الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مستقبل القصيدة الجديدة بيد شعرائها

مستقبل القصيدة الجديدة بيد شعرائها
21 مارس 2018 20:18
كاظم جهاد موضوع هذا الملفّ ضروريّ، وفيه من الحفز على التفكير بحاضر الشعر ما يغري بالمساهمة فيه ولو بعجالة بسيطة. وتوخيّاً لوضوح الإجابة، سأتبع هنا ترتيب المحاور الثلاثة المطروحة من قبل «الاتّحاد الثقافيّ»: القصيدة الجديدة وغياب النقد الجادّ والموضوعيّ لها، العداوة المستحكمة، أو ما يمكن أن نسمّيه العداوة السلفيّة للقصيدة الجديدة، ولكلّ ما هو كتابة جديدة. الأفق المستقبليّ للقصيدة الجديدة. مثل كلّ الأشكال الشعرية أو الأدبيّة المبتكرة تحمل القصيدة الجديدة داخل شكلها مضموناً مختلفاً ورؤية للعالَم مختلفة. الشكل لا يوجد وحده، في اللّغة خصوصاً، وكذلك في كلّ الفنون. إنّ حجراً يعالجه نحّات قديم وآخر تنحته يدا برانكوزي لا تكاد تقوم بينهما أيّة علاقة. من هنا لا يكتب ناقد مثل هنري ميشونيك عن الشكل من جهة وعن المضمون من جهة أخرى، بل يكتب دوماً عن الشكل - المضمون، أي عن شكل يحمل في ثناياه مضمونه، أو عن الشكل بما هو نفسه مضمونٌ، مادّة يتمظهر فيها قولٌ شعريّ فتكون هي نفسها ملتحمة به وخاضعة لآثاره. وفي تخلّي القصيدة الجديدة عن أسس النظام الشعريّ القديم، واستنادها إلى روابط مفكّكة، أو إلى غياب الروابط بين مختلف عناصر النشيد الشعريّ، إعلان بدئيّ عن رؤيتها لعالَم متشظٍّ، وعلى كون المنظور الفنيّ الجديد لم يعد يكتفي بالمباشرة والنموّ الخطّيّ العارف ببدايته ومنتهاه، بل هو يتبع مساراً متعرّجاً أو التفافيّاً يوصل إلى بؤرة هي نفسها متملّصة وترفض الانحباس في صيغة ناجزة. «اللّا اكتمال هو الذروة» كما كتب إيف بونفوا في واحدة من صيَغة الفنيّة والروحانيّة. أمام واقعٍ يتقدّم في انحرافات وكسور، وأمام زمنيّة معاصرة تتّسم بالتقطّع والاستئناف المتواتر، لا معنى لشعريّة تقوم على التواصل والاستمراريّة. وأمام غوامض الوجود لا مجال للوضوح الكلّيّ. وأمام حداثة شهدت التحام الأنواع الأدبية والفنون لا مبرّر لقصيدة ترتكز على الغناء وحده أو على الوصف المحض. ومثلما استوعبت الرواية الحديثة مختلف إمكانات القول الأدبيّ، من الشعر إلى الفلسفة فالتقطيع السينمائيّ، ما الذي يمنع القصيدة من أن تستوعب لغة السرد وأدوات الفلسفة وأحدث معالجات الصورة الفنيّة وكثيراً من الدعابة واللّعب على الأشكال - المضامين والإفادة من حيويّة الفنون التشكيليّة ولغة السينما والمسرح، وأحياناً حتّى من «خشونة» الخطاب النقديّ والسياسيّ مذوَّبين في نصّ جامع تكون فيه الغلبة للشعر؟ غياب النقد هل استطاع النقد في العربية أن يواكب القصيدة الجديدة حقّاً؟ نعم ولا. نعم، إن نحن نظرنا إلى المتابعة المخْلصة التي تحظى بها أفضل المجموعات الشعريّة في الصفحات الثقافيّة للجرائد وبعض المجلّات. فهذه الكتابات الوجيزة التي هي بين التقييم الصحفيّ-الأدبيّ والتحليل النقديّ تضطلع بدور لا يمكن نكرانه، لا سيّما في غياب الدراسات المعمّقة لراهن الشعر أو ندرتها. ولا، إن نحن التفتنا إلى هذه الندرة، وما يشبه غياباً كاملاً للتحليلات الطويلة المفصّلة التي تُخضع للدرس عطاء شاعر بأكمله، أو توقفنا على عناصر الجدّة ومواطن العمق في الأعمال الشعرية الجديدة. إنّ هنا إحجاماً أمام الجديد تتضافر في خلقه عوامل عديدة، من أهمّها في اعتقادي تقصير الأقسام الأدبيّة في الجامعات العربيّة في مواكبة النقد العالميّ الجديد وإدخاله في برامجها التعليميّة، وبالتالي في وضعه على محكّ التطبيق. عداوة مثل كلّ الأشكال الشعرية أو الأدبيّة المبتكرة، تنسج القصيدة الجديدة على غير المنوال السّائد، أو حتّى على غير منوالٍ بالمطلق. وقد لا أتكّلم هنا عن عداوة موجّهة إلى القصيدة الجديدة بقدر ما أتحدّث عن عجزٍ عن إدراك مراميها والإحاطة بأدائها الإيقاعيّ واللغويّ المختلفَين اختلافاً جذريّاً عمّا اعتادته «الأذن الداخليّة» لفئة من قرّاء الشعر وممارسيه. معروف أنّ جاهل الشيء يكرهه. لكنّ مثْل هذا «الكره»، إن كانت الكلمة مناسبة، ينبع من التحدّي الإدراكيّ والذوقيّ الذي تطرحه القصيدة الجديدة على المتلقّين، أدباء كانوا أو نقّاداً أو قرّاء. التحدّي يثير النفور أغلب الأحايين، ويجبر المتلقّي، في حالة فنّ جديد جدّة حقيقيّة، على مراجعة كلّ آليّات التلقّي عنده وعلى إعادة النظر في رؤيته نفسها للّغة والشعر والعالَم والوجود. وما هذا بالشيء الهيّن، ولا يمكن أن يفلح في القيام به جميع المتلقّين، إن رغبوا حقّاً في أن يقوموا به. فالرغبة هنا لا تكفي، بل ينبغي أن تسندها إرادة حقيقيّة ويعزّزها جهد فكريّ ووجدانيّ ولغويّ دائب للالتحاق بمنطقة القول -التفكير-الإحساس الجديدة التي يجترحها كلّ فنّ أو شكل أدبيّ جديد، في النماذج الرفيعة منه طبعاً. وينبغي هنا التذكير بأمرَين. أوّلاً، ليس هذا الشجب لما هو جديد في الشعر والفنّ أو هذا القصور في إدراكه وتلقّيه محصوراً بالعربيّة. فلم تكن الطرق معبّدة لا أمام شعراء السريالية ولا أمام بيكاسو في مختلف أطواره الفنيّة قبل أن يصار إلى تكريسه، ولا أمام قصائد أبولينير المتشظيّة والمكسّرة المناظير عن عمدٍ، في تأثّر واضح بالرسم التكعيبيّ الذي كان هو أحد نقّاده الكبار. لا ولا أمام بودلير ورامبو ومالارميه. فعنصر التحدّي الذي يفرضه الجديد يفعل فعله، إيجاباً أو سلباً، في كلّ الثقافات واللّغات. وثانياً، ليس هذا النمط من ردود الأفعال السلبيّة مقصوراً على فئة من القرّاء أو النقّاد أو الشعراء المحافظين. بل إنّ بعض مجدّدي القول الشعريّ يمكن أن يخضعوا هم أنفسهم لغواية التوقّف بالتجديد عن حدّ معيّن يخشون إن هم تجاوزوه أن ينهدم المعمار الشعريّ الجديد. نتذكّر هنا موقف الشاعرة العراقية المبدعة نازك الملائكة، التي لا يمكن نكران رهافة لغتها الشعريّة ولا أهميّة مساهمتها، إلى جانب السيّاب والبيّاتي، في ترسيخ القصيدة التفعيليّة الحرّة (التي تعرّضت في بداياتها للمحاربة والشجب هي أيضاً). والحال أنّها، في كتابها المعروف والمهمّ في جوانب منه عديدة: «قضايا الشعر المعاصر»، تعبّر بوضوح عن تخوّفها من طبيعة القصيدة الحرّة المتدفّقة (الكلمة للملائكة نفسها) وسيولتها وشبه عجزها عن الانتهاء. فاتَها، على الرغم من كلّ ثقافتها الواسعة، أنّ لا-انتهاء القول الشعريّ أو لا-اكتماله، وعجزه عن السكوت في الوقت ذاته الذي ينشد هو فيه الصمت (صمت مرغوب فيه ومتعذّر، إن أمكن استعارة صيغة لموريس بلانشو في معرض كلامٍ له عن بيكيت)، هذا كلّه هو من سمات الحداثة ومن خصائص الوضع المؤسي والمتمرّد للكائن الحديث، وبالتالي من خصائص لغته الأدبيّة وفنونه. مستقبل القصيدة الجديدة عندما يكون الكلام منصبّاً على المستقبل، قد لا يمكن الإطالة. فما لا يمكن استعجاله والتخطيط له أو التكهّن به هو مستقبل الأساليب الفنيّة والأشكال-المضامين الأدبية. الجديد، إنْ هو تمتّع بنماذج قويّة ومتفرّدة بما فيه الكفاية (وثمّة العديد منها في القصيدة العربية الجديدة) ينتهي به الأمر دوماً إلى أن يفرض نفسه ويتحوّل إلى تراث ينشأ، لا على أنقاضه بل على أسسه، جديدٌ آخر أو قادم. لكنّ القصيدة الجديدة نفسها، حتّى تنال امتياز القدرة على صنع تراث قادم، ينبغي أن «تقسو» في معاملة نفسها، وأن ينهض شعراؤها بأعباء التجديد الحقيقيّ، ويُبعدوا عن أعمالهم هذا الإسفاف والنمطيّة والبساطة المفرطة وسواها من مظاهر الاستسهال التي تشيع في كتابات المتشبّهين بالشعر الجديد، والتي تشكّل أسلحة يَشهرها ضدّ القصيدة الجديدة مناوئوها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©