الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما تدخل البشرية زمن شعريّة العلم

عندما تدخل البشرية زمن شعريّة العلم
21 مارس 2018 20:24
أحمد فرحات لا نريده أن يكون يوماً اعتيادياً تقليدياً ويمضي: «يوم الشعر العالمي»، كما لا نريده أن يتحوّل إلى «موضة عابرة» يُحتفى بها على غرار بقية الـ«يوميات» المناسباتيّة السنوية (وما أكثرها غدت) التي كرستّها منظمة اليونيسكو أو غيرها من منظمات دوليّة اعتبارية على مستوى العالم. «يوم الشعر العالمي» نريده أن يكون يوم الاحتفاء الاستثنائي بالإبداع الشعري وبيئاته ورموزه، من شعراء ونقاد ومحبّين للشعر و«محرّضين» عليه، خصوصاً وأن القصيدة تقريباً كانت أول وسيلة فلسف بها الإنسان ذاته ووجوده وأسطورته، والتي بها كوّن طبقة جينيالوجية من «المفاهيم» الدفينة والخبرات التي عكست انفتاحه على العالم، وجلب اللحظة التاريخية إلى الزمن الحاضر والزمن المقبل من خلال نزعة انصهاره بالآفاق. كما نريد من «يوم الشعر العالمي» أن يكون منصّة للدعوى إلى تغيير مناهج تدريس النصوص الشعرية في مختلف المراحل التعليميّة المتعلّقة بالنُظُم التربوية في دول العالم وعلى مستوى اللغات كلّها، خصوصاً في زمن يتراجع فيه الاهتمام بالشعر على نحو غير مسبوق، وطموحاً إلى جعل الشعر، من خلال الأكاديميا، عبارة عن معنىَ لا يُدرك بقدر ما يُعاش، وفعلاً تأويلياً تظلّ له إشعاعاته، حتى وإن قامت على خاصيّة معيارية ذات ضوابط معينة، حرة طبعاً وغير مقيّدة إلا بالإبداع عينه. كما نريد من «يوم الشعر العالمي» أن يكون سانحة تُثار فيها مسألة قيام منابر إعلامية ونقدية متخصّصة بالشعر والنقد. فعلى المستوى العربي، مثلاً، لم نعد نرى مجلات شعرية رائدة، تلمّ شمل التجارب الشعرية الاعتبارية، وتقدّمها في قالب إبداعي ونقدي تنافسي، كتلك التي شهدناها منذ عقود، على غرار مجلات «شعر» و«الآداب» و«حوار»، ومن ثمَّ «مواقف» و«الكرمل» في لبنان ثم في قبرص، و«الثقافة الجديدة» في «المغرب» و«إبداع» في مصر، مثالاً لا حصراً، وشكّلت جميعها رافعات إبداعيّة للتجارب الشعرية العربية الحديثة بتمرحلاتها التاريخية وأجيالها الشعرية المتعاقبة والمعروفة على مستوى ثقافي عربي عام؛ لأنه من دون مجلات شعرية ونقديّة جديّة متخصّصة، يصعب على أي حراك إبداعي شعري، اليوم أو غداً (سواء كان فردياً أم غير ذلك) أن يبلور نفسه كتيّار فني كتابيّ، يُرصد ويُدرّس ويُقوّم من خلال بيان نتاج شعرائه المميزين، والذين بهم تتم التأرخة لولادة مسار شعري عربي أو قيام نهضة شعرية عربية، من شأنها أن تكرّس الاحتفاء الحقيقي بالشعر والتصويب على أسئلته الجديدة الحارقة؟ يقول الشاعر الكبير أنسي الحاج في حوار صحفي كنت أجريته معه في شهر مايو (أيار) من العام 1985 ونشرته مجلة «الكفاح العربي» اللبنانية: «المجلات الشعرية هي بمثابة الأوعية والمرايا التي تعكس تجاربنا الشعرية وتجارب غيرنا في العالم، ولكل مجلة شعرية أو أدبيّة عمر افتراضي تتلوها، مجلة أخرى مغايرة لها، تفترضها بالضرورة التجارب الشعرية المستجدّة، والتي لا تستولد شعراءها المميزين فقط، وإنما نقّادها أيضاً، سواء عبر ما يسمى بنسيج تكامليّة الشاعر/‏‏ الناقد في الفرد المبدع الواحد أم من خلال النقاد الجدّيين الآخرين، ممن لا يقل عملهم النقدي إبداعاً عن إبداع النصوص الشعرية التي يتصدّون لها بالتقويم والتقييم». وعمّا إذا كان الناقد، هو مجرد شاعر فاشل يلجأ إلى النقد ليعوّض عن فشله في ميدان الشعر، سألت الشاعر أنسي الحاج، فأجابني من فوره «إن خطورة العمل النقدي في حال تَنَكّبَهُ صاحبه بوعي معرفي عميق ومركّب، يمكنه بالتأكيد أن يؤسّس للشعر أفقاً جديداً متمادي الأبعاد والدلالات، قوامه بالطبع ذلكم التأويل الفريد الذي يظلّ ينتجه النص النقدي الموازي للنص الشعري نفسه، حيث يستحيل خلالها المعنى شكلاً، والشكل معنى». وأردف أنسي الحاج جازماً بأنّ «الناقد العميق الرائي، هو ركن القصيدة الآخر، و«المفوّض السامي» بأبعاد خارطتها، ومفجّر طاقاتها الرؤيوية في الفضاء الدلالي الواحد المتعدّد». هكذا، وبوجيز العبارة، لا قيامة للعمليّة الشعرية من دون قيام العملية النقدية الموازية لها في الإبداع وطرح الأسئلة الجديدة المبدعة، ولا قيامة لهذين الحقلين الإبداعيين المتكاملين، من دون منبر أدبي طليعي يقدمهما معاً في إطار مرجعي يلائم بين ديناميّات ما يحتويه من مضامين شعرية مختلفة ومفارقة. مقطع القول، في «يوم الشعر العالمي» يتحتّم على جميع الغيارى على فن الشعر، من أفراد وجماعات ومؤسّسات ثقافية، الدفع لقيام منبر شعري حر ورفيع المستوى، يتوق إليه كل الشعراء الجادّين والنقاد الاعتباريين، ليس في دنيا ثقافتنا العربية وحسب، وإنما في دنيا ثقافات العالم كافة. ولا نتكلّم هنا عن اشتراطات صعبة مفروضة، وإنما نقصر كلامنا على مجرد استحداث محطة انطلاق شعرية ونقدية فاعلة ومتفاعلة، فلسفتها تتجسّد ببساطة في قيام منبر أدبي متخصّص، يضطلع بدوره على أكمل وجه. خرافة الصراع في اليوم العالمي للشعر، آن الأوان أن نتجاوز حديث صراع القديم والجديد في الشعر، حتى ولو كان هذا الصراع سيظل ماثلاً في أذهان الكثيرين، فالشاعر الحقيقي المنذور للشعر الحقيقي، لا يهمّه كل هذا الذي قيل ويقال في الشعر من حواليه، بل يمضي واثقاً بتجربته ورسم علامات خارطتها وبيان لغتها الجديدة حتى آخر مدى. والشاعر، باعتباره كائناً لغوياً بامتياز، يسبقنا دوماً إلى كل شيء تقريباً، ويترك لنا بالتأكيد، أن نبني عليه ونبني ضده، بلا حرج البتة، طبعاً عبر النقد المبدع الموازي لتجربته. وإذا كان النص الشعري هو أعلى تمظهرات اللغة، فإن الشاعر الحقيقي قادر على شحن الكلمات بمدلولات جديدة، تؤكد على هذه التمظهرات، وتجعلها تكتمل بما هي فيه، وتكون سبب إشعاعها الدائم، والذي نسمّيه في المحصّلة: القصيدة. وكم هي محقّة تلك النظرة التي تقول إن همّ التغيير في القصيدة يكمن في استكشاف لغة جديدة، تؤكد على موجوديّة الشعر و«جنونه الأبدي»؛ كما تؤكد على الشكل الجديد كحامل للمعنى الجديد، برموزه المغايرة وصوره المختلفة؛ فشكل القصيدة كما يقول شاعرنا الكبير أدونيس «ليس نموذجاً أو قانوناً، وإنما حياة تتحرّك أو تتغيّر في عالم يتحرك أو يتغير، فعالم الشكل كذلك، هو عالم التغيرات». ولا بدّ من التوكيد في «يوم الشعر العالمي» على أهميّة القارئ كخالق آخر لعناصر القصيدة، حتى صار مقنعاً، على ما يبدو، القول إن القصيدة الجديدة اليوم، باتت لا تفهم إلا متى صار قارئها جزءاً من طبيعة كاتبها؛ فالنصّ الشعريُ يتداخل فيه النقدي بالفلسفي بالمعرفي على تنويعاته، على نحو أعقد من ذي قبل. صار الكلام على مصطلح قصيدة «المعرفة الملتبسة»، مثلاً، وكذلك مصطلح «قصيدة اللاقصيدة» من العاديات في بعض وجوه النقد الطليعي اليوم. هكذا إذاً، القصيدة الجديدة العظيمة، باتت تتطلّب قارئاً عظيماً لها، يشارك في صنعها ونقدها وتبلّور معناها الذي لا يجمد على حال. وعلى الرغم من كل ما أصاب الشاعر وقصيدته وقارئه ومحيطه العام، إلّا أن الشعر، بحسب الشاعر اللازمني الكبير سان جون بيرس «يرفض فصله عن مجريات الحياة، كما يرفض فصل المعرفة عن الحب. الشعر ممارسة، الشعر شغف، الشعر قدرة عالية، الشعر تجديد مستمر يتجاوز الحدود. أما ما يؤخذ عليه من الغموض، فهو لا يرجع إلى طبيعته الخاصة التي هي الكشف والتوضيح». يلوح لي من جانب آخر، كمتابع للشعرية الجديدة، عندنا عرباً، وعند غيرنا في العالم، أن هذه الشعرية الجديدة، ما زالت تنصبّ في الأغلب الأعمّ من تجاربها على التقاط اليومي المهمّش، وحتى المرذول من الأشياء، وإعادة نفضه وتكثيفه بلمعان شعري ينطوي على رؤية شفيفة تأويليّة نافذة في عقل القارئ وحواسّه معاً. ولا زالت هذه الشعرية الجديدة تؤسّس للأبدية، حتى بلحظة قصيدتها الملحميّة القصيرة، والتي يعوّل عليها بأدوار إبداعيّة تجعلنا نثق بأن الشعر سيظلّ على عهده أرض التقاء، وسماء التقاء، بين الثقافات جميعاً. وحده الشعر يضرب الفوارق السلبية بين الثقافات، والتي هي غالباً من صنع السياسات. والقصيدة، بما هي روح مبادهة ومبادرة، لا تزال قادرة على إخراجنا من تلك العدميّة السياسيّة الصارخة، وكذلك من تلك المناخات الغرائزية البلهاء التي تعلو، في الشرق، كما في الغرب هذه الأيام. إن الوعي الدلالي التي تحتفظ به القصيدة في داخلها، يعمل كالطاقة المشعة التي لا تهاب شيئاً، وخصوصاً سيناريو انهيار العالم، الذي ما زال كثيرون، شرقاً وغرباً، يبشّروننا به، وبقرب لحظته. صحيح أننا أمام تفسخ وتشرذم وتشظِ مجتمعي وأممي غير مسبوق، غايته، ربما الارتداد بالبشرية الراهنة إلى أنماط التجمعات البشرية السابقة على بناء الدول؛ وصحيح أيضاً أن تيارات الثقافة العالمية الحديثة، ما زالت هذه الأيام في الإقامة الجبرية مشلولة عن العمل، مقارنة بنظيراتها السابقة، حيث إن مثقفاً واحداً مثل جان بول سارتر، كان يهزّ أركان دولة كبرى مثل فرنسا، فتحسب له ألف حساب، وكانت كلمته لديغول تنزل كالسحر على الجنرال المتنوّر، فيعمل الأخير بتوجيهاته ككبير مفكرين استراتيجيين، لا يُردّ رأيه أو حكمه.. والأمر عينه ينطبق على الروائي والمفكّر الكبير أندريه مالرو، الذي كان يحرص ديغول على تعيينه وزيراً للثقافة في العديد من حكوماته. صحيح كل هذا، ولكن الشعر في المقابل، هو عولمة مشعّة مضادّة، ما زالت قادرة على مواجهة عولمة سياسية غارقة قي قيامة الفوضى والظلام. وما زالت هذه العولمة الشعرية قادرة على أن تقول لي ولك وللآخرين: علينا أن نتعلّم كيف نكون مواطني هذا العالم وأعضاء سلميين في المجتمع الإنساني الكوني الواحد. شعريّة العلم لا يحتاج»يوم الشعر العالمي» ليذكّرنا بأننا في قلب أعماق الثورة الرقميّة التحوّلية راهناً، أو كما يسمّيها الألمان «الثورة الصناعية الرابعة». ولا شك أن الشاعر هذه الأيام يرضع أساطير العلم وسحرها واتساع فضاءاتها من خلال تلك التقنيات الذكية والدقيقة الصغيرة بحجمها والعملاقة بدورها ومدياتها. وهذه التقنيات غدت بمثابة كلمات – أزرار تفتح مغاليق العالم، تماماً كما تفعل القصيدة الكيانيّة. العلم له ميتافيزيقياه إذاً، تلك التي باتت تلوّن أفكارنا وأحلامنا وآفاقنا وما بعد آفاقنا، شئنا ذلك أم أبينا، فنجد أنفسنا فجأة أمام «شعرية علميّة» رهيبة يخاف منها العلماء قبل الشعراء، فيسمّيها ميتشيو كاكو، العالم الأميركي من جذور تيبيتية، وصاحب كتاب «فيزياء المستحيل» بـ«اللحظة العلمية»، التي تصنع عالماً جديداً كل لحظة، وتفتح على أهوال لا بدّ من فتحها، وكشف أسرارها كل لحظة. ومهما حاول الشعراء وكتّاب الخيال العلمي احتواءها، فإنها باتت، هذه المرة تتجاوز مخيلاتهم بالكثير.. الكثير من الشطح الخيالي الفانتازي لديهم، مهما كانت شساعته». ويرجع العالم ميتشيو كاكو ذلك إلى أن ما تراكم من معرفة علمية في العقود القليلة الماضية، يكاد يشكّل أكثر بكثير مما تراكم خلال التاريخ الإنساني بأسره. وهو يرى بأننا في العام 2100 سنشهد فانتازيات علمية حقيقية على كل صعيد، تفوق تصورنا كبشر، وبخاصة انها ستعتمد على معجزات النانو تكنولوجي، وكل ذلك سوف يُبنى ويقوم على أساس علمي متين تجري تجاربه اليوم في كبريات المعامل والمختبرات في مختلف دول العالم المتقدمة. يقول كاكو، وهو في المناسبة قارئ نهم للشعر وكتب الخيال العلمي، إنه بحلول نهاية هذا القرن ستتمكن تكنولوجيا النانو من جعل مصعد الفضاء Space Elevator الخرافي أمراً ممكناً. وكما في حكاية «جاك وساق الفاصوليا العملاقة» قد يمكننا في وقت من الأوقات أن نتسلّق بخفّة ومرونة، وصولاً إلى السحاب وما بعد السحاب. سوف ندخل مصعداً ونضغط على زر الصعود، ومن ثمّ نصعد لأعلى فأعلى، عبر أنبوب نانوي كربوني طوله آلاف الأميال؛ يمكّننا من تحدّي المزيد من عوالم الأكوان التي تتبدّى أمامنا. والمهم أننا سنبدأ بهذا التحدّي الاستكشافي الكبير، وستتبدّل معه كل معادلات العلم المتطورة حتى الآن ولاحقاً. وبحلول نهاية القرن الجاري، وعلى الرغم من كل العقبات الحالية، من تمويل مهمات الفضاء البشرية، سيقيم العلماء قواعد لهم على سطح المريخ، وربما على حزام الكويكبات الأخرى، وبعد ذلك، سيسلطون بصرهم على أحد النجوم غير المرئية بمناظيرنا المتقدمة الآن. ومع أن إرسال مسبار نجمي أمر أبعد من قدراتنا في الوقت الحالي، ففي غضون مئة عام قد يصبح هذا الشأن أمراً واقعاّ. وكي لا نستطرد أكثر في بعض أجزاء تفصيلية من صور معجزات الكون المثيرة للدهشة والإدهاش بلغة العلم، فكيف بلغة الأدب والشعر والخيالي العلمي؟!، فإن معادلة قصيدة السحر العلمي، لا بدّ ستؤكد حضورها وخصوصيّة مكوّناتها، وبخاصة مع متغيّرات الحياة نفسها ودور العلم في هذه المتغيرات، وهو دور، لا شك، سيبدّل من مجرى الحضارة البشرية بأكملها. هل ستنفجر التجربة الشعرية والأدبية والنقدية من الداخل أكثر لتكون مسؤولة لاحقاً عن إبداع فردوس سحري جديد، يقابل فردوس سحر العلم والتكنولوجيا؟ سؤال لا بدّ من طرحه والإجابة عنه، وإن كانت الإجابة معروفة سلفاً بنعم كبيرة، بل مضاعفة؛ غير أنّ التنبؤ بالمستقبل في ضوء الفتوحات والكشوفات العلمية، لم تعد مسألته توصف عند العلماء إلا بالمرعبة، لكن الخيال العلمي، أو خيال الشعراء والروائيين، وحتى الرسامين، مسألة لا يجوز التهوين منها. وما دام كلام كثير قد كتب وقرأناه حول أدباء الخيال العلمي، وفي الطليعة بينهم الفرنسي جول فيرن، فإنه يجدر بنا أن نتحدث عن شخصية عظيمة أخرى، ولكن في مجال الرسم هذه المرة، وهو ليوناردو دافنشي. ففي أواخر القرن الخامس عشر، رسم دافنشي أشكالاً جميلة ودقيقة لآلات سوف تملأ السماء يوماً ما، من رسوم لمظلات هبوط وطائرات عمودية (هليكوبتر) وطائرات شراعية انزلاقية، وحتى طائرات عادية. والمثير للعجب أن كثيراً من مجسّمات «ابتكاراته الطائرة» هذه، كانت من الممكن أن تطير فعلاً، إلا أن آلاته الطائرة، بحسب ميتشيو كاكو، كانت بحاجة لمكوّن واحد آخر؛ محرّك بقوة حصان واحد على الأقل، وهو شيء لم يتوفر إلا بعدها بأربعمائة عام. والأمر الذي لا يقلّ عن هذا إدهاشاً، بحسب العالم ميتشيو كاكو أيضاً، أن ليوناردو قدّم رسماً لمخطط كروكي خاص بآلة جمع مكيكانيكية، ربما سبقت زمانها مائة وخمسين عاماً. ويخلص عالم الفيزياء النووي، والمتنبئ العلمي الأول بالعالم هذه الأيام، إلى أن دافنشي كان مثل جول فيرن، قادراً على استشراف أفكار قوية عن المستقبل، من خلال استشارة حفنة من مفكّري زمانه الذين لا يهتمّون بأمر المستقبل، وكان واحداً من أعضاء دائرة صغيرة ممن كانوا يمثلون جبهة الابتكار. وعلاوة على ذلك، كان ليوناردو دائم التجريب والبناء وتقديم الرسوم لنماذج الأشياء، وهي سمة رئيسة لكل من يريد ترجمة أفكاره إلى واقع حيّ متحرك. في يوم الشعر العالمي، لا بدّ من أن نستذكر الشاعر الكبير سان جون بيرس، الذي كان أوّل شاعر عالمي حديث يتطرق إلى علاقة الشعر بالعلم، أو علاقة الشاعر بالعالم، والمشترك السحري بينهما. وكان محرّضاً على هذه العلاقة من موقع الكشوفات الكونيّة التي يرسمها كل من القطبين الجاذبين. ويرى بأن على الشاعر تتبّع واجب العالم في الرؤية البعيدة للكون وهندسة النظر إلى المطلق، ويترك الحرية للعالِم في كيفية دخوله عالم الشعراء، وبخاصة الشعراء الملحميين اللازمنيين بينهم. وقد كان بارعاً جداً من سمّى سان جون بيرس بالشاعر اللازماني، أو شاعر الأزمنة المتدحرجة، والأماكن المفتوحة على المطلق.. إذ أن بيرس شاعر المناخات المدارية والقارية وليس شاعر القصيدة ذات الغرض المحدد. ويؤكد على هذه المسألة أيضاً في سان جون بيرس، وإن بصيغة مختزلة جداً، ثيودور أدورنو، أحد أعمدة «مدرسة فرنكفورت» الشهيرة، عندما يرى بأن الشعر تعبير عن الكون الإنساني والكون الكونوي في آن معاً. مسؤولية الشاعر: تجربة الشاعر الإندونيسي ويليبروسدوس سليمان ريندرا «يوم الشعر العالمي»، هو يوم مسؤوليّة الشاعر عن قصيدته في المقام الأول، على الرغم من كل الإحباطات العملانيّة التي تقف قبالته، ومنها كما ذكرنا غياب المنبر النشري الشعري الجدّي، لأنّ من شأن مزايا الشاعر الكبير أن يكسح سائر المحبطات والعوائق الماثلة قبالته، أو تلك التي ستصادفه لاحقاً، بما في ذلك علّة وجوده نفسها، ويفرض الشاعر، بالتالي، على العالم أجمع مشروعه الإبداعي، حتى من داخل «كهفه» على حدّ تعبير الشاعر والمسرحي الأندونيسي الكبير «ويليبروسدوس سليمان ريندرا»، الذي حوّل منزله في مزرعته الصغيرة المتواضعة في جنوب جاكرتا إلى منبر شعري ومسرحي مزدهر بنصه وروحه كشاعر على السواء، ويؤمّ هذا «الكهف» كل من يرغب من محبّي الشعر والمسرح في إندونيسيا وخارجها. وكان لي شرف زيارة هذا الشاعر والمسرحي الكبير في دارته المذكورة، والتي منها انطلق محلياً وعالمياً وباتت شهرته تطبّق الآفاق، وكان على قاب قوسين أو أدنى من نيل جائزة نوبل، باعتباره رائد الحداثة والتحديث في إندونيسيا، شعراً وسرداً ونقداً وكتابة مسرحية ولعباً درامياً وإخراجاً طليعياً ومبتكراً. وما يتميّز به هذا الشاعر الكبير، هو جمعه بين جذور سلالات «إنسان جاوة» في بلاده، والذي يعود آخر بيان أحفوراته الفنية (أي إنسان جاوه) على الصخور هناك إلى أكثر من مليوني سنة، وبين إنسان هذا الزمن الأندونيسي الحديث، الذي يُجسّده شاعرنا ويليبروسدوس ريندرا نفسه كشاعر، يحرّر نفسه يومياً عبر هذا الاشتباك التأملي اليومي بكل ما حواليه من أساطير أندونيسية قائمة وأخرى مستأنفة، يعيد تأليف أشيائها وترتيب ذرّاتها من جديد في نصوص شعرية ولا أبهى ولا أجمل، وتتجاوز حدود العقل والقلب والذاكرة. إليكم هذا النموذج الشعري له، وقد سبق لنا وترجمناه مع العديد من نماذج شعرية خاصة به، تمتاز غالبيتها بهذه الروح الملحميّة الدفينة والضاربة في الزمن: «الزمن يتدفأ في كهوف أجدادنا/ ومعه يتدفأ عمق الأشياء/ التي ذهبت لتؤجّج أوقيانوسات أخرى/ مرئية وغير مرئية/ نعم، لن أخرج عن مداركم يا أجدادي/ الذي هو مدار الجميع على هذا الكوكب/ أنتم الذين قدمتم دروساً معجزة/ دروساً موجبة لتواضع البقاء/ ودروسكم هذه/ ما زالت تنتشل العالم من كوارثه/ حجر الكيمياء يقول لي/ ذرّة من الحقيقة/ محجوبة في كل مكان تقول لي/ إنه حتى هذه اللحظة/ حتى هذه النبضة يا أجدادي/ آثاركم تحكي/ عظامكم تحكي/ مآقيكم المجوّفة تحكي/ تراب أرواحكم يحكي/ ومعها تحكي بكامل فصاحتها/ خطوطكم المرسومة على الكهوف الأزلية/ التي تطيّف الأجواء كلها بتطييفاتها/.. كم أنتم يا أجدادي بارعون في خفق الزمن/ بعضه ببعض/ وضرب كل ما هو متشح بالرتابة فيه/ ليتقافز على حقيقته أمامكم/ وحتى في غيابكم/ جعلتم، يا أجدادي، الغياب لا يغيب/ جعلتموه روحاً لا تهدأ خطوطها على الصخر/ وزّعتم تمرينات كل شيء/ بحذاقة تحسدكم عليها مغامرة كل الكائنات/ القريبة والبعيدة على السواء/ يا أجدادي/ ها أنذا أسلّمكُم نهاري وليلي/ فافعلوا ما شئتم بي/ وبمغامراتي فيهما أيضاً/ فلست أنا سوى امتداد لكم/ امتداد لا يقوى عليه/ كل جدل هذا الزمن المفتوح». هكذا، ومن خلال هذا النصّ يقدّم الشاعر الأندونيسي ريندرا شعر الرؤية والوعي المعرفي الملتصق بها، وهو شعر يخترق الزمنيّة بطبيعته، منفتحاً على أشكال جديدة من التراكيب والصور والمعاني المبنيّة على شواهد التاريخ العتيق، تاريخ أجداده بسلالاتهم الإندونيسية العريقة، ينقلنا إليهم الشاعر عبر موتيفات خطوطهم المحفورة على الصخر، إلى فضاءات مستأنفة، لا تكفّ عن تشفير الوجود.. وجودهم واستعادته واستقصائه رمزياً ودلالياً. المنابر الرافعات هل يكون «يوم الشعر العالمي» مناسبة لإثارة مسألة قيام منابر إعلامية ونقدية متخصّصة بالشعر والنقد؟ فعلى المستوى العربي، مثلاً، لم نعد نرى مجلات شعرية رائدة، تلمّ شمل التجارب الشعرية الاعتبارية، على غرار مجلات «شعر» و«الآداب» و«حوار»، ومن ثمَّ «مواقف» و«الكرمل» في لبنان ثم في قبرص، و«الثقافة الجديدة» في «المغرب» و«إبداع» في مصر، والتي شكّلت رافعات إبداعيّة للتجارب الشعرية العربية الحديثة بتمرحلاتها التاريخية وأجيالها الشعرية المتعاقبة والمعروفة. فمن دون مجلات شعرية ونقديّة جديّة متخصّصة، يصعب على أي حراك إبداعي شعري، اليوم أو غداً (سواء كان فردياً أم غير ذلك) أن يبلور نفسه كتيّار فني كتابيّ، يُرصد ويُدرّس ويُقوّم من خلال بيان نتاج شعرائه المميزين، والذين بهم تتم التأرخة لولادة مسار شعري عربي أو قيام نهضة شعرية عربية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©