِا وأنهارِها. لأوّل مرّة أرى نهرَ الفرات، رأيتُه يتدفّق وغمست يدي في مائه، وهو يعبر سهول مدينة الرقّة الّتي يلتقي على تخومها السّوريون والعراقيون، يتعايشون ويتصاهرون رغم الخلافات السّياسيّة الّتي كانت سائدةً بين سوريا والعراق طيلة عقودٍ طويلةٍ. يعيش العرب الآن شتاءَهم القارسَ، ولكن رغم هذا الشّتاء سيظلّ إلى الرقّة عنوانٌ واحد ٌوهو مهرجان الرّواية والفنّ والإبداع أي مهرجان الحياة، ولا بدّ أن يخرج التّاريخ ُ من كبوته. محمّد الباردي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©