السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جاك ريفيت.. شجرة السينما المورقة

جاك ريفيت.. شجرة السينما المورقة
18 مايو 2016 23:07
حسام نور الدين لم يتعلم المخرج السينمائي جاك لويس ريفيت، السينما بأسلوب أكاديمي مُقَولب، لكنه انكب على تعلم أسرار الفن، من خلال رؤية الأفلام في السينماتيك الفرنسية لمؤسسها هنري لانجلوا، وجمعه الشغف بهذا الفن مع رفقاء من شباب جيل الخمسينيات، فكونوا مجلة (كراسات السينما) القَيّمَة، وهكذا صار بطلنا يعيش على الكتابة، ومشاهدة الأفلام، وان تمنى أن يحصل على شهادة عالية في دراسة السينما، ليرضي والده الصيدلي، لكن أساتذة معهد (الايديك – IDHEC) لم يروا في موهبته ما يستحق إلحاقه بهذا المعهد المرموق وقتها. بدأ (جاك)، الذي تُوفي في بداية هذا العام عن 87 سنة، في صنع الأفلام القصيرة، ومنها فيلم (رقصة رباعية) الذي اضطر زميله المخرج (جودار) لسرقة بعض الكتب من مكتبة جَدّهِ النادرة، وبيعها، ليوفر المال اللازم لصنعته، لكن الفيلم لم ينجح في جذب جمهور نادي السينما، وانصرف بعد عشر دقائق!! لأن (جاك) كان مُولَعاً بفكرة ماذا سيحدث، إن لم يحدث شيء، في إطار أربعة أشخاص يجلسون حول طاولة، ينتظرون حدوث شيء، وهو ما يقودنا لفلسفة مسرح العبث في هذه الفترة لصاموئيل بيكيت، يوجين إونسكو، وغيرها من الكتابات الماركسية، التي كَونت الخلفية الفكرية عند (جاك) وزملائه، لاسيما بعد الحروب العالمية الدامية التي هتكت كل القيم الدينية الكنسية لديهم، فلم يعد عندهم يقين ديني يروي الروح المنهكة حول التساؤلات الصعبة عن معنى وحقيقة هذا الوجود، فتبلورت أفكارهم بناء على ذلك السياق الاجتماعي، والثقافي. بعدها عانَى مخرجنا حتى حصل على تمويل لأول أفلامه الطويلة، وظل 3 سنوات لايستطيع أن ينهي فيلمه، لكن بمساعدة فعالة من زملائه، ظهر أخيراً فيلمه الأول (باريس تنتمي لنا- 1960)، وتأكد معها ظهور ما يعرف بالموجة الجديدة. أول أفلامه بكاميرا متحركة حركة بانورامية طويلة سريعة، يفتتح مخرجنا فيلمه، فيستعرض بعض بيوت باريس، ومحطة القطار في إضاءة شبه معتمة، قبل الغروب، ومع موسيقى تصويرية مؤثرة توحي ببُعد نفسي مضطرب، ثم تلف الكاميرا حول أعلى البنايات، والأسطح، لنجد أنفسنا داخل غرفة البطلة الشابة في لقطة واحدة طويلة، ليشي بارتباطها بفضاء هذه المدينة، وعدم انفصالها عنه، ويتطور السرد عبر بحث بطلته عن سبب انتحار (موسيقي إسباني)، عرفت حكايته من أخيها، وأصدقائه، فيتَكشف لها رويداً، وجه المجتمع الباريسي الخفي، مما يجعلها توافق على العمل مع مخرج مسرحي شاب، في مسرحية شكسبير (بركليس.. أمير صُوْر)، في حين يجمع بينها والمخرج على جسر نهر السين مشهد هو مفتاح الفيلم، يستكمل البطلان فيه حوارهما في دفء، يتضافر بعدها مع معلومات مزعجة عن سبب انتحار الموسيقى الإسباني، وعلاقته بالسياسة، ووجود مؤسسة تآمرت على قتله، فتتحرك عيون البطلة مستغربة هذا العالم الشرس، وتشارك المخرج المثالي الحلم في وضع نهاية لفوضى العالم الكريهة، بمثل ما وضع (شكسبير) نهايته المسرحية، فانتصر لشخصياته المناصرة للأخلاق، والفضيلة. الفيلم مثل أفلام الموجة الجديدة، نجد فيه الدراما تبحث عن أفكار، ومشاعر الشخصيات الحائرة، ويتطور معها الخط السردي الحكائي بإيقاع، ولغة سردية مختلفة عن السائد... وقد صور (ريفيت) فيلمه خارج الاستوديوهات، وبماكينة صوت (ناجرا) خفيفة، فأزاح بذلك الكثير من العوائق، التي كانت راسخة في صناعة الأفلام التجارية، وتحرر الفيلم السينمائي من جمالياته المستهلكة، ليرصد ما هو حقيقي، وغير زائف... ويمضي بعدها الفيلم في رحلة السرد مع البطلة (بيتي شنيدر) بين الغرف الضيقة، والممرات الخانقة، بإضاءة خافتة، كأنها أو كأننا في حلم لا فكاك منه، حيث يدور أيضأً في شوارع، ومحال باريس، وسطح مسرح/‏ سارة برنار، وتنفك ألغاز اللعبة، كعادة أفلام المخرج المغرم بتقديم أفلامه بطريقة سرد أقرب إلى لعبة غامضة، ثم نعرف في مشهد النهاية أنه لا توجد مؤسسات محددة تتآمر، بل إن المؤسسات التي تقتل شبابها المعارض، وتجعله يقدم على الانتحار هي: (الشرطة، رأس المال، الأحزاب السياسية،...)، ثم تبدو البطلة وحيدة في النهاية، داخل بيت ريفي على طراز عتيق دراماتيكي، تحيطه أشجار سامقة، تتراكب أغصانها الطويلة فوق بعضها، مع إضاءة طبيعية تنحو الى الظلام، ودرجات من اللون الرمادي، بحساسية عين مدير التصوير الموهوب (شارل بيتش) الذي أعطت لمسات إضاءته للكتل الأمامية في الكادرات، وظلاله الناعمة، رقة حانية تخفف من قتامة الحالة المزاجية للعمل، ولاشك أن هذا العمل البديع تتجسد فيه ملامح أسلوب مُبدعه، في أغلب أفلامه اللاحقة مثل: (الحضور الدرامي للحدائق، والأشجار الضخمة- المرأة ذات النفسية الغامضة- المؤامرات التي تحاك في دراما بريختية- استعمال العدسات العادية بعيداً عن (التليفوتو)، والعدسات العريضة التي تشوه واقع المكان- سرد القصة بعين البطل أوالبطلة،... وهكذا). أهم علاماته السينمائية إذا كانت صحيفة (لوفيجارو) في نَعيها للمخرج، قدمت خمسة أفلام له على أنها أبرز أعماله، وهي فيلمه الأول، و(الراهبة سوزان سيمونين-1966)، و(المشاغبة والجميلة- 1991)، و(عصابة الأربعة- 1989)، و(العذراء جان- 1994)، فإننا نرى أنها قد أغفلت أفلأماً أكثر إبداعا، مثل فيلمه (الحب المجنون- 1969) الذي اعتمد على الارتجال في الأداء التمثيلي، وكتابة السيناريو دون إعداد مسبق، مستفيداً من تجارب المخرج التسجيلي/‏ جان روش، وقد وصل (ريفيت) في التجريب الى مدى كبير في هذا الفيلم، رغم طوله الذي امتد الى 4 ساعات، وهي عادته التي أحيانا يضطر أن يقدم بعدها نسخة مختصرة من أفلامه الطويلة، مثل فيلمه المهم (أوت 1–1970) ومدته 12 ساعة و40 دقيقة بالتمام والكمال!!. وقد نال الجائزة الكبرى في مهرجان كان لفيلمه (المشاغبة الجميلة)، وحاز مع هذا الفيلم شهرة عريضة، بعدما تجاوز عمره الستين!! أما فيلمه الذي بلغ فيه أعلى مستويات التجاوب مع الجمهور والنقاد معاً، فهو.. (سيلين وجولي يذهبان لركوب القارب –1974) حيث قدمه في جو خيالي لطيف، نابعاً من تعلقه بفيلم (أورفيوس- 1946) إخراج أبيه الروحي/‏ جان كوكتو. ولا يفوتنا التوقف عند ثاني أفلامه (الراهبة)، إذ أثار ضجة ضخمة في فرنسا، ومُنع من العرض، بناءً على إصرار من الكنيسة الكاثوليكية، وهو عن واقعة حقيقية سجلها المؤلف الشهير/‏ ديدرو عام 1760 لفتاة تجبرها عائلتها دخول الدير، فتتحول الى راهبة دون إرادتها، وتلقي الاضطهاد من الراهبة المسؤولة عن الدير، وتُعَذَّب البطلة (أنًا كارينا) بوحشية من كل الراهبات، حتى يتم نقلها إلى دير آخر، تَلقى فيه معاملة طيبة من الراهبة الأم، ثم تصدم (البطلة) عندما تكتشف أن الأم الراهبة الرقيقة، تطلبها لممارسة الشذوذ على سريرها، فتهرب بمساعدة راهب الدير، لتكتشف أنه يريدها بدوره لعلاقة آثمة، فتهرب منه أيضاً بعد عناء، ثم تنتحر في بيت دعارة، قبل أن تتحول إلى عاهرة.. والفيلم رغم جسارة موضوعه في كشف كواليس (بعض) الأديرة، لكنه وقع أسيرا للمشاهد الحوارية المُمَسْرحة، فضلاً عن إطالة غير مبررة للجزء الأول من الفيلم. قصة ماري وجوليان أنتج هذا الفيلم العام 2003، وهو يوضح لنا خبايا العملية الإبداعية عند (ريفيت) بسلبياتها وإيجابياتها، فهو يهتم جدا بتصميم لعبته الدرامية، ويؤرقه توضيب إطار الفكرة، والمعاني التي يريد طرحها، لكنه ينشغل قليلاً، أو كثيراً، عن كيفية عرضها على الوجه الذي يجذب المشاهد فنياً للمتابعة، فتبدو الصنعة غالبة على الإحساس. ففي فيلمه هذا يحكي في اطار تخيلي، لكن بمفردات واقعية، عن علاقة رجل بامرأة تعيش معه، ويتعلق بها، ثم يكتشف بعد سلسلة من المواقف المحيرة، إنها ماتت، وأن من تعيش معه هو..شبحها!! لكن المخرج تناول خطوط الدراما تناوُلاً عبُوساً، وليس العبوس والتجهم نقيض الجدية، فيبدو لنا (مع الفارق) مثل حالة الشاعر/‏ أبي تمام بمقدرته العقلية في بناء نظم قصائده الصعبة أو الجافة أحياناً، بعكس الشاعر المطبوع/‏ البُحتري الذي تتدفق الصور الغنائية بسلاسة من قريحته، وتختال اختيالاً بجمالها، فتهز وجدانك، ولاتغادرك.. وهذا ما قد يكون مكمن الخلل الذي يقلل من قيمة بعض (ليس كل بالطبع) أعمال مخرجنا، فمثلاً أخفق هنا في اختياره للممثل (ج. رادسولفيتش) حيث يفتقد مرونة التعبير وخفة الروح. كذلك السيناريو الذي كتبه (باسكال بونيتزر، وكريستين لوران) لم يأبه لخلق تفاصيل إنسانية حيوية في فضاء دراما ممتدة بين جدران البيت الكبير، وبدت المؤثرات الصوتية (عدا مشاهد قليلة) رتيبة مع الوقت، فخسر بُعداً إيحائياً، كان يمكن أن يضيف قدراً من الليونة لدرامية العمل الصارمة، لكن ليس معنى هذا أن الفيلم سيئ، فهناك أداء الممثلة البارعة/‏ إيمانويل بيار (خاصة في الجزء الأخير)، فكل لفتة، ونبرة صوت لها وظيفتها، ودوافعها، وتتلون حسب إحساس الشخصية الدفين، وتأرجحها بين كونها كائناً ميتاً وروحاً تستعيد الحب والحياة، إضافة إلى حركة الكاميرا التي احتوت بمهارة الكثير من مشاهد العمل في لقطة واحدة طويلة أساسية (مشهد الشرفة، مشاهد البطل بمفرده، مشهد عودة البطلة للبيت،...)، فأدخلتنا في علاقة وطيدة مع واقعية المكان، وجو المشهد النفسي، مع استغلاله لعنصر الصمت بين مشاهد العمل، فأكسبه غموضاً، وإثارة لحد ما، تحرضك لكشف أوجه اللعبة المقلقة، دون أن يحتاج إلى الموسيقى التصويرية مطلقاً. ثم.. كان الفيلم الأخير له بعنوان (36 منظر لجوف سان لو - 2009) الذي قدمه في مهرجان (كان)، وعمره حوالي 80 سنة، وظل هو الوحيد تقريباً بين رفقاء الموجة الجديدة، الذي حافظ على إصراره في تقديم فنه بأسلوبه الخاص. وفي النهاية، نجح (جاك ريفيت) عبر رحلة ابداعية امتدت إلى ما يقرب من60 سنة، أن يغرس في حديقة الإبداع السينمائي شجرةً مُورِقَة، تحمل تجاربه المتجددة ومصداقيته، يحن إلى تأملها عشاق السينما في كل مكان، ولزمن طويل قادم. آخر صفحة في 30 يناير من العام الجاري 2016 طوى المخرج الفرنسي جاك ريفيت صفحته في «دفاتر السينما»، حيث بثت وكالات الأنباء خبر وفاته عن 87 عاماً، وكان ريفيت أحد مؤسسي حركة الموجة الجديدة في عالم السينما (نوفيل فاغ) في حقبتي الخمسينيات والستينيات، إلى جانب فرانسوا تروفو وجان- لوك جودار وإريك رومير وكلود شابرول، وهي حركة نبذت قواعد السينما التجارية السائدة مع انتهاجها الاتجاه الذاتي نحو القضايا الاجتماعية. وراكم ريفيت نحو 30 عملاً سينمائياً خلال نصف قرن، كما عُرف بتحليلاته النظرية حول الفن السابع، وكان رئيس تحرير مجلّة «دفاتر السينما» البارزة التي واكبت تحوّلات السينما الفرنسية، ابتداءً من الخمسينيات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©