الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نثرُ الروح الحرّة

نثرُ الروح الحرّة
21 مارس 2018 20:27
هاشم صالح كم كنت أكره الشعر الحديث في البداية وبالأخص قصيدة النثر. كم كنت أنفر منها وأحقد عليها. والسبب أنني كنت متشبعاً بالقصيدة العمودية التي تملأ العين، وتشبع الأذن بإيقاعها الفخم. وأعتقد أن كل من تربى على قراءة المعلقات ومختارات الشعر العربي الأموي والعباسي والأندلسي، وحتى بدوي الجبل، وأحمد شوقي، بل وحتى نزار قباني يفهم ما أقول. ينبغي أن نعترف: الأذن العربية كانت معتادة على إيقاع الأوزان والقوافي العربية الفخمة ولا ترضى عنها بديلاً. من هنا سر امتعاضنا من الشعر الحديث وسخطنا عليه. فالنقلة أو القطيعة كانت صعبة علينا وقاسية جداً جداً. لكن قصيدة النثر قبل أن تظهر في العالم العربي ظهرت في فرنسا أولاً. ولهذه المسألة سوف أكرس مقالتي هذه. الحرية والحداثة ظهرت قصيدة النثر في الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر في حين أنها لم تظهر في العالم العربي إلا منذ منتصف القرن العشرين. وبالتالي فبينهما قرن من الزمان. ثم شاعت في أواخر ذلك القرن وتكرست على يد شعراء كبار ليس أقلهم رامبو ولوتريامون ومالارميه. ثم سادت وهيمنت في القرن العشرين على يد رينيه شار وهنري ميشو وآخرين عديدين. ويبدو أنها ظاهرة مرادفة للحداثة. فإيقاع الحداثة لم يعد هو إيقاع المجتمعات الزراعية الريفية التقليدية. وبالتالي فأصبح بحاجة إلى شكل شعري جديد لمواكبته. وعلى هذا النحو ولدت قصيدة النثر. يضاف إلى ذلك أن قيود الأوزان والقوافي ترهق روح الشاعر ولا تجعله قادرا على التعبير عن جوانيّته العميقة بحرية. ولهذا السبب كسر تلك الأوزان وراح ينفجر قائلا: أعطني حريتي أطلق يديّا! على هذا النحو ينبغي أن نفهم سبب ظهور الشعر الحديث. لم يكن بودلير أول من اخترع قصيدة النثر. فقد سبقه إلى ذلك شاعر مغمور يدعى: ألوزيوس برتران. ولكن بودلير كان أول شاعر كبير يدشنها فعلا ويكرسها ويخلع عليها المشروعية من خلال مجموعته التي تحمل العنوان التالي: «كآبة باريس: قصائد نثر صغيرة». ويبدو أنه تردد كثيرا قبل أن يتبنى قصيدة النثر. يحصل ذلك كما لو أنه كان يخجل من هذه التسمية، أو يخشى رفض الجمهور لها. وذلك لأن الجمهور الفرنسي، كما العربي، كان معتاداً على الإيقاعات الضخمة للشعر الموزون المقفى. فهو وحده كان قادرا على إشباعه شعريا مثلنا تماما. وعندما تجرأ بودلير على تبني قصيدة النثر ما كان يعرف أن هذه التسمية أو الصياغة سوف تلقى نجاحا منقطع النظير ليس فقط في فرنسا وعموم أوروبا وإنما أيضا في العالم العربي بل والعالم أجمع. ولذلك دعا مجموعته باسم: «قصائد نثر صغيرة» على سبيل التواضع. يحصل ذلك كما لو أنه كان يخجل من التسمية، أو يعتذر عنها مسبقا. ينبغي العلم بأن ديوانه الشهير «أزهار الشر» يتقيد كليا بالأوزان التقليدية والقوافي الفرنسية. على أي حال يقول في مقدمة المجموعة الخاصة بقصائد النثر هذه الكلمات الشديدة الدلالة والأهمية: «من منا لم يحلم في بعض أيامه الطموحة والجريئة بمعجزة النثر الشعري؟ أقصد بذلك كتابة النثر الموسيقي بلا وزن ولا قافية.. إنه نثر مرن بما فيه الكفاية ومتفكك بما فيه الكفاية أيضا: نقصد بأنه قادر على التأقلم مع الحركات الغنائية للروح الداخلية، ومع تموجات الأحلام، ومع اختلاجات الوعي العميق». قصيدة المتناقضات عندما نتأمل ملياً في هذه العبارات نلاحظ أن سبب اختراع قصيدة النثر يعود إلى مقدرتها على التعبير عما يعتلج في أعماق النفس بكل مرونة وحرية. فهي فعلا قصيدة مرنة متحررة من قيود الأوزان الكلاسيكية وعبودية القافية. ومعلوم أن الأوزان والقوافي تدفع أحيانا حتى بأكبر الشعراء إلى استخدام الحشو أو الافتعال غصبا عنهم. هذا في حين أن قصيدة النثر لا تتقيد إلا بحركة الروح الداخلية وتموجاتها الإيقاعية. هذا لا يعني أنها خالية من أي وزن أو إيقاع. فالواقع أن لها إيقاعها الداخلي الخاص ولكن الخافت، وأكاد أقول الخفي الذي لا تسمعه إلا الأذن المتعودة على تذوق الشعر حقاً. كانت قصيدة النثر تتميز بالقصر والكثافة إلى أقصى حد ممكن في بداياتها. لم تكن طويلة كما هو عليه الحال اليوم. كما أنها قائمة على المتضادات: فهي شعر ونثر في آن معاً. كما أنها حرة ومقيدة، فوضى تدميرية وتنظيم داخلي. من هنا ينتج تناقضها الداخلي ومتضاداتها العميقة والخطرة ولكن الخصبة. من هنا توترها الدائم أيضا وحيويتها. ولكن ينبغي العلم بأن قصيدة النثر أصعب بكثير مما نظن. فلها قيودها الداخلية التي لا يعرفها إلا الشعراء الحقيقيون. هناك تقنيات معينة خاصة بقصيدة النثر. وهي تعوض عن غياب الوزن والقافية بوساطة استخدام أشكال ومجريات جديدة قادرة على توليد الشحنة الشعرية، ولكن على الرغم من ذلك تظل قصيدة النثر قلقة، صعبة على التحديد. وكثيرا ما يستسهلون قصيدة النثر فيكتبها كل من هبَّ ودبَّ. أنظر المجموعات الشعرية العربية التي تتكاثر كالفطر، والتي تتشابه أيضا إلى درجة أنك لا تعرف التفريق بينها ما عدا عند الشعراء الحقيقيين. وهذا هو أحد أسباب نفور الناس من الشعر الحديث. مهما يكن من أمر فان قصيدة النثر فرضت نفسها على فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لأن ثلاثة من الكبار كتبوا بها وهم: بودلير، ورامبو، ومالارميه. ولا ينبغي أن ننسى ذلك الوحش الرهيب لوتريامون! كان تيوفيل غوتييه صديق بودلير قد نظَر لقصيدة النثر بعد صدور مجموعة صديقه التي رحب بها. لنستمع إليه قائلاً هذا الكلام الصائب والدقيق: «ينبغي الاعتراف بأن لغتنا الشعرية لم تعد تتناسب مع التعبير عن التفاصيل الصغيرة المستمدة من واقع الحياة اليومية وبخاصة عندما يتعلق الأمر بمواضيع الحياة الحديثة، سواء منها العادية المبتذلة أو المترفة الراقية. أقول ذلك على الرغم من كل الجهود التي بذلتها المدرسة الحديثة لتليين هذه اللغة الشعرية وجعلها أكثر مرونة. ينبغي الاعتراف بأن الوزن الفرنسي التقليدي الجهوري بكل إكراهاته القسرية لا يستطيع بسبب بنيته ذاتها التعبير عن الخصوصيات الدقيقة أو الحالات النفسية الخصوصية. ولذلك أقول بأن قصائد النثر الصغيرة التي كتبها بودلير جاءت لكي تسد هذا النقص أو هذه الحاجة..». انتهى كلام تيوفيل غوتييه. ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج أن الحاجة الداخلية الماسة هي التي دفعت بودلير دفعا إلى كتابة قصيدة النثر وليس حب السهولة أو الخوف من الأوزان والقوافي. فالرجل أثبت قدرته الفائقة على نظم القريض من خلال ديوانه الشهير «أزهار الشر» كما ذكرنا آنفا. ولا أحد يستطيع المزايدة عليه من هذه الناحية. وبالتالي فلا يظنن أحد أنه اخترع قصيدة النثر حباً في السهولة، أو خوفاً من صعوبة الأوزان والقوافي، وإنما فقط من أجل التعبير بشكل أفضل عن تفاعلاته النفسية وهيجاناته الداخلية. ثم من أجل التعبير بدقة أكثر عن مظاهر الحياة الباريسية الحديثة التي كانت التكنولوجيا قد دخلتها في عصره وقلبتها رأسا على عقب. هذا وقد كتب بودلير قصيدتين عن شعر الحبيبة أو خصائل شعرها: الأولى موزونة مقفاة، والثانية بلا وزن ولا قافية. ولم نعد نعرف أيهما أجمل! لنستمع الآن إلى بعض المقاطع المترجمة عن قصيدة النثر لا الوزن. وأعتذر سلفا عن الترجمة الرديئة فالشعر لا يترجم كما قال سارتر، وإنما يُقرأ بلغته الأصلية وبخاصة إذا كان شعر الكبار. ولكن ما العمل وليس باليد حيلة؟ فليس كل الناس يعرفون اللغة الفرنسية. سوف أحاول إعطاء الترجمة العربية بعضا من روح بودلير بقدر المستطاع: ((اتركيني أشم طويلاً طويلاً رائحة شعرك، عطر شعرك الغالي. اتركيني أغمر وجهي في تلافيف شعرك كرجل عطشان يعب من النبع. اتركيني أتلاعب بخصلات شعرك كمنديل معطر لكي تتناثر الذكريات في الهواء. آه ليتك ترين كل ما أرى! ليتك تعرفين كل ما أحس به وأنا أدفن وجهي في شعرك الغالي! ليتك تعرفين كل ما أسمعه في خصلات شعرك! روحي تسرح على العطر، كما تسرح روح الآخرين على الموسيقى. شعرك يا حبيبتي حلم كامل. شعرك فيه أشرعة سفن وصوار. شعرك فيه بحار كبيرة تحملني رياحها الموسمية نحو مناخات جميلة، هناك حيث الفضاء أكثر زرقة وعمقا، هناك حيث الجو معطر برائحة الفواكه، بأوراق الشجر والبشرة الإنسانية. في بحر شعرك يا حبيبتي ألمح مرفأ مليئاً بالأغاني الحزينة، بالناس الأقوياء من كل الأمم والشعوب، بالقوارب الشراعية من كل الأشكال والأنواع، بالسفن التي تتقاطع عماراتها الجميلة المعقدة، بالسماء الشاسعة حيث تسترخي الحرارة الأبدية. بملامسة شعرك أسترجع ذكرى الساعات الطويلة التي أمضيتها مسترخيا على الديوان، أو مستلقياً في حجرة سفينة جميلة تهدهدها الترنحات الخفية للميناء، ما بين أصيص الأزهار وأباريق الفخار الطرية. في الموقد المشتعل لشعرك أشم رائحة التبغ ممزوجة بالأفيون والسكر. في ليل شعرك الغامر أرى اللازورد القطبي اللانهائي يسطع ويتلألأ. وعلى الحواف المزغبة لشعرك الغامر تسكرني العطور الممزوجة بالقطران والمسك وشراب السوس. أتركيني أعض طويلا، طويلا، على ضفائر شعرك الثقيلة السوداء. عندما أعضعض شعراتك اللدنة النافرة أشعر وكأني آكل من لحم الذكريات)). من قراءة هذه القصيدة نعرف أن بودلير يتحدث عن عشيقته الزنجية السوداء: حنة دوفال. وهي حبيبة عمره. وقد أصر على حبها على الرغم من الفضيحة الهائلة التي أحدثها في المجتمع البورجوازي الفرنسي آنذاك. فقد استنكر الفرنسيون ذلك كل الاستنكار وفي طليعتهم أمه التي جننتها هذه العلاقة ولم تفهمها على الإطلاق. كيف يمكن لشخص فرنسي من أفضل العائلات أن يعشق امرأة سوداء؟ وعندما نتأمل ملياً في القصيدة نستغرب كيف قارن بين القطران والمسك وشراب السوس! وهي أشياء متنافرة. فالمسك شيء، والقطران شيء آخر. ولكن عندما نقرأ سيرة حياة عشيقته السوداء لا نعود نستغرب ولا تعود هذه المقاربات تصدمنا كثيراً. ولكن يبقى صحيحا القول بأن قصيدة النثر تحتوي على الكثير من التشابيه المباغتة والصادمة للذوق الطبيعي. فهل يتعمد شعراء الحداثة ذلك أم أن الحياة الحديثة نفسها أصبحت تحتوي على الكثير من مظاهر النشاز والقبح والجمال في آن؟ مهما يكن من أمر فان اللعب على وتر المتضادات والمتناقضات أصبح يشكل إحدى سمات الحداثة الشعرية كأن نقول: الليل أبيض، أو النهار أسود. يضاف إلى ذلك أنه في الماضي كان الشعراء الكلاسيكيون يتحاشون التحدث عن القبح كما لو أنه غير موجود في الحياة. ما كانوا يتحدثون إلا عن الجمال. أما شعراء الحداثة فيتحدثون عن كل شيء. أخيراً، فإن قصيدة النثر فرضت نفسها في عصر الحداثة إلى درجة أن من يكتب غيرها أصبح يعتبر تقليدياً بالياً أو حتى رجعياً! ولكن لا ينبغي أن نبالغ في الأمر. فالعديد من الشعراء الكبار يستخدمون جميع الأشكال الشعرية: موزونة مقفاة، أو شعر تفعيلة، أو قصيدة نثر محضة. وأحيانا يخلطون في ذات القصيدة بين هذه الأشكال الثلاثة، كما فعل رامبو في ديوانه الشهير: فصل في الجحيم. المهم أن يكون هناك شعر. سبب وحاجة كان تيوفيل غوتييه صديق بودلير قد نظَر لقصيدة النثر بعد صدور مجموعة صديقه التي رحب بها. لنستمع إليه قائلاً هذا الكلام الصائب والدقيق: «ينبغي الاعتراف بأن لغتنا الشعرية لم تعد تتناسب مع التعبير عن التفاصيل الصغيرة المستمدة من واقع الحياة اليومية، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بمواضيع الحياة الحديثة، سواء منها العادية المبتذلة، أو المترفة الراقية. أقول ذلك على الرغم من كل الجهود التي بذلتها المدرسة الحديثة لتليين هذه اللغة الشعرية، وجعلها أكثر مرونة. ينبغي الاعتراف بأن الوزن الفرنسي التقليدي الجَهْوَري بكل إكراهاته القسرية لا يستطيع بسبب بنيته ذاتها التعبير عن الخصوصيات الدقيقة أو الحالات النفسية الخصوصية. ولذلك أقول بأن قصائد النثر الصغيرة التي كتبها بودلير جاءت لكي تسد هذا النقص أو هذه الحاجة..». الغريب من تحب أكثر أيها الإنسان الغامض، قل لي: أباك، أمك، أختك، أم أخاك؟ ليس لي أب ولا أم، ولا أخت ولا أخ. أصدقاءك إذن؟ أنت تستخدم هنا كلمة لم أسمع بها قط ولم أفهم معناها حتى الآن. وطنك إذن؟ لا أعرف على أي ارتفاع يقع. ربات الجمال؟ أحبها من كل قلبي غانيةً خالدة. الذهب؟ أكرهه كما تكره الشيطان إذن ماذا تحب أيها الغريب العجيب الشكل؟ أحب السحب..السحب التي تمر.. هناك.. هناك في الأعالي.. تلك السحابات الرائعة! .................. تفتتح هذه القصيدة مجموعة بودلير: سأم باريس. وهي أول قصيدة نثر كتبها
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©