السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الموسيقى العراقية رافداها الحزن والشجن

11 مايو 2008 00:36
إن خصوصية جغرافية العراق، جعلت من هذا المكان مركزاً للكثير من الحضارات القديمة وملتقى للعديد من الأعراق والأديان· والجغرافية هي تاريخٌ بالضرورة، فقد عرف عراق سومر وبابل وآشور، تراكماً تاريخياً وبشرياً هائلاً ساعد في تكوين منتج مدني وحضاري بالغ الأهمية؛ ولأن الموسيقى هي من أهم الآثار الإنسانية فقد كان تكوينها في العراق بالغ الخصوصية والجمال· إن أقدم قيثارة وجدت في التاريخ هي قيثارة أور، التي وجدت جنوب العراق، كما دلت التنقيبات أن الموسيقى العراقية رافقت الحضارات التي سكنت العراق منذ نشأته، حتى بلغت ذروتها وتنوعها في العصر العباسي، ذروة النهضة الإسلامية في كل نواحي علم الجمال والعلوم، وحظيت الموسيقى بتنوعٍ ثري على يد إبراهيم الموصلي وابن جامع وإسحاق الموصلي وزلزل وغيرهم، بل وحتى أن بعض الخلفاء برع في علوم الموسيقى وبلغ مبلغاً رفيعاً فيها كالخليفة الواثق الذي كان موسيقياً فذاً له نظريات خاصة به؛ حتى أن المصادر التاريخية تفيد أن مجلسه كان أقرب إلى المعهد الموسيقي منه إلى مجلس الخلافة، وقد ورث ابنه هارون الرشيد ومن بعده ابنيه أحمد والمفضل شغفهم بالموسيقى وعلومها· كما أن العصر العباسي شهد أيضاً أول تدوينٍ موسيقي بصيغته التي نعرفها اليوم، فقد ترجم السلم الموسيقي اليوناني وترجمت أيضاً البحوث التي كتبت عن الموسيقى الإغريقية، وأضاف عليها موسيقيو العرب آنذاك الكثير من التحسينات التي أذهلت الإغريقيين أنفسهم واعترفوا بأهميتها لاحقاً، واستطاع الموسيقيون بين القرن التاسع والثالث عشر ميلادي أن ينجزوا أكثر من مئتي مصنفاً في العلوم الموسيقية كان أبرزها كتاب ''الأدوار'' لصفي الدين الحلي الكتاب الذي أشار إليه الباحث الشهير بيتر كروسلي هولاند أنه مرجع استفادت منه الموسيقى الغربية فيما بعد· وكتاب الموسيقى الكبير للفارابي كأول مرجع أكاديمي، ورسالة في خبر تأليف الألحان للكندي كأول كتاب شرح النوتات المتداولة ودوّنها· وفي منتصف القرن العاشر الميلادي دخلت الموسيقى الفارسية والتركية والمغولية إلى الموسيقى العربية فأثرت بها وأثرتها، وابتدأت ضروب الغناء والنغمات تتعدد في بغداد مركز الإشعاع الحضاري آنذاك ومقصد طالبي العلم والفنون· وبتداخل الإثنيات العرقية والدينية، عرب وكرد وتركمان وفرس، والطبيعة الجغرافية، سهول وجبال وصحراء، وبتراكم الفنون والمدنية في العراق، وجدت الموسيقى في بلاد الرافدين أرضاً خصبة لتكون أحد أهم سماته الحضارية· وتطورت الآلات الموسيقية وتنوعت الألحان التي انتقلت بالتراكم الإنساني والتاريخي لتصبح حزينة المقام وشجية لأبعد حد، وقد تكون بداية الحزن في الموسيقى العراقية مع نشأة الموال أيام هارون الرشيد وهو النغم الذي كان ينشده (الموالي) والعبيد في قصر أمير المؤمنين آنذاك معبرين من خلال موسيقاه عن حالتهم الطبقية والاجتماعية المتردية· وبتتالي المآسي التاريخية على العراق وطبيعة الغناء الديني الحزينة (اللطميات والطفيات)، تكرست المقامات الحزينة كجزء لا يتجزأ من ماهية موسيقاه· وغلب البيات واللامي على أنغامه؛ على أنني لا أجد مبرراً لأن يكون حزن الأغنية العراقية سبةً لها، خاصة وأن الكثير من أغاني الفرح والتفاؤل ليست بذي بال موسيقياً!· وتنقسم الموسيقى العراقية بحسب المناطقية، فهنالك الغناء الريفي والغناء البغدادي ويأتي المقام العراقي كنموذج فريد وواضح المعالم للغناء التراثي العراقي وهو نغم يتنقل بين مختلف المقامات الموسيقية كالبيات والراست والصبا والحجاز والديوان والسيكاه والجهاركاه والحسيني· وتاريخ المقام حائر إلى اليوم بين من ينسبه للعصر العباسي ومن ينسبه إلى العصر العثماني، وهو يتألف من عدة مقاطع لا تقبل الزيادة أو النقص أهمها الارتجال الكامل الذي يعتمد على السمع وينطق بالحنجرة وبالتنقل على السلالم الموسيقية بطريقة مضبوطة خالية من النشاز· ولكن تبقى مشكلة ومعضلة الموسيقى العربية كلها التدوين، فللأسف لم يدون هذا الفن· وتكون نصوص المقام العراقي إما من الشعر الفصيح ويستخدم له عادةً الراست والبيات والحجاز والحسيني، أو من الشعر العامي الشعبي وله من المقامات الابراهيمي وحجاز كاركرد والمحمودى والناري شرقي ودوكاه الحديدي والبهرزاوي وغيرها· وهناك مقامات يشترك بها الغناءان وهي مقامات : اللامي والصبا، وكلها مضبوطة بأوزان إيقاعية أساسية تشكل ملمحاً لا يمكن أن يتم المقام العراقي دونه· إن الموسيقى في العراق، والشعر دون أدنى شك، ترافق المواطن العراقي منذ ولادته حتى طقوس وفاته، فتبدأ بالتهوديات العراقية على نغم (المثنوي)، وتهاليل الباعة وتدليلهم على بضائعهم في الأسواق على (الركباني) ويرافق مقام (البنجكاه) من الراست أعمالهم ومهنهم و(الهوسة) لتحميسهم وشد أزرهم· حتى قراءة القرآن في العراق تتميز عن قراءته في مصر والشام فهو يقرأ في العراق عادة على (الطاهر) و(الماهوري) و(خلوتي) و(العشيران)· ولا بد من المرور على جهابذة الموسيقى العراقية الحديثة ممن رفعوا شأنها وأدخلوها قلوبنا وبيوتنا، بدءاً من الملا عثمان الموصلي أستاذ سيد درويش وقراء المقام مثل أحمد زيدان ورشيد القندرجي ومحمد القبانجي ويوسف عمر وناظم الغزالي، والموسيقيين الكبار أمثال جميل بشير وجميل سليم وغانم حداد وسالم حسين وكوكب حمزة وطالب قره غرلي والمغنين الخالدين كفؤاد سالم وياس خضر وسعدون جابر وحميد منصور وسعدي الحلي ورياض أحمد وغيرهم ممن لن يتسع الذكر لهم هنا في هذه العجالة· علينا أن نختتم باعترافٍ مؤلم، وهو أنه لم تأخذ الموسيقى العراقية حقها في الانتشار الذي يتطلب خفةً ـ على ما يبدو ـ تأباها وترفضها موسيقى أرض السواد بشدة!· هاني نديم haninadeem@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©