الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وديع سعادة: الشعر قبضُ الريح

وديع سعادة: الشعر قبضُ الريح
21 مارس 2018 20:16
حوار: عبير زيتون منذ أن انكسرت زجاجة العالم في يده مبكراً، ومساء الشاعر اللبناني الكبير وديع سعادة بلا إخوة، يقيم على ريش الريح مثل «ملاك مهاجر غير تارك إقامة قد تكون مكاناً لخطيئة». يرتق الهواء، ويحرس ظل العابرين، ويبحث عن تركيب آخر لحياة، تجري بطيئة بين إبرتين، تخيطان عدم المصير، وألم الغياب. يقف على العتبة، يريد أن يخرج من قلب العالم المكسور، ليسكن قلب الحياة، فلا يجد مكاناً سوى الإقامة الشعرية بديلاً. من هنا كانت قصيدته عمارة شعرية متفردة بخيالها المتدفق بوداعة نبع الحياة، وشراسة سؤال المصير، ومصارعة ألم الغياب بندِّيَّة مسنَّنة.. مفارقة لكل مألوف، تعيد اكتشاف جرح العالم في سِفرها الذاتي وهي تتأمل في ما وراء الأشياء، وما بعد الأفعال، وسط ضباب الشك المتصاعد من مصادفات فخ الحياة، بحثاً عن «مقعد لراكب غادر الباص». وديع سعادة صاحب نص «الغياب» و«ليس للمساء إخوة»، و«رجل في هواء مستعمل»، و«غبار»، و«بسبب غيمة على الأرجح»، و«رتق الهواء» و«مقعد راكب غادر الباص» و«محاولة وصل ضفتين بصوت».. أحد أبرز شعراء الحداثة الشعرية، في لبنان، والعالم العربي يتحدث في حوار خاص مع «الاتحاد الثقافي» من مكان إقامته الحالية في أستراليا حول مسيرته الشعرية، وقد بلغت من النضج عتياً في تجربتها ومؤلفاتها. * بداية كيف تحب أن تقدم نفسك لقراء «الاتحاد الثقافي»؟ ** أنا من قرية صغيرة في الشمال اللبناني. ولدتُ في بيتٍ أرضه من تراب وسقفه من تراب، وعشت طفولتي مع التراب والشجر والزهر والعصافير، وكنا مع الطبيعة عائلة واحدة. في الرابعة عشرة من عمري، صُدمتُ بموت أبي احتراقاً في بيتنا، ولا أعرف إنْ كان ذلك ما قادني إلى الشعر، لكن تيمة الموت رافقت شعري وكبرتْ مع ما يحدث في العالم من قتل وحروب... في اختصار، أنا، كإنسان، صديق الطبيعة وكل كائناتها. وكشاعر، أعاين موت هذه الكائنات وآلامها. أكتب على سجيّتي * منذ أول ديوان شعري لك (ليس للمساء إخوة - 1973) وحتى (ريش في الريح - 2014) مسافة زمنية طويلة، مع ذلك قصيدتك مُثابرة في نحت جسد النثر، وأعمق منه، بغواية جمالية عالية، لا تخلو من التفرعات والانقطاعات، ولكنها تُكمل تفرد عمارة «وديع سعادة» الشعرية، الخاصة به وحده. برأيك، ما الذي يميز قصيدتك عن سواها من وجهة نظرك النقدية اليوم؟ ** لستُ خبيراً في التنظير لشعري ولا لشعر سواي، فهذا عمل النقاد وأنا أعتبر نفسي فاشلاً في النقد. لذلك لا يمكنني الإجابة عما يميز قصيدتي عن سواها، ولا يخطر ببالي وأنا أكتب أن أفكر في التميز أو في نظرية شعرية. أكتب على سجيتي غير مبالٍ بنظريات، وأعتقد أن القصيدة هي التي تخلق نظريتها وليس العكس. * أنت ابن قرية لبنانية صغيرة اسمها «شبطين»، عشت في حقولها وبين فلاحيها حتى سنّ الثانية عشرة قبل أن تركب «الريح» نحو ضفاف أخرى، وقلت حولها: «لا يزال في قلبي من تلك السنوات شجر وتراب وعشب»، ولكن كل شيء «قبض ريح»، هل ينطبق ذلك على مسألة الشعر؟ ** نعم، الشعر أيضاً قبض ريح. إنه وهْم، وهْم تغيير هذا العالم، الذي سيبقى وهماً، لكنه وهْم جميل. جرح الشعر * «حين ودَّعتُهُ لآخرِ مرَّةٍ، كان ذلك على الشاطئ. ثُمَّ تصاعدَ من بيتنا دخانٌ كثيفٌ. والدخانُ كانت له رائحةُ لحمٍ محروق. وصار أبي هيكلاً عظميًّا أسود». برأيك، هل (الشعر والفنّ) يقيمان في ذات الجرح البليغ الذي أصاب روح الشاعر وديع سعادة مبكراً، فرسم مساره الشعري؟ ** الشعر جرح والفن جرح. إنهما جرح وفي الوقت ذاته وهْمُ تضميد الجرح. وهذا الجرح، نعم، هو الذي رسم مساري الشعري. * يذكر الشعراء وديع سعادة بثلاثة كتب أساسية في المشهد الشعري اللبناني: «ليس للمساء أخوة»، «رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات»، «ومقعد راكب غادر الباص»؟ برأيك ما الذي يميز هذه الأعمال عن سواها؟ ** أعتقد أن كتباً أخرى لي نالت أيضاً من الاستحقاق النقدي ما نالته الكتب التي ذكرتِها. أما ما يميز كتاباً عن آخر من الوجهة النقدية فهذا، كما أسلفتُ، من عمل النقاد. * في تصريح لك قلت: «الشعر هو انعكاسُ ظِلّ الذات وليس انعكاس الذات كلها. لا يمكن مواجهتها إلا بانعكاس ظِلّ ذاتيّ بأعلى درجة من الصدق في الذات، وبالتمرّد على الذين يريدون وضعها في قوالب وتشويه نقائها»، كيف نفهم معنى الشعر عندك؟ ** الشعر في أعلى درجاته هو إعادة الاعتبار للإنسان وللإنسانية بنقائهما، وذلك لا يتم إلا بتحطيم كل ما يشوه هذا النقاء. الشعر، بالتأكيد، هو تمرّد على كل ما هو نقيض الإنسانية، وهذا هو معنى الشعر عندي. * مع ديوان «مقعد راكب غادر الباص» وما تلاه، وقصيدة وديع سعادة تميل إلى ضرب أهداف أبعد وأعمق في جسد قصيدة النثر الحديثة، ومن منظور مختلف أقرب لنمط الحكاية اليومية السردية في نَفسها وتوجهها، نحو شيء حر لا يُصنف سوى بقصيدة النثر. ما تعليقك على ذلك؟ ** أرجو أن تكون قصيدتي - كما تقولين - قد حفرت شيئاً ما عميقاً في جسد قصيدة النثر التي أفضّل أن أسميها «النص الشعري الحديث». فهذا «الجسد» الذي ينبع من الإنسان ويصبّ فيه لديه في الأعماق «خلايا» كثيرة يجب كشفها وإضاءتها. أما بالنسبة إلى الحكاية اليومية السردية في شعري، فهي حكاية هذا الإنسان ولكن ليس بيومياته العادية السطحية، بل ما يكمن في العمق وفي خلفيات هذه اليوميات. مجلة شعر * في الستينيات، شكلت مجلة «شعر» رجة عنيفة في تفكير العقل العربي، فكانت المفصل والأساس في حركة الحداثة الشعرية في العالم العربي، وقد نجحت في الذهاب إلى «ما وراء اللغة» بعد كسر الحدود والقيود أمامها. أين تضع بدايات تجربتك مع هذه المرحلة؟ وكيف يمكن النظر إلى ما أنتجته مجلة «شعر» وروّادها؟ ** لا شك في أن مجلة «شعر» شكلت مفصلاً أساسياً في تجاوز الكلاسيكية العمودية التي حكمت الشعر العربي مئات السنين، لكنني أعتقد أن هذا التجاوز تركَّز في الدرجة الأولى على الشكل الشعري، إلى أن جاءت بعده الحداثة الثانية في الشعر العربي التي كانت تجاوزاً أيضاً لما شكلته مجلة «شعر». بالنسبة إليّ، كتبت «قصيدة النثر»، وأنا في قريتي قبل أن أنزل إلى بيروت وأعرف أن هناك مجلة اسمها «شعر» تكتب هذه القصيدة. كنت أكتب شعراً عمودياً، لكنني ذات نهار وأنا في قريتي مزقت هذه القصائد، وبدأت أكتب شعراً غير مقيّد بقيود الشعر العمودي، ولكنني بقيت متوجساً مما أكتب إلى أن نزلت إلى بيروت عام 1968 وعرفت أن ثمة شعراء في مجلة شعر يكتبون هذا النوع من الشعر، فاطمأننت إلى أن قراري وأنا في تلك القرية النائية لم يكن قراراً خاطئاً... إن خياري لكتابة «قصيدة النثر» لم يكن بتأثير من مجلة «شعر»، ولا أظن أن شعراءها كان لهم تأثير كبير عليّ مع احترامي وتقديري لكل هؤلاء الشعراء. * رصيف الحياة، والزوايا الجانبية المعتمة كما تقول، جمعتك مع الكثير من الشعراء مثل أنسي الحاج وسركون بولص. من هم الأقرب إلى قلب وديع سعادة وذكرياته معهم؟ ** لديّ ذكريات جميلة مع كل الشعراء الذين تعرفت إليهم في بيروت في أواخر الستينيات من القرن الماضي وما بعدها. كانت بيروت في تلك الفترة في عصرها الذهبي ثقافياً، وكنا نجتمع في مقاهيها ونتحاور، ونقرأ لبعضنا البعض، ونسهر، ونتسكع، ونضحك... كانت هناك قضايا ثقافية ومؤمنون بالثقافة... كل الشعراء والفنانين والمثقفين الذين تعرفت إليهم كانوا أصدقائي، لكنني كنت أشعر بقرابة روحية وشعرية أكثر مع سركون بولص. *«بقيت أنا مثل شجرة هرمة اقُتلعت من تربتها وغُرست في تربة غريبة». هل تعتبر نفسك منفياً وأنت تقيم في أستراليا منذ سنوات بعيدة؟ وما هو مفهوم «المنفى» لديك كشاعر؟ ** لا أظنّ أن ثمة مكاناً يمكننا أن نقول عنه: هذا هو فعلاً مكاننا الحقيقي. كل الأمكنة صارت تقريباً منفى. أنا الغياب.. أنا العدم * وصف بعض النقاد وديع سعادة بـ«شاعر الأثر»، والبعض الآخر بـ«شاعر الحياة»، فيما قال آخرون إنّه «شاعر العدم والغياب». أمّا أنت فترى أنك شاعر «الاستحضار بالتغييب». بين هذه الرؤى المتناقضة أين يجد صاحب «نصّ الغياب» نفسه؟ ** أجد نفسي في الغياب، الذي لا يمكن استحضاره. * قلت ذات مرة: «أنسج العالم الحلميّ ذاته الذي لم يتكوّن بعد، ولا أظنه سيتكوّن. أنا لم أشيّد هذا السديم. هذا السديم شُيّد حولي، وحول البشرية كلها، وأحاول بالوهم أن أخرج منه». ما هو الوهم الذي يتمسك به الشاعر وديع سعادة ويقود قصيدته؟ ** أتمسك بوهم السعادة، بوهم الإنسانية الحقة، بوهم الحق، بوهم السلام، بوهم الحياة الجميلة... كل هذا وهم، ولكن لو فقدنا هذا الوهم ماذا يبقى؟! * أيهما أنت، البوهيمي مع تشرد الروح، أم العدمي الذي لا يتوقف عن رتق الريح بضحكة؟ العدمي الذي يكتب كالشعراء أم شاعر يتقرب من العدم ويشاكسه بجمالية حالمة بديلة؟ وما هو العدم بالنسبة إليك؟ ** أنا كل هذا، وبعد هذا أنا لا شيء سوى العدم. فهنا كل هذا، وبعد هنا العدم. * قصيدة وديع سعادة هي ليست للوصف والتمجيد، أو حتى للرثاء أو العويل، القصيدة تبدو لنا «صوت الغائب فينا الذي ينتظر ظله الذي خلعه الجسد»، أو هي «صوت الجرح» الذي يعيد قراءة الحاضر، ما يجعلني أتساءل: أي قانون داخلي صارم يمارسه الشاعر وديع سعادة كي يمنع أثر ذاكرة الألم من الطوفان؟ هل هناك تقنية معينة تتبعها في إحكام قبضتك على جسد القصيدة؟ ** لم أتعاطف يوماً مع شعر التمجيد والرثاء والمديح والهجاء الذي طبع كثيراً من الشعر العربي. أتعاطف مع صوت الجرح، الذي هو الصوت الإنساني بامتياز. ولست من البكّائين حين أكتب عن هذا الجرح، لست نوّاحاً، إنما أحاول أن أضمّد ذاكرة الألم بوهم الأمل، وفي ظني أن هذا الوهم يبقى أفضل من النواح وأقلّ قسوة. الشعر حياة * برأيك، لماذا نجحت قصيدة وديع سعادة في إلغاء المسافة بين «النص والحياة»، وفرض قدرتها العميقة على مكاشفة أغوار النفس، خاصة أنها قصيدة لا تخاف الألم، بل تعيد عجنه، وتشكيله في لغة على درجة من الرهافة الزجاجية، رغم أن خلف كلماتها تتخفى «ذات الشاعر المكسورة عاطفياً»، تذوب بين الكلمات دون أن تطفو؟ ** ليس صادقاً من يكتب عن المحبة وفي قلبه حقد وبغض. وليس صادقاً من يكتب عن السلام وفي داخله أعداء. لا أؤمن بالانفصام بين الكتابة والحياة. أؤمن بأن على الشاعر قبل أن يكتب عن المحبة والسلام أن يعيشهما أولاً. فالشعر ليس مجرد كلمات، إنه أولاً حياة. * يقال إن اللغة الشعرية لا تحيا إلا عبر تفجير طاقاتها اللانهائية، والعودة بها إلى مناطقها المجهولة، ليبقى للشعر معنى في حياتنا؟ ما هو رأيك بموضوع اللغة الشعرية؟ ** لغة الشاعر هي الشاعر نفسه. فهو إذ يدخل في مناطق ذاته الداخلية العميقة تدخل لغته في هذه المناطق. وهكذا تحيا لغته أبعد وأعمق من اللغة التي تبقى على السطح بلا أعماق، وهكذا يكون للشعر ولغته معنى أبعد وأعمق، وبالتالي يكون للحياة هذا البعد والعمق. * الجفاف هو الخطر المتربص دائماً بالعمل الإبداعي والأكثر رعباً لمبدعيه! هل يصيبك أحياناً وتُغلق الكلمة الشعرية دونك؟ كيف تواجه تلك الأوقات العقيمة من الصمت الإبداعي في جفافه؟ ** الصمت أحياناً هو شعر أيضاً. هو ليس وقتاً عقيماً. قد يكون، على العكس، وعداً بخصوبة أكبر. * في قصيدة وديع سعادة حرص شفاف وجليّ على الصدق أكثر من التركيبة الشعرية، التي يبحث عنها النقاد، محافظة بذلك على براءتها وعفويتها، وعلى هشاشتها أيضاً. هل تشذب قصيدتك وتقنن من جموح عناصرها بعقلنة إرادية؟ بمعنى كيف تُحدد شكل المادة الشعرية في شكلها النهائي لديك؟ ** نادراً جداً ما أشذب في قصيدتي، وكلمات قليلة جداً. حين أرى أن ما أكتبه يتطلب تشذيباً أمزق ما كتبته. لا أكتب إلا حين تولد هذه الكتابة ولادة طبيعية لا قيصرية. * أسلوبك الشعري استقر منذ انطلاقته المبكرة على قصيدة النثر أو الشكل الحديث للقصيدة كما قلت، برأيك... ما هي الجماليات المفتوحة لهذا النوع من الشعر؟ أو ما الذي يميزها في نظرك كنوع شعري؟ ** النص الشعري الحديث (هكذا أفضّل أن أسمي ما يسمى «قصيدة نثر») هو نص مفتوح على أكثر من تأويل ويحمل الشعر والقصة والفلسفة والسينوغرافيا وغيرها، كاسراً بذلك الحواجز بين الأنماط الأدبية المختلفة وحاملاً هذه الأنماط في نص واحد. وهو نص حديث بمعنى الحداثة في الشكل والمضمون وفي مفهوم الحداثة معاً. هذا أبرز ما يميز النص الشعري الحديث. *هل ينظر الشاعر وديع سعادة إلى قصيدته الشعرية برضا اليوم؟ ** لو لم أكن راضياً عن قصيدتي لما كتبتها، ولا أزال راضياً عنها اليوم. * يقول أنسي الحاج: «نحن معشر (ديوك الحداثة) أجهز أولادنا على الباقي بعدما فتحنا صندوق باندورا، واندفعت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القش، أعرنا أنفسنا لنكون جنود الهدم وبيادق القدر»، هل تؤيده في وصف حالة قصيدة الشعر الحديثة اليوم؟ ** لا، لا أؤيد هذا الكلام. * شعراء قلة أحسنوا التعامل مع الشكل الشعري الجديد للقصيدة، رغم كثرة القصائد العربية التي تنشر هنا وهناك وتترجم إلى اللغات الأجنبية؟ برأيك لماذا؟ ** أحترم كل الشعراء، وأنا لست قاضياً للشعر، وأتمنى أن يحظى الجميع بترجمات لشعرهم إلى لغات أخرى. حصار * تعيش القصيدة الجديدة حالة حصار تعيق فهمها، والتعامل معها؟ برأيك أين تكمن المشكلة؟ ** المشكلة هي في العقل، الذي عوض أن يتقدم إلى الأمام يعود إلى الوراء. * كيف يمكن للإنسان العربي اليوم أن يُؤمن بخلق أو بإنقاذ أو حتى بخلاص يأتيه من جهة التفكير الشعري أو الرؤية الشعرية؟ ** الشعر كشف وتجاوز وخلق وإنقاذ... وهذه لن تكون لمن لا يؤمن بالشعر. * أين تكمن خطورة الشعر؟ هل في قدرته على إعطاء النظر أم في القدرة على الخلق على حد تعبير إيلوار؟ ** خطورة الشعر هي القدرة على الخلق، ولو بالوهم. * كيف يمكن للشاعر العربي اليوم أن يواجه العالم «كفكر»، وهو يشهد عوالم تنهار وعوالم تنهض على أشلاء عوالم أخرى، والإتيان بعالم إنساني يحل محل عالم اللاإنسانية؟ كيف عليه أن يكون حاد الوعي وبشكل شعري حتى يقف أمام هذا العالم بعينين منفتحتين ووجهاً لوجه؟ ** على الشاعر، العربي وغير العربي، أن يبقى مؤمناً بعالم إنساني يحل محل العالم اللاإنساني ولو انه يعرف أن ذلك لن يحدث. عليه أن يبقى يقاوم ضد العالم اللاإنساني، وإلا ما معنى أن يكون شاعراً؟ فهو بهذه المقاومة يؤكد، على الأقل، إنسانيته. * الشاعر بن جونسون يرى «أن الشعر العظيم لا يستطيع أن ينتقده إلا شاعر عظيم»، هل يفسر هذا ضعف تعامل النقد مع القصيدة الحديثة؟ ** الشعر الخارج على المدارس والنظريات الأكاديمية يلزمه بالتأكيد شاعر أو ناقد خارج على هذه المدارس والنظريات. قد يفسر هذا حال النقد مع القصيدة الحديثة. * لو تساءلنا بصوت الكاتب والناقد الأميركي هارولد بلوم: هل للشعر قوانينه الخاصة؟ وكيف نفهمه ونتذوقه من وجهة نظرك؟ ** نفهم الشعر ونتذوقه حين يلامس شيئاً عميقاً في مشاعر القارئ أو في مفاهيمه. * يقال إن حضور الشعر يُطالب دائماً بتكريس نفسه مع الضفة الأخرى كي يعيش ويتنفس! ويحدث هذا عبر آلية النشر. والشاعر وديع سعادة من الشعراء الذين فضلوا النشر الإلكتروني بعد تجربة قاسية مع الناشرين. برأيك ماهو دور النشر والناشرين في تطور وتوسع قصيدة النثر الحديثة؟ ** لدور النشر مطالب تجارية قد لا تتماشى مع الشعر. لكن هناك اليوم وسائل اتصال إلكترونية تقلّص كثيراً من ضرورة إصدار كتاب شعري عن دار نشر لترويجه. أنا بتُّ أتعامل مع هذه الوسائل الإلكترونية ليس فقط لأني لم أجنِ من كتبي المطبوعة في دور نشر فلساً واحداً، ولكن أيضاً لأن هذه الوسائل الإلكترونية توصل كتبي مجاناً إلى كل من شاء وأينما كان. * في قصيدة (لحظات ميتة) جاء: «كان لنا أهل آخرون: الأحلام. وفي حين كنا نمشي إلى أحلامنا، كان هناك في مكان خفي من يصطادها وكانت تسقط مثل أهلنا جميعاً». ما هو حلم الشاعر وديع سعادة اليوم؟ بعد كل هذا الغياب والتجارب والندوب؟ ** حلمي أن أموت قبل أن أعجز وأصير عالة على سواي. وحلمي، كذلك، أن يبقى حلم الشعر حياً لدى الآخرين. * في السؤال الأخير: ما هو رأيك في ما وصلت إليه قصيدة النثر الحديثة في الخليج العربي؟ كيف تقيم خطواتها؟ ونصائحك لمن يرسم خطواتها اليوم؟ ** وجودي في قارة بعيدة (أستراليا) لا يتيح لي أن أتعرف عن كثب إلى ما يُكتب في الخليج العربي وفي الدول العربية الأخرى، لذلك لا يمكنني إبداء رأيي في ما يُكتب. لا شك في أن لكل شاعر حقيقي صوته الخاص، وهو لا يحتاج إلى نصيحة. قرابة روحيّة لديّ ذكريات جميلة مع كل الشعراء الذين تعرفت إليهم في بيروت في أواخر الستينيات من القرن الماضي وما بعدها. كانت بيروت في تلك الفترة في عصرها الذهبي ثقافياً، وكنا نجتمع في مقاهيها ونتحاور، ونقرأ لبعضنا بعضاً، ونسهر، ونتسكع، ونضحك... كانت هناك قضايا ثقافية ومؤمنون بالثقافة... كل الشعراء والفنانين والمثقفين الذين تعرفت إليهم كانوا أصدقائي، لكنني كنت أشعر بقرابة روحية وشعرية أكثر مع سركون بولص. عن وديع ولد الشاعر«وديع سعادة» عام 1948 في قرية شبطين شمال لبنان. عمل في الصحافة العربية في بيروت، ولندن، وباريس، وأثينا، قبل هجرته إلى أستراليا في أواخر عام 1988. حاز جائزة «ماكس جاكوب» الفرنسية عام 2011، وتعتبر واحدة من الجوائز الحاضرة بقوة في المشهد الشعري الفرنسي. دخل وديع سعادة عالم الشعر مع المجموعة الشعرية الأولى «ليس للمساء إخوة» (1968) التي كتبها بخط اليد كقصيدة واحدة، ووزعها على الناس أوائل 1973 قبل طباعتها بعد ذلك بسنوات. وله «ثلاث عشرة» مجموعة شعرية هي: «ليس للمساء أخوة» 1973، «المياه المياه 1983»، «رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات» 1985، «مقعد راكب غادر الباص» 1987، «بسبب غيمة على الأرجح»1992، «محاولة وصل ضفتين بصوت» 1997، «نص الغياب»1999، «غبار» 2001، «رتق الهواء» 2006، «تركيب آخر لحياة وديع سعادة» 2006، «من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب» 2011، «قل للعابر الذي نسي ظله 2012» (نشرت على الإنترنت)، و«ريش في الريح 2014». كَشّاش الكلمات 1 في هذه القرية تُنسى أقحواناتُ المساء مرتجفةً وراء الأبواب. في هذه القرية التي تستيقظ لتشرب المطر انكسرتْ في يدي زجاجةُ العالم. من ديوان «ليس للمساء إخوة» *** كنتُ أظنُّ أني سأبني وجودًا من خيال. أنَّ التخيُّل يُحيلُ الخيالَ جسدًا، والكلماتِ تبني بيتًا، أكون فيه لا قُبالتَهُ. مشيتُ طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمها. مشيتُ في اللغة بحثًا عن موطني، حتى اكتشفتُ أني أبحث عن وهم. ولأنّ اللغة كانت هي موطني، فإني ما سكنتُ إلا في الغياب. لم أكن غير كشّاشٍ لأرواح الكلمات. تلك التي خرجتْ من فمي، وروحي، وغابت بعيدًا. أتذكّرُ منها الآن النقطة الأخيرة الواهية في الأفق القصيّ. أتذكر منها عيونًا خرجت فجأة، التفتتْ إليَّ بلومٍ وغابت سريعًا. أتذكّر ريشًا تناثر بطلقات، وريشًا مستعجلاً للهرب، وخطًا دقيقًا رَسَمَه هذا الهروب في الفضاء، وامّحى بلحظة. لم أكن غير كشّاشٍ فاشل لأرواح الكلمات. *** محاولةُ لَحْمِ أحرف، محاولةُ إكمالِ كلمة إنّي ألعب الآن. ألعب مع الكلمات وأغشُّها لعلّي أربح شوطاً معها هذه التي خسرتُ معها في الماضي كلَّ الأشواط. ألعب معها وأضحك عليها وتضحك عليّ. ما بيني وبينها اليوم هو غير ما كان بالأمس. سقط وقارها وفقدت جدّيتها وصارت مجرّد لعبة. يقال إنَّ البشر سيصيرون جميعهم ألعاباً تسير بكبس أزرار. لا أظنُّ أنّي سأعيش إلى ذاك الوقت الذي أصير فيه لعبة كاملة. إنّي الآن لعبة ناقصة، نصف لعبة، ولهذا اخترتُ ما قد يجعلني لعبة كاملة: الكلمات. *** الصرخة بودّي أن أكتب رواية عن صرخة ٍ خرجت من فمِ شخصٍ وهو يموت، وهامتْ في الفضاء ثمّ عادت تبحث عنه صرخةٍ تريد الرجوع إلى الفم الذي خرجتْ منه إلى رحمها، نبعها الجافّ. بودّي أن أكتب عن صرخة تعود إلى صاحبها الميت وتعرف ماذا كان يريد أن يقول بودّي أن أعرف ماذا يقول ميتٌ لصرخته وماذا تقول الصرخة للفضاء. *** على حجر بودّي أن أكتب رواية عن موت التخيُّلات. عن الصرخة التي لا تعود إلى صاحبها، والصوت الذي لا يبحث صاحبُه عنه. بودّي أن أكتب فقط عن شخص حقيقيّ، يجلس على كرسيّ حقيقيّ، في حديقة حقيقيّة، ويعيش مع شجرة ونملة حقيقيّتين. الأحلام تقتل الحدائق، وتقتل الأحجار والجالسين عليها. بودّي أن أكتب عن حجر، لا يتحرَّك أبداً من مكانه وعن شخص يجلس مطمئنّاً على ذاك الحجر. من ديوان «رَتْقُ الهواء» استعادة شخص ذائب أجري بطيئًا، مثل آخر نقطة ماء نزلتْ، وتأخرتْ عن السيل. أجري بطيئًا زاحفًا للالتحاق بالجريان، وأتبخَّر رويدًا رويدًا. لن أصل. بعضي سيصير في الفضاء. وبعضي سيغرق في الأرض. تأخرتُ عن رفاقي ولن أصل. أزحف لكني لن أصل. قطَعٌ مني أفقدها، وقطعٌ ترافقني منهَكَة، وقطع تصير هباء. حتى إذا وصلتُ، أيُّ شيء مني سيصل؟! حولي عشب وحصى وتراب. طيرٌ ينقدُ بعضي. ونملٌ يأكل بعضي. وبعضي للعشب والحصى والتراب. أجري بطيئًا وفوقي يصعد خيطٌ مني، وتحتي ينزل خيط مني. أجري بطيئًا بين إبرتين، تخيطان عدمي. من ديوان «محاولة وصل ضفّتين بصوت» *** جمال العابر العابرون سريعاً جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غباراً قليلاً، سرعان ما يختفي. الأكثر جمالاً بيننا، المتخلّي عن حضوره. التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده. جمالاً في الهواء بغياب صوته. صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة. الأكثر جمالاً بيننا: الغائب. العابر سريعًا كملاكٍ مهاجر. غير تارك إقامة قد تكون مكانًا لخطيئة. غير مقترف خطيئة، غير مقترف إقامة. سريعًا تحت شمس لا تمسُّه، تحت مطر لا يبلّله، فوق تراب لا يبقى منه أثر عليه. سريعًا بلا أثر ولا إرث ولا ميراث. - لندفن الذاكرة ونحن نغنّي. إنها حفلة سخيفة في إية حال، ولكن بما أننا وصلنا، فلنغنِّ ونرقص. ثوانٍ، قد نكون فيها جميلين. لكن أجملنا سيبقى: الغائب. *** الانحراف ها هو العالم يختنق. إذ كيف يتنفّس العالم بلا هامشه؟ المنبوذون هم رئة الحياة. قلب الحياة، هو الهامش. هل نخرج من قلب العالم؟ نخرج، ما دام مليئًا بالدماء. نسكن في اليد الملوّحة للبعيد، في الشَعر المتطاير، في العين اللانهائية الامتداد. حينذاك نكون في القلب. القلب الأبيض، النسيميّ، السابح في الهواء. في نقاء الفراغ. في قلب الحياة عِرق للحق والخير والجمال، عرق منشقّ معزول، اسمه الاختلال. يمشي المختلّون في العِرق خفيفين، صامتين، لئلا يتفتّق العِرق ويفسد. لئلا ينفتح على العروق الأخرى، الدموية. لكي تبقى الدرب الضيّقة جميلة وسريّة. أرواحنا الصامتة الحزينة هي الجميلون في السر. الماشون في عرق الاختلال. أرواحنا الجميلة، هي المختلّون. من ديوان «غبار» *** رحيل لمسَ بابَ البيتِ وخرج تاركًا على القِفْل بعضَ أنفاسِهِ رآهُما ينظران إليه: القفلُ الذي كان يحبسُ وراءه عُوَاءَ الليل والبابُ الذي كان الصباحُ يطلعُ من شقوقه، رآهُما يتحلَّلان ويعودان يباساً على الطريق وكتلةً صدِئَة ورأى الحيطانَ ترجعُ إلى الجبال أحجاراً وحيدةً وحزينة والمَحْدَلَةَ على السطحِ تعودُ صخرةً في غابةٍ بعيدة والسقفَ الذي يَدْمَعُ دمعتيْن في الشتاء يهطلُ مثلَ جُرْفٍ يائس. لمسَ بابَ البيت ورحلَ تاركًا زهرةً في فتحة القفل وفوقَ السطح غيمةً من نظراته. *** كلُّ هذه الرياح ليست سوى آهات بشر. *** وللطريق رئة أيضاً امشِ عليها خفيفاً لئلا تختنق. *** مللتُ من انتظاركَ يا رفيقي القديم يا شبيهي يا وديع أين ذهبتَ؟ من ديوان «ريش في الريح» *** قال قال سيعيد تركيب حياته كي تُشْبه النسيم وتتناسبَ مع الأشكال والأحجام كلّها، رمى أعضاءً وأفكاراً وأهلاً وأمكنة رمى جسداً وقمصاناً كرَّ خيطان نفسه وبكَّلَ حياتَه بِزِرِّ ريح ودخلَ ثقوباً دخلَ ظلاماً وما عاد رأى كيف يعيد حياكةَ نفسه. من ديوان «تركيبٌ آخر لحياة وديع سعادة»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©