السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كركلا: الإمارات معجزة الحضور في عالم الأقوياء

كركلا: الإمارات معجزة الحضور في عالم الأقوياء
13 ابريل 2010 20:47
في حضرة العظماء يصير العيش أشهى، تدرك النفوس ذرى سامية من البهاء والنقاء، ويكتسب الكلام نكهة متفردة، نأت عن نيلها الأسماع، ذلك أنهم قلة من بني البشر، كان لوجودهم على هذه الأرض أن جعلها أكثر استجابة لمطامح أهلها، أصدق وداً حيال آمالهم، وأوثق احتضاناً لأمانيهم. العظماء يأبون، بل تأبى الحياة لهم، أن يكونوا مجرد عابرين في سياقها، أو أن يُختزلوا إلى أرقام تُضاف إلى سواها، ويُضاف سواها لها، ليكتمل العدد.. هم محطات شاهقة يقف الزمن أمام أعتابها صاغراً جذلاً متهيباً، يستريح في ظلال شموخهم لبرهة تكفي ملامحه كي تتسم بمسحة الإصرار والعزيمة، قبل أن يمضي بهم ومعهم صوب لقاء يقيني مع أبدية الرسوخ. العظماء شغل الزمن الشاغل.. حكايته التي لا يتعب من تكرارها، أبناؤه النجباء الذين يحلو له أن يباهي العصور بهم، وأن يزيِّن بقسماتهم الموحية جبين الحياة. بعد أوبريت “زايد والحلم” التي أنجزها العام الماضي، حيث عُرضت على خشبة المسرح الوطني في أبوظبي، قبل أن تفرد لها بيروت متسعاً من وجدانها، لتشدَّ الرحال لاحقاً نحو باريس ولندن وعواصم أخرى، لن يسع أي لقاء مع الكوربوجراف العالمي المتألق عبدالحليم كركلا، إلا أن يكون نسجاً متجدداً على منوال العظمة التي تجسدت في شخصية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، وفرصة إضافية للإصغاء إلى ضمير الزمن، بينما هو يروي بشغف مآثر كبير من هذه الأمة، لطالما انقاد له المجد بانسيابية نادرة، ولا يزال يفعل. دورة التاريخ في ستينيات القرن الماضي، وذات ليلة عامرة بالصخب البهي، كان الناس على موعد مع بزوغ فجر راقص يتلألأ بالضوء، سيؤرخ له العارفون لاحقاً كمنصة انطلاق واعدة لكركلا في حرفة استنطاق الأجساد بعدما قصر الكلام عن إدراك مراميه.. رحلة شائقة في دنيا الخلق شهدت الكثير من الإنجازات التي اعترف بها الجميع شرقاً وغرباً، وفي العام 2009 سيقف الرجل على مسرح أبوظبي الوطني، محاطاً بعشرات الممثلين والراقصين، ليتوج مسيرته الإبداعية الرائدة بحكاية زايد وقد اقترن بالحلم فلم يعد التمييز بينهما ممكناً. كان لا بدَّ من الحكاية كي يكمل التاريخ دورته، وكان لا بدَّ للحكاية من مكان وزمان.. وبطل: تقول تفاصيلها أنَّ الكبير بدا كما لو أنه والمجد على موعد، فجاءت سيرته شاهداً على كواكب متقدة تمور في مجرَّة الحياة، مشاعل بشرية تأبى خموداً أو انحساراً، تستلهم نقاء الأمس، تقارع أسئلة اليوم، لتقرع أبواب الغد بثقة من أودع في ذاكرة الأيام رهبة ورجاء، وتروح تثمر في موسم الحصاد البهي عواصف ضوء، وغيوم حلم، وأصبحة مطر مرصع بدهشة الإنجاز. طيف من عل تضيف الحكاية: كان دوماً على عهد يقيني مع الأبد المترامي، على صلة مقيمة مع الألق المتجدد، وعلى حلف راسخ مع الأمل العنيد، سار به الزمان فشيَّد فوق ركام السنين معارج للبقاء، ونثر على أفق اليباس نجوماً وطيوراً وأسحاراً ندية، ثمَّ انكب على صحراء الوجود المقفرة يستنبتها قصائد عشق واحمرار شفق وبشارة غد. مضى الكبير قبل خمسة أعوام، لكن المحتفين بحكايته يجزمون أنهم شاهدوا طيفه يطل عليهم من عليائه عذباً كميلاد الفكرة، مغداقاً كبحر الأماني، شامخاً كأشجار النخيل. هي حكاية كبيرة تليق بكبير، سيظل أحباؤه طويلاً يسيرون ملوكاً على وقع خطاه الواثقة، يسمّونه هو، يصفونه به، يفرحون للقائه بحسرة غيابه، يكرِّمون ذكراه بتوهج حضوره، يستضيفونه في رحاب الكلمة يوم هو قرينها، يعمِّدونه بعرق الناس، كلما انسكب الناس حروفاً في صفحات كتابه، فكان أميناً وكانوا أوفياء وسيظلون يأتون إليه حاملين فرح النهر حين تغمره مياهه، نشوة الأفق لو تعانقه طيوره، وروعة المصباح إذ يفيض عنه النور، يستوحونه وشماً مضيئاً على جبين الوطن الوضاء، إصحاحاً ناصعاً في سجل العاصين على نواميس الوقت، ليخبروه بما كان يعرفه، وينتظره منذ البدء: أيها القادم من البعيد البعيد ها هو العالم قد أتى إليك. السائر فوق الماء خمسة من الأعوام مضت ولا تزال الحكاية جديرة بأن تروى، خليقة بإصغاء ذي سمات خاشعة، حكاية قائد أبحر بأوبته نحو حقهم في الحقيقة وسط لجة من الأمل والمجذاف رؤاه.. علَّمهم كيف يصبون إلى الفرح تذرُّه ريح التجربة على شاطئ المعرفة رملاً من الحكمة العامرة بشوق الغياب إلى الحضور، يمَّم وجوههم صوب الفجر ينتظرونه بنفاذ عشق، يصوغون تباشيره حزم ضوء وبريق صحوة واسوداد سطور.. واثقاً أخذ بأيديهم نحو الغد، وفي القلوب حبٌّ وفي الأكف عزم ودفء في العيون، مؤمناً مشى فوق ماء العزيمة، ومشوا معه يعاقرون اشتعالات الوعي كيما يصوغون نشيد القيامة وأغاني السفر. اصطفاه الأهل فتربع الكبير وسط القلوب الكبيرة كشراع يلاقي قدره في عناق الريح، ولما اطمأن إلى ظلال المجد تخيِّم فوق الوطن الذي جبل ترابه بيديه المعروقتين، رحل زايد شامخاً نحو قمة الحلم... هكذا تفعل النسور، لم يكن موتاً، فالبحارة العتاق لا يموتون، إنَّهم فقط لا يرجعون. حكاية الحكاية وللحكاية أيضاً حكايتها يرويها عبد الحليم كركلا: كنت في مقتبل العمر عندما قابلت زايد للمرة الأولى، كنت مكلفاً حينها من صديقي وزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس بتسليم رسالة شخصية له، حصل ذلك في العام 1982 على ما أذكر، ولا زلت أذكر دهشتي للتواضع الجم الذي اتسم به سلوك الرجل الكبير، لمجلسه الذي كان مفتوحاً أمام الجميع، وللحركة الدائرية التي كانت تجري حوله بروتينية مثيرة للاهتمام، يبوح صاحب الحاجة بحاجته لصاحب الأمر الذي يهمس في أذن محدثه بكلمات قليلة تكون كافية لدفع الأسارير نحو التهليل، ثم يخلي الزائر مكانه لآخر، فتنشرح ملامح أخرى، وهكذا دواليك كان الناس يدورون في فلك قائد يعرف تماماً كيف يجعلهم على تماس مع أمانيهم المشروعة.. وكانت الحياة تسير بالجميع هانئة وادعة. الاسم وحده يضيف، وكأنَّ تلك اللحظات المدهشة لا تزال في متناول عينيه المذهولتين: تذكرت أنني جئت من بلد تحتاج مقابلة موظف فيه إلى سلسلة لا تنتهي من الإجراءات، وأنَّ الحرص على الألقاب عندنا لا يضاهيه حرص، فكنت كلما نادى أحد الحاضرين رئيس الدولة باسمه المجرد، أرى الرجل يزداد سمواً ورفعة، كان بين أول ما تعلمته من مجلسه إنَّ من كان اسمه زايد لا يحتاج إلى ألقاب، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من التحليل والتفكير للاستنتاج أنَّ الإمارات، بقيادة هذا الحاكم الذي يضوع حكمة، سائرة بثقة نحو اجتراح معجزة الحضور في عالم الأقوياء هذا. خشية المبدع يتابع كركلا: عندما طرحت عليَّ فكرة الأوبريت التي تتناول سيرة الرجل أحسست برهبة وتهيب، طلبت مهلة للتفكير والاسترشاد بآراء ذوي الخبرة، وكان في مقدم من طلبت مشورتهم المخرج الإيطالي زفريللي، وهو يعد العلم الأبرز في عالم الفن السابع المعاصر، وقد كان لاتساع عيونه كاشفة عن كثير من الدهشة الصافية أن جعلني أوقن أنني أمام تجربة ابداعية استثنائية، لا تحتمل التردد، أيضاً ثمة مؤشر إضافي تمثل بموقف أحد أصدقائي، وهو من كبار الشعراء العرب المعاصرين، فقد اعتذر في البداية عندما طلبت منه كتابة بعض النصوص الخاصة بالأوبريت، لكنه لم يلبث أن اتصل بي في وقت متأخر ليقول لي بصدق طفولي أعهده به: قرأت عن الرجل، ورأيت أن الكتابة عنه شرف ابداعي رفيع، وهو أقل ما يسع المرء فعله حيال ظاهرة إنسانية نادراً ما يجود بها الدهر. تواصل الحلم يسترسل كركلا كما لو أنَّه في معرض بوح وجداني عميق: الحلم مستمر عبر القيم التي زرعها زايد في نفوس ابنائه، وفي أذهان الناشئة، عندما كنا طلاباً في أوروبا، كنا نشعر بكثير من الأسى إذ ينظر الأوروبيون إلى العربي بوصفه مجرد رجل يملك المال فقط، ويستخدمه فقط في تحقيق المتع الشخصية، لكن الأمر تغير اليوم، وها هي دولة الإمارات قبلة الأنظار على مختلف الصعد الفنية والابداعية، وذلك بعض مآثر زايد. غزو حضاري مضاد يتابع محدثنا فيما يشبه عملية تصفية حساباته النفسية مع ماض لم يأت موافقاً لمقاييسه: أيضاً أنا أشعر بالفخر النقي عندما أدعو كبار النقاد الفرنسيين لمشاهدة الأوبريت في بيروت فتحصد إعجابهم دون أدنى تحفظ، ويبدون إصراراً على عرضها في باريس التي طالما تغنت بكونها مدينة النور، حيث سيكون قصر المؤتمرات الفرنسي (palais de congres)، في الخامس والسادس من شهر مايو القادم، على موعد مع عمل ناطق باللغة العربية، ويتناول سيرة قائد عربي.. وذلك للمرة الأولى، على ما أحسب. أيضاً سيكون الأمر مشابهاً مع دار الأوبرا الوطنية في بريطانيا، في الأول والثالث من أغسطس القادم، إذ ستكون فرقة كركلا هي الفرقة العربية الأولى التي ستتاح لها فرصة تقديم عمل فني في هذا الصرح العريق.. وهو أمر يبعث على الفخر حتماً. إنه الأول فرقة كركلا قدمت الكثير من الأعمال الاستعراضية، معظمها مأخوذ عن أعمال لكبار الكتاب العالميين، مثل شكسبير ومن هم في مكانته، لكنَّها المرة الأولى التي يكون محور أحد أعمالها شخصية إنسانية منفردة، وهو ما يجد تعليلاً لدى راعي الفرقة ومؤسسها الذي يقول: المآثر التي تركها زايد هي صفات ذات طبيعة إنسانية شاملة، وليست مجرد خصال فردية تثير بعض الإعجاب لدى بعض المريدين. الخير والحكمة والصبر، وسواها من الفضائل التي جسدها الرجل على امتداد حياته دون تردد، تصلح لتكون سمات ومناقب تجعل منه منارة إنسانية، ومنصة رسائل قيمية نحو الأجيال الطالعة، الأمر يتعدى حدود تكريم قائد والتباهي بمنجزاته، ليصير حفاوة ضرورية بمدرسة سلوكية كنا كعرب في أمس الحاجة لها، وجاءت لتطلق تغييراً بنيوياً في مسارنا الحضاري، وتضع لنا معايير قيمية مغايرة لما اعتدنا عليه في تفاعلنا مع محيطنا البشري والمادي.. ولا يقتصر الأمر على أهل الحاضر وحدهم بل يتعداهم نحو أبناء المستقبل، إذ لا يحتاج الأمر إلى كثير من التفكير للاستدلال على أنَّ المغفور له كان يبدي حرصاً استثنائياً على مجاراة التطورات المعاصرة بكل الوسائل المتاحة، دون إبداء أي تنكر نحو القيم الأصيلة، وقد أثبت أنَّ التوفيق بين المفهومين، اللذين قد يبدوان لوهلة على شيء من التناقض، ممكن إذا اقترن السعي نحوه بقدر من الحكمة، وهي سمة بدت في مقدم العطايا التي اختص الله بها الشيخ زايد، رحمة الله عليه. بحرص فائق يسرد عبدالحليم كركلا تفاصيل الأوبريت، لا يتردد في إضفاء شيء من الأسطورة على سلوكية ذلك الحكيم القادم من الصحراء ليؤسس دولة تضاهي أكثر الدول حداثة، ليس على مستوى العمران فقط، وهو أمر متاح إذا توافرت الثروة، وإنَّما على الصعيد المفاهيمي والحضاري الشامل، هنا أهمية التجربة، يقول كما لو أنَّه اكتشف ما كان غائباً عنه، هنا الإنجاز الحقيقي: أن تجد الجيل الذي تبلور وعيه بعيد رحيل زايد، يبدي تمسكاً متجذراً بالقيم الأصيلة التي تربى عليها أباؤه وأجداده، هذا الإيمان بالتاريخ والثقة بالأصول هي التي تستمد منها إمارات اليوم رونقها بقدر ما تفعل اعتماداً على انتسابها إلى مدرسة التطور والمعاصرة. يبدي هذا التعليق قبل أن يعود لسرد أحداث الرواية، دون أن تفوته الإشارة إلى أنَّ السيناريو بالرغم من المساحة الأسطورية التي تخللته، ظل قاصراً عن الإحاطة بالمكامن الواقعية لمزايا القائد. منه وإليه أنا كتبت القصة، يقول كركلا، وقد استلهمتها من سجايا الرجل، استوحيت أبعادها من شخصيته الفذة، لذلك كان لا بد للتاريخ أن يكون حاضراً، قدم الفرسان السبعة من رحم الماضي حاملين فضائلهم ليمنحوها لمن يستحقها، الشجاعة والحق والصبر والحكمة والخير والإيمان والعدل جميعها فضائل إنسانية شاملة ترتقي بحاملها نحو مرتبة الرمز الكوني، والأمر لا ينطوي على مبالغة، وإن بدا لوهلة كذلك.. جاء الفرسان محملين بعبق التاريخ، وفي صحراء أبوظبي عثروا على الوليد الذي سيكون له شأن في مستقبل أمته، أيضاً كانت ثمة إشارات متعددة من الطبيعة ترصد قدوم هذا الصبي الذي سيكبر ويكبر معه، وبه، قومه وبلاده.. بعد أن خضع الفتى لجملة اختبارات في الفضائل التي يحمل راياتها الفرسان، واجتازها جميعها بنجاح، قرر الفرسان أخيراً أن يمنحوه الرايات التي هي ملكه في الأساس، وقد كانت وديعة معهم. بفرح من يفي بعض دين يختم محدثنا: لعلَّ الأمر نفسه حصل في الأوبريت، إذ قدمنا للقائد الكبير بعض ما كان قد أودعه فينا من خصال ومناقب.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©