السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إملاءات واستحالات

إملاءات واستحالات
22 مارس 2018 01:39
محمود قرني إذا كانت الوظيفة الأخلاقية للشعر تقع، حسب القراءة البلاغية شبه الفقهية، بين «الأشباه والنظائر»؛ بما يقتضيه ذلك من حتمية المطابقة بين الأصول وفروعها؛ فإن الثمن الذي دفعته الشعرية العربية لقاء هذا الوعي كان فادحاً. مِن ناحية بدا فعل التقليد ممثلاً للمشروعية شبه الدينية، ومن ناحية أخرى أجهضت تلك الاتباعية الكثير من تصورات علماء الكلام وفلاسفة المسلمين حول الشعر باعتباره بناء معرفياً وليس لغوياً فحسب. فالأصل أن الشعر يجب ألا يخضع، مهما كانت الأسباب، لتاريخ تمليه المصلحة. فهو منذ أفلاطون يبدو بين أعلى تعبيرات الإنسان الحر باعتباره نشاطاً تلقائياً لا تحكمه سوى محددات موضوعية تجفو السياسة والأيديولوجيا على نحو خاص. لكن يبدو هذا التعريف غير كافٍ لمن يقدسون فكرة الخلق الذي يجب أن يوافق المثال. جدب الشعراء وقبل سبعة قرون أو يزيد، كتب حازم القرطاجني صاحب «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» أنه: «قد ران الجدب على قلوب شعراء المشرق المتأخرين وأعمى بصائرهم عن حقيقة الشعر. فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة من نحا نحو الفحول ولا من ذهب مذاهبهم في تأصيل مبادئ الكلام وإحكام وضعه وانتقاء مواده التي يجب نحته منها، فخرجوا بذلك عن مهيع الشعر ودخلوا في محض التكلم». ورغم أن حازماً يعد واحداً من أهم مؤسسي النقدية العربية؛ فإن دعوته تظل واحدة من آثام الاتباعية التي لا زالت تمثل سلطة شبه انتقائية حتى لو فقدت الحماية الفقهية. فتاريخياً تبدو المسافة بين الشعر والدين معقدة على قربها، وكان ابن عباس يقول: «إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوانهم». وكان إهدار النبي، صلى الله عليه وسلم، لدم كعب بن زهير قبل دخوله الإسلام واحداً من مظاهر هذا الاعتداد المخيف بأهمية الشعر ومن ثم قيام الضرورة على تدجينه. ربما لذلك لم يشفع للشاعر، بعد أن ضاقت به الأرض، سوى درته «بانت سعاد..». بين سحيم وبودلير ليس هذا فحسب، بل مرت لحظات لم يضمن فيها الشعر صك الحرية حتى لصاحبه. ويروي لنا تاريخ الأدب أنه تم عرض الشاعر سحيم عبد بني الحسحاس على عثمان بن عفان وكان عبداً أسود، وقالوا له: إنه شاعر يُرغَبُ في مثله؛ فقال «لا حاجة لنا فيه؛ لأنه إن شبع شبّب بنساء أهله، وإن جاع هجاهم» ما دعا سحيم إلى القول: أشعار عبد بني الحسحاس قُمن له/‏‏‏ يوم الفخار مقام الأصل والورق. إن كنتُ عبداً فنفسي حرة كرماً/‏‏‏ أو أسود اللون إني أبيض الخلق. ولم يكن مدهشاً ألا ينتج هذا التجاور بين الشعر والدين والتقاليد الاجتماعية الرثة إلا طرائد فقهية مثل أن: «الشعر داع لسوء الأدب وفساد المنقلب». هذا الصراع لم يكن قصراً على الحضارة الإسلامية فحسب، بل يمثل صورة ممتدة في معظم الثقافات ذات الترجيعات اللاهوتية. فبودلير تم سجنه لاجترائه على الكنيسة في ديوانه «سأم باريس»، وكان مارفيل مطارداً بسبب رفضه وصاية الكنيسة على الشعر، ولم يشفع له أنه كان سكرتيراً خاصاً للعقائدي الفظ جون ميلتون صاحب «الفردوس المفقود». ومع ذلك لم يقطع الخوف ألسنة الشعراء. فكما لم تمنع عبودية سحيم من تشبّبه بالنساء ومن هجاء سادته، كذلك لم تستطع الكنيسة منع ووردزورث من أن يقول للبابا بعد أن نصَّب نابليون إمبراطوراً على فرنسا: «إنه فِعل مُخزٍ أن نرى شعباً يأخذ درساً من كلب». تلك المقولة لا تلخص فحسب موقف الشاعر الإنجليزي من مفهوم السلطوية التي مثلتها دولة نابليون، بل تلخّص موقفاً تاريخياً لكل الذين عينتهم أقدارهم كخازنين على القيم الإنسانية. وإذا كان ووردزورث هنا يبدو ضد النموذج «البونابرتي» فلأنه في الحقيقة ضد تقديس المثال الذي كان يتوجب عليه تقديسه. الشعر والعبودية لقد عرف تاريخ الشعر عشرات من المنابذات التي صكّت أشنع النعوت في وجه من يصادرون المستقبل لصالح امتيازاتهم. وقد ساد الثقافة الأوروبية قبل ما يزيد على أربعة قرون تصريح بابوي غريب، هدفه حض البشر على المزيد من الخضوع والعبودية، يقول: «أيها الناس إن هذه الأرض لم تخلق إلا لتكون مقبرة»! ورغم أن الشعر حطم قيوده منذ عشرات السنين وتحلل من ربقات أثقلت خطاه، فإنه لم يفقد أعداءه التاريخيين من رجال المال والساسة ورجال الدين. فالشعر الذي حطم أسقف المفاهيم الوجودية المرتهنة لفكرة الخير والشر، استطاع أن يحتفظ من قيم الماضي بما يريد هو، لا ما يريد الفقهاء أو تحدده معايير المصلحة. غير أن التحولات الكبرى التي يشهدها الإنسان العربي منذ سنوات ليست بعيدة تعيد إنتاج فكرة الوظيفة. فتحولات الأمم تمثل ذاكرتها الأسطورية، والبشر عادة ما يبحثون في معتقداتهم عن آلهة خارقة القوة تضمن لهم الحماية، لاسيما عندما تتصاعد نداءات الهوية وترجيعات الهلع التاريخي من التلاشي والاندثار. لقد ساهم الشعر في بناء الذاكرة التاريخية للأمم وعزز مكانتها الأسطورية، لكنه فعل ذلك دفاعاً عن طبيعته النوعية. لكن الشعر والشاعر يلقيان الآن عقاباً قاسياً لقاء رفضهما للتشيؤ الذي فرضته الثقافة الإقطاعية حيناً، ثم عززته مفاهيم التسليع التي سادت النموذج الرأسمالي فيما بعد. لذلك كان ماركس يرفض إخضاع الشعر للحاجات العشوائية شبه الغرائزية للناس، وكان يفضل على ذلك إنضاج الأنساق الاجتماعية الحاملة للقيم الجديدة للمجتمع. وأصبح ما يمكن تسميته بالوعي الطبقي محركاً للتاريخ لزمن ليس قليلاً، وقد كان ذلك الاعتقاد تعزيزاً لمفهوم الروح الطليقة في فلسفة علم الجمال التي اعتدَّت بالقيمة الحسية/‏‏‏ المعرفية، قبل اعترافها بالقيمة الأخلاقية للفن. غير أن التحولات القاسية لما بعد الحداثة التي أتت تبشيراً بانتصار الثقافات الهامشية لم تكن حاسمة في التعامل مع فكرة التشيؤ التي ساهمت في تحويل الشعر من قيمة تتأبى على الخضوع لسلطان العرض والطلب إلى سلعة خاضعة لقوانين السوق. وقد تجسد ذلك في العديد من الصور التي تمثّل أعلى تعبيرات الإذلال البشري. القوة المطلقة وثمة قصيدة قصيرة لـبرتولد بريخت تجترح الكثير من تلك الآلام عندما يقدم أكثر الصور سخرية من فكرة القوة المطلقة سواء كان مصدرها البشر، أو مصدرها الميتافيزيقا. يقول بريخت: «المريض يموت والقوي يقاتل وهذه سنّة الحياة. القوي يساعده الناس والضعيف لا يساعده أحد، وهذه هي سنّة الحياة». حتى يصل إلى القول: «..والله خلق الأشياء وسوَّاها، خلق السيّد والعبد، والخير فيما فعل والحكمة فيما رآه. ومن طابت أوقاته فهو طيّب، ومن ساءت أحواله فهو شرير، وهذا شيء حسن وعلى ما يرام». وعند شرحه لمعلقة زهير ابن أبي سلمى التي يقول فيها: «وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتمْ وَذُقْتُمُ/‏‏‏ وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ. مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً/‏‏‏ وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ» يقول الدكتور مصطفى ناصف ناعياً ذلك الكدر الذي تبدى في درّة من عظائم الشعر العربي: «إن الحياة مريرة لأننا فقراء النفس والخيال، نتعادى وليس من حولنا في الكون أعداء، ونغلق أبصارنا وأسماعنا وكل ما حولنا حافل بالأبصار والأسماع». إن الفعل الاحتجاجي للشعر كما يناديه هربرت ماركيوز يبدو مقلوباً في قصيدة برتولد بريخت، حيث تتولد الشعرية من نقائضها، فالعدل لا يسير دائماً في حماية القوة. والقوة هنا تتحول إلى أمثولة ساخرة في أفواه الضعفاء. هؤلاء هم الذين أشار إليهم لوكاتش عندما تحدث عن المعرفة الطبقية، مشيراً إلى أن أحط ما قدمته الرأسمالية صورة لعامل ينتج سلعة لن يستطيع التمتع بها أبداً، ما يعني أن العامل هنا سيظل خادماً لقوة غيره عبر قوانين مذلة. الأمر نفسه في قصيدة زهير التي يكتفي فيها بالإشارة إلى المسكوت عنه من آثام القوة التي تمثلها الحرب، «فما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ». إن المعرفة التي يحددها الشاعر تجسدها أحلام الناس ومشاعرهم بالبحث عن سلامهم الروحي والأخلاقي، دون أن يكون ذلك مرتهناً بأسئلة زبائنية عن عبدة المال الذين دفعوا عشرات الشعراء إلى العودة لشعر القرون الوسطى. الوحدة المفقودة ورغم أن الرومانسية، الأم الشرعية لكل مدارس الحداثة، قد أعادت الوحدة المفقودة بين الفرد والجماعة كما يرى أرنست فيشر، فإنها هربت أمام جحيم التسليع الرأسمالي للفنون وانتهت إلى صرعات مؤلمة لم يكتب لمعظمها أية حياة. وقد كان أخطر ما واجهه الشاعر الحديث عزلته المجتمعية بعد أن كان مخولاً بامتلاك الصكوك الروحية التي تمنحها القوة المجتمعية لشاعرها، لذلك وفي ظل زمن جديد لتبادل المنفعة يمكننا أن نتفهم لماذا تثير قصيدة شعرية تقزز الساسة ورجال المال والمحافظين، الباحثين عن منتجعات للراحة، بعيداً عن الضجيج غير المحتمل لكائنات ستظل في نظرهم حالمة وضالة. فهل كان رجال المال يدافعون عن هذا السلوك السلطوي والمتعالي عندما وصموا الشعر بالتخلف؛ باعتباره يتغذى على الطفولة البشرية، ويعيد إنتاج الرعوية في إطار شبقٍ ميتافيزيقي للعدالة والحرية؟! إن وصم الشعر بأنه فن رعوي لأنه يقتات على مادة الطبيعة الغفل مهّد لوصف الشاعر بأنه واحد من كائنات الغابة غليظة الأظلاف. الشعر طبعاً يقتات على الماضي، لكنه أيضاً منزرع في المستقبل، لذلك يصفه مكليش بأنه قادر دائماً على أن يجمع بين تناقضات العالم وانحرافاته، لذلك يبدو المصدر الأقصى لقوة الشاعر في السيطرة على اللامألوف. لقد كانت محاولة ما بعد الحداثة هي إملاء الشكل على الشاعر عبر مضامين تحل فيها الفوضى محل القصدية، المصادفة محل التخطيط، التفكيك محل التركيب، السطحية محل التجذير، والتحريف محل التفسير. لقد حاولت ما بعد الحداثة هدم فكرة الشكل باعتبارها مجرد قيود وأغلال وموضات اجتماعية، بينما هي نفسها تمثل صرعة تتجاوز طبيعة الوجود الإنساني المتساوية والعادلة مع فضاء الآخرين، وهذا ربما يكون تفسيراً ملائماً لتعريف جوته للمجتمع الراقي الذي وصفه بأنه «ذلك المجتمع الذي يستحيل على الشعر أن يعيش فيه». موقفان قبل سبعة قرون كتب حازم القرطاجني صاحب «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» أنه: «قد ران الجدب على قلوب شعراء المشرق المتأخرين وأعمى بصائرهم عن حقيقة الشعر. فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة من نحا نحو الفحول ولا من ذهب مذاهبهم في تأصيل مبادئ الكلام وإحكام وضعه وانتقاء مواده التي يجب نحته منها، فخرجوا بذلك عن مهيع الشعر ودخلوا في محض التكلم». وكان ابن عباس يقول: «إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوانهم».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©