الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القصيدة الفرنسية.. أعباء الإرث الثقيل

القصيدة الفرنسية.. أعباء الإرث الثقيل
21 مارس 2018 20:28
أنطوان جوكي كيف تُمكِن مقاربة قصيدة، مثل القصيدة الفرنسية المعاصرة، تتعدّد أراضيها وأشكال كتابتها إلى ما لا نهاية، وتحرم الناقد بحداثتها الزمنية من تلك المسافة الضرورية لإلقاء نظرة شاملة عليها ومحاصرة مختلف خصوصياتها؟ سؤال يختصر صعوبة هذه المهمة من دون أن يعني أنها مستحيلة ويتوجّب إرجاؤها ريثما يبدِّد الزمن ضبابية المشهد الشعري الفرنسي الراهن. فالناقد ليس مؤرّخاً، على رغم أهمية البحث التاريخي في عمله، ويمكن لتنوّع القصيدة المذكورة وراهنيّتها أن يشكّلا حافزين للتأمل فيها، مهما بقي هذا الجهد ما دون غناها. بدايةً، هناك عدة اتجاهات في الشعر الفرنسي المعاصر تعود إلى ما قبل المرحلة الراهنة؛ اتجاهات عميقة يتبنّاها شعراء فرنسيون كثر اليوم ويكيّفونها، كل واحد على طريقته. وفي هذا السياق، لا نبالغ في اعتبارنا أن قول بودلير: «جميع الشعراء الكبار يصبحون حتماً نقّاداً» ينطبق على عدد كبير منهم. فسواء اختاروا الاتجاه الطلائعي أو عانقوا غنائيةً مشدودة على ذاتها، نستشفّ لدى كلّ منهم إدراكاً كلياً لخياره الشعري، ودفاعاً ثاقباً ومُحكَماً عن نموذجه. فشعراء مثل فيليب جاكوتي، أو فرنسوا جاكمان أو إمانويل هوكار يبدون متيقّظين جداً لكل ما يهدّد أصالة الكلمة الشعرية، وخصوصاً ذلك الاستسهال في كتابة القصيدة. ومن هذا المنطلق يأتي تحفّظهم تجاه الزخرفة اللغوية والاستعارات ومختلف المؤثّرات الخاصة التي يرون فيها عقبةً، وليس سبيلاً، لبلوغ الجوهري. لكن هذا التحفّظٌ يتباين من شاعر إلى آخر ويتجلى بطرُق مختلفة. ففي السبعينيات، كان هنالك رفض قاطع للغنائية والذاتية والاستعارة، قبل أن يتراجع بشكلٍ كبير من دون أن ينال ذلك من إجماع الشعراء الفرنسيين على أن الهاجس الجمالي لا يتحكّم وحده بالكتابة الشعرية. عذابات الحرب لا شك في أن الظرف التاريخي يفسّر جزئياً هذا الرفض. فبعد أهوال الحرب العالمية الثانية، كان من الصعب الكتابة كما لو أن شيئاً لم يكن، ومتابعة بحث السورّياليين عن «لُقيات» لغوية وصورية مدهشة، من دون الالتفات إلى عذابات العالم. وفي الحقيقة، تجب العودة إلى بودلير، الذي أدرج الحداثة المدينية الرمادية داخل الشعر، لفهم مصدر ذلك الميل لدى الشعراء الفرنسيين المعاصرين إلى أخذ واقع زمنهم في عين الاعتبار، وسعيهم إلى ترجمة مناخ حقبتهم الخاص في نصّهم. ولانبثاق هذا الواقع داخل القصيدة الفرنسية الحديثة وجوهاً مختلفة، إذ يمكن أن يتعلق الأمر باستحضار الأشياء اليومية التي تحيط بنا ولا نعيرها اهتماماً يُذكر، ويدفعنا الشاعر إلى إلقاء نظرة جديدة وغير مألوفة عليها، على طريقة فرانسيس بونج، أو باستحضار ومساءلة منتجات وعناصر الحداثة والتكنولوجيا، كما فعل أبولينير في ديوان «منطقة» وما زال شعراء فرنسيون كثر يتمثلون به اليوم. وحين ينقل شاعر مثل جان ميشال مولبوا ذكريات من أسفاره، كما في ديوانه «هطول مطرٍ خفيف»، لا يسعى إلى تشكيل بطاقات بريدية جميلة، بل إلى تصوير عالمنا كما هو، في روعته وبؤسه. ويمكن القصيدة الفرنسية أن تقارب أحداثاً واقعية صغيرة جداً، كهبوط فراشة على زهرة، أو معانقة تشنّجات التاريخ الكبرى والاهتمام بقدر الإنسان. يمكنها أيضاً أن تتناول حدثاً حميمياً، ذكريات، أو وقائع بموضوعية وحياد، ونفكّر هنا بقصيدة ماري كلير بانكار التي تارةً تتوقف عند نظرة متبادلة بين إنسان وحشرة، وتارةً تستدعي أساطيرنا الكبرى. ويحدث أن يأخذ الاهتمام بالعالم الواقعي شكل الالتزام، كما لدى فرانك سميث (ديوان «غوانتنامو»)، مع واجب التوضيح بسرعة إلى أن الشاعر الملتزم هنا لا يعني بالضرورة شاعراً مناضلاً، فما يكتبه ليس قصيدة ظرفية تكمن قيمتها في جانبها النضالي فقط، بل نصّ يمكن أن نقرأه ونقدّره خارج الظرف الذي كُتِب فيه. ومثال هؤلاء الشعراء هو من شكّ رونيه شار أو إيميه سيزير. تنوع شكلي على المستوى الشكلي، نستنتج التنوّع نفسه في بنية القصيدة الفرنسية المعاصرة وطُرُق كتابتها. ولا عجب في ذلك، فالشعراء الفرنسيون هم أوّل مَن ثوّر الكتابة الشعرية وحرّر القصيدة من النظم الصارم. لكن إهمال أو تفجير البحور التقليدية منذ فترة طويلة في فرنسا لا يمنع عددا من شعرائها المعاصرين من الغرف من التقليد لاقتراح أشكال شعرية تستحضر الأشكال المثبَّتة، كما هو الحال مع جان إيف ماسون الذي يكتب قصائد من تسعة أبيات (Neuvains) أو أحد عشر بيتاً (Onzains) يعيد فيها إحياء تقليد شعري فرنسي قديم لكن بشكلٍ مبتكَر، كما يلجأ أحياناً إلى البحر «الإسكندري» لكن من دون الالتزام بالقافية أو بعدد المقاطع اللفظية المفترَض في كل بيت (12). من جهته، يستعين جاكوتي بالنظم الحرّ في عدد من دواوينه، كـ «الجاهل» أو «على ضوءٍ شتائي»، أو «تأمّلات تحت الغيوم»، وبالنثر المشظّى أو «الشقائق» في بعض تأملاته الشعرية. وهو ما نلاحظه أيضاً لدى مولبوا الذي يمارس النظم الحر، لكنه يبرع خصوصاً في فن النثر الشعري (ولا نقصد هنا قصيدة النثر). نثرٌ يختلف في طبيعته من ديوان إلى آخر فيأخذ تارةً شكل شذرات أو شظايا، كما في ديوان «عوالم»، وتارةً شكل مربّعات نثرية، كما في «قصة زُرقة» و»السنونوة الحمراء»، وتارةً شكل نصوص نثرية طويلة، كما في «غريزة سماوية» أو «الكاتب الخيالي». أما بونوا كونور فيلجأ في كتابته إلى الفقرة الشعرية التي تسمّى بالفرنسية Verset، ولا هي مقطع نثري قصير ولا بيت شعري من عدة أسطر، بل شيء آخر يقترب في شكله من قصيدة النثر من دون أن يتحلّى بمواصفاتها. وبينما يختار بعض الشعراء الفرنسيين زعزعة علم النحو في نصوصهم بطريقة تجعل لغتهم الشعرية تستحضر إلى حدٍ ما الكلام المحكي، مثل جايمس ساكري الذي نرى في مناوراته الكتابية رفضاً للتفخيم المفرط والأسلوب المنمَّق، ومحاولة لبلوغ لغة تعبير بسيطة لكن أصيلة؛ يختار شعراء آخرون تفجير الكلمات داخل فضاء الصفحة، متماثلين في ذلك بطريقة كتابة مالارميه في «ضربة نرد» أو بتوزيع أندريه دو بوشيه كلمات نصّه على الصفحة بشكلٍ يترك فراغات كبيرة بينها. وثمة شعراء آخرون، مثل سيرج باي، يلحّون على البعد الشفهي للشعر، فيعيدون بقصائدهم إحياء تقليد شعري قديم يعود إلى منشدي الملاحم في بلاد الإغريق وشعراء الـ «تروبادور» في جنوب أوروبا خلال القرون الوسطى. تقليد يشكّل الشعر فيه قبل أي شيء كلمةً منطوقة، مُنشَدة، موقَّعة، وبالتالي شفهية. وهذا ما يقودنا إلى الحركة الشعرية الواسعة في فرنسا اليوم التي تُخرِج الشعر من ركيزته التقليدية ـ الكتاب أو القصيدة ـ إلى الفضاء العام، أو تنزع عنه صفته الشعرية وتجعله يتجاوز نفسه ويشكّك في طبيعته وأحياناً يتنكّر لها، وتندرج في سياقها ممارسات شكلية وأدائية مختلفة، هامشية بالنسبة إلى الشعراء الذين لا يتبنون هذا الاتجاه، لكن مركزية وطلائعية بالنسبة إلى مَن ينشط ضمنه، كالشعراء الحروفيين (رولان ساباتييه، آن ماري كارون) وشعراء النصوصية (جان ماري غليز) وكتّاب «القصيدة ـ الملصق» أو «القصيدة ـ البيان» والناشطين تحت تسمية الشعر السمعي أو البصري، ونفضل من جهتنا تسميتهم بشعراء الأداء، مثل جان بيار بوبييو وجوليان بلين وشارل بينكين وكثيرين غيرهم. حركة يمكن أن نعود بجذورها إلى الدادائيين الذين كانوا أوّل مَن فجّر الحدود بين الشعر والفنون الأخرى في مطلع القرن الماضي، ويشكّل التجريب الشكلي أو الأداء السمعي أو البصري عنصراً جوهرياً في منجزاتها. يبقى أن نشير إلى أن إحدى مميزات الحقبة المعاصرة في فرنسا، والعالم عموماً، هي تلك السهولة الكبيرة التي يتمتع بها الشعراء في بلوغ نصوص من جميع الحقب والثقافات، ما يجعلهم عرضة لتأثيرات من خارج محيطهم الشعري. ومع أن هذا الأمر ليس جديداً، ففيكتور هوغو مثلاً تأثّر بشكسبير وبودلير بإدغار ألان بو، إلا أن شعراء اليوم ينعمون بخيار واسع من المراجع والنماذج الشعرية الأجنبية التي تغذّي عملهم الكتابي. وهذا ما يفسّر لجوء دانييل بيغا، كي لا نسمّي غيره، إلى نموذج الـ «هايكو» في عدد من دواوينه. ميراث لكن هل هذا يعني أنه يتوجب علينا أن نتحدث عن شعر «ما بعد حداثي» في فرنسا اليوم؟ قد يصلح هذا المصطلح للتدليل على وضع الشعراء الفرنسيين المعاصرين كورثة لكمٍّ من الأعمال والأشكال الشعرية التي يصعب أمامها الابتكار أو بلوغ فرادة في الكتابة. إرثٌ يخلّف دواراً لديهم ويقود بعضهم إلى لعبة الاقتباس أو الاختطاف أو خل ط المراجع، ظّناً منهم أن مغامرة ابتكار أشكال شعرية جديدة قد انتهت، وأن الاختبارات اللغوية بلغت حدودها، متسلّحين بتأكيد الفيلسوف تيودور أدورنو استحالة الشعر (بعد ما حدث في معسكر «أوشفيتز»)، أو بعبارة الشاعر دوني روش الإشكالية الشهيرة: «الشعر غير مقبول»، علماً أن كلّ منهما أوضح أن ما أراد قوله في هذا ا لسياق هو ليس استحالة الشعر أو رفضه بالمطلق، بل استحالة متابعة كتابته بالطريقة المعهودة. ومن قلب هذا الشعور بالاستحالة، يأخذ الشعر الفرنسي اليوم كل معناه، في نظرنا، إذ علينا أن لا ننسى أن تاريخه الحديث موقّع بالشك في سلطته، فبودلير عانق الصمت في النهاية، ورامبو هجر الكتابة الشعرية، ومالارميه انتهى مخنوقاً بفنّه. وبالتالي، ما برح هذا الشعر، منذ 1850، يتدرّب ويتآلف مع استحالته المفترضة، «مستوعباً إخفاقاته لقلبها إلى مفارقات»، كما كتب ميشال دوغي. ولذلك، الشاعر الفرنسي اليوم هو شاعر على الرغم من كل شيء، وقصيدته هي المكان الذي تتمّ فيه باستمرار إعادة صياغة تلك العلاقة الصعبة بالعالم والمعنى، وفضاءُ كتابةٍ قلقة، حائرة وباحثة، وأرضيةُ إبداعٍ ووعيٍ في آنٍ واحد. ومن هذا المنطلق، تبدو صفة «ما بعد حداثي» عبثية وغير مناسبة لوصفها، فالتوتر والصراع اللذان يعبرانها ويشكّلان مادّتها وجوهرها يدفعان بها إلى خطّ المواجهة الأمامي ويجعلان من «أقصى المعاصِر» ميدانها. أما دوّار إرثها فهو فرصة لكاتبيها نظراً إلى توسيعه أكثر من أي وقتٍ مضى حقل الحاضر أمامهم، حيث يمزجون أصواتهم بأصوات مَن سبقهم ومعاصريهم، ويتواجه إبداعهم مع التأمل الفلسفي وسائر ميادين المعرفة والفن، وتُكرَّم الترجمة كنشاط شعري بامتياز. حقلٌ تهزأ قصيدتهم فيه من الأمكنة والأزمنة والأنواع والتصنيفات، وتبدو أزمتها الهوياتية منقِذة لها ولهم، نظراً إلى تشكيلها دافعاً قوياً للبحث والاختبار والابتكار. أصغر الأشياء وأكبرها يمكن القصيدة الفرنسية أن تقارب أحداثاً واقعية صغيرة جداً، كهبوط فراشة على زهرة، أو معانقة تشنّجات التاريخ الكبرى والاهتمام بقدر الإنسان. يمكنها أيضاً أن تتناول حدثاً حميمياً، ذكريات، أو وقائع بموضوعية وحياد، ونفكّر هنا بقصيدة ماري كلير بانكار التي تارةً تتوقف عند نظرة متبادلة بين إنسان وحشرة، وتارةً تستدعي أساطيرنا الكبرى. ويحدث أن يأخذ الاهتمام بالعالم الواقعي شكل الالتزام، كما لدى فرانك سميث (ديوان «غوانتنامو»)، مع واجب التوضيح بسرعة إلى أن الشاعر الملتزم هنا لا يعني بالضرورة شاعراً مناضلاً، فما يكتبه ليس قصيدة ظرفية تكمن قيمتها في جانبها النضالي فقط، بل نصّ يمكن أن نقرأه ونقدّره خارج الظرف الذي كُتِب فيه. ومثال هؤلاء الشعراء هو من شكّ رونيه شار أو إيميه سيزير.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©