الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وُعود الشعر الإسباني

وُعود الشعر الإسباني
21 مارس 2018 20:30
محسن الرملي يفوق كم الإنتاج الشعري في إسبانيا أي ميدان كتابي إبداعي آخر، وعلى الرغم من ذلك فإننا لا نجد اليوم قامات شعرية وصلت إلى ما وصلت إليه أسماء كبيرة سابقة، وصارت خالدة في المتن الشعري العالمي، أمثال خوان رامون خيمينيث (نوبل 1956) وبيثنته ألكساندره (نوبل 1977) ولوركا وأنطونيو ماتشادو وألبرتي.. وغيرهم. ومع ذلك فإن الساحة تزدحم بالأسماء والأعمال والتجارب المهمة، ويتفق النقاد على أن الحركة الشعرية الإسبانية بخير ومفعمة بالخصب والقوة وتعِد بالمزيد، كما أكد الدكتور فرانثيسكو خافيير دي ريبينغا في كتابه (شعراء أسبان في القرن الحادي والعشرين)، مشيراً إلى شعراء بارزين حاولوا التجديد، واستطاعوا جلب انتباه القراء وتحفيز إعادة الاهتمام بالشعر ومتابعته، عبر أعمال نوعية، ويدلل على ذلك بتحليل تجارب شعراء من أجيال مختلفة، كلهم لا زالوا على قيد الحياة. من الصعب إعطاء صورة شاملة للحركة الشعرية الإسبانية اليوم، وذلك لكثرة الأسماء والتجمعات والطروحات التي تسعى لتقديم الجديد والمختلف، فتنجح أحياناً بإضافة ملمح تجديدي نوعاً ما، وليس بابتكار تيار أو رؤية جديدة تماماً، وهنا يمكننا الاستعانة بتلخيصات الناقدة والشاعرة خوليا بالييرو، لنأخذ فكرة عامة وتقريبية لأبرز ملامح الشعر الإسباني السائد، علماً بأنها تنتقد، طبيعة الحركة النقدية حيال الشعر، معتبرة إياها تصنع حجاباً من التشويش عندما تتوق لوضع قواعد تريد فرض ممارستها، بحجة موضوعية مزعومة، فيما هي مجرد إجراءات ومفاهيم قابلة للشك، وليست معصومة من الخطأ في تشخيصاتها للتغيرات التي يُحدثها الزمن. كما تدين انتشار ظاهرة الأنطولوجيات الشعرية لأنها تُربك القارئ، وخلقت عند كثير من الشعراء حالة من الهوس للمشاركة فيها، مفسرة ذلك برغبتهم بالتواجد وتسجيل الحضور والبقاء بأي شكل كان أو حتى لحلمهم بالخلود، وهو أمر ليس في صالح الحرية الإبداعية بكل تأكيد. جدل الأساليب تستعرض بالييرو المشهد الشعري الإسباني، منذ منتصف السبعينيات وبداية الثمانينيات، حيث ساد صراع جدلي بين الأساليب الجمالية المهيمنة آنذاك، المستقاة من تيار (الشعر الثقافي) والذي يتعمد الاهتمام بمحتواه الثقافي المفعم بالإشارات إلى الأساطير والرموز والتسميات الثقافية، والذي تم التكريس له انطلاقاً من الأنطولوجيا المعروفة بعنوان (التسعة شعراء الجدد) التي أعدها الناقد كاستليت، وبين الشعراء الذين تلوهم ممن ولِدوا بين الخمسينيات والستينيات، فهؤلاء كان يحركهم دافع إعادة أنسنة الشِعر. وكانت تلك فترة تشنجات تتسم بالتعقيد الذي كان يوازي القلق والشكوك السياسية والاجتماعية آنذاك... إلى أن تمت القطيعة النهائية مع التيار الثقافي في مطلع الثمانينيات، من خلال ما أسماه الناقد مانويل ريكو بالإصلاح المنقطع عما قبله، والذي لا يتم فيه قتل الأب، ولا استبدال الجماليات السابقة بشكل مفاجئ، ولهذا فإن عدد من الشعراء الذين كان تكوينهم تابعاً للتيار الثقافي، سرعان ما انضموا إلى تحديث الشعراء الشباب الداعي إلى إعادة الأنسنة، في محاولة منهم للتطوير وإنقاذ أنفسهم من التخلف عن ركب التطور، والذي كان يحدث في الحياة العامة، ومنها في بعض الهياكل السياسية الموروثة للنظام في المرحلة الانتقادية من الدكتاتورية إلى الديمقراطية. وبعد هذه اللحظة، صارت التيارات الشعرية كثيرة ومتباينة فيما بينها، منها تلك التي تميل إلى إيديولوجيات اليسار كي تدعم وتسند شعريتها، ومنها ما تمت تسميتها بشعرية (التجربة) أو (العاطفية الجديدة) والتي ستصبح التيار المهيمن حتى مطلع التسعينيات، هذا إلى جانب توجهات شعرية أخرى، ولو بدرجة أقل من الحضور، أهمها: (الرومانسية الجديدة)، التي مثلها الشاعران آليخاندرو دوكه آموسكو وابيلاردو ليناريس، (بلاغة الصمت) ومثلها خوسيه آنخيل بالينته وآندريس سانتشيث روبينا، وكلارا خانيس وأمبارو آموروس، والشعرية (الحِسيّة) التي يمثلها الشعراء فيرناندو بلتران وخوسيه ماريا بارينيو، ونوع آخر من (الانسياق الملحمي) كتجربة الشعراء ياماثاريس، ثيسير أنطونيو مولينا، وفي نسخة تقليدية خوليو مارتينيث ميسانثا، و(السريالية الجديدة) للشاعرة بلانكا آندريو.. وغيرها من التيارات. سنوات التطبيع كانت تلك سنوات من التعايش الديمقراطي غير المستقر بشكل عام، قبل حادثة 23 فبراير 1981 التاريخية المعروفة، والتي حاولت فيها مجموعة من القادة العسكريين، قلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة في إسبانيا، وتم فيها اقتحام قاعة البرلمان، من قبل مجموعة مسلحة قادها المقدم أنطونيو تيخيرو، وإثر فشل هذه المحاولة بدأت الانطلاقة الحقيقية للاستقرار الديمقراطي، حيث تم بعدها التكاتف والتطبيع بين الثقافة والسياسة، وصار التوجه نحو اتخاذ الواقع كمصدر رئيسي وهدف لما هو جمالي، وإن كان وفق القراءة الشخصية التي قام بها شعراء التجربة، مستلهمين نتاج شعراء جيل الخمسينيات وخاصة الاشتغال الشعري لخيل دي بيديما، ومن أبرز شعراء التجربة هؤلاء: لويس غارثيا مونتيرو، آلبارو سالفادور، بنخامين برادو، آنخيليس مورا، أنطونيو خيمينيث ميان وخافيير إخيا.. الذين قدموا أنفسهم كمتبنين لنظرة نقدية نحو المجتمع من خلال أساليب جمالية صريحة وواضحة الملامح. رحبت واحتفت الملاحق الثقافية الرئيسة ودور النشر والنقاد والأكاديميون والجوائز بهذا التوجه، وتبنوه بقوه وكأنه قضيتهم الخاصة، وعملوا بكثافة متزايدة على تكريسه وترسيخه، إلى الذي بدا فيه وكأنه مؤسساتي، تاركين مساحة هامشية قليلة لأية توجهات أخرى. فتم نشر الكثير من الأنطولوجيات الشعرية التي تدعم هذا التيار، أبرزها: (الشعر الجديد) التي أعدها ميغيل غارثيا بوسادا، و(شعر تجسيدي) لخوسيه غارثيا مارتين. ولكن، على مدار عقد الثمانينيات، كانت هناك تجارب كتابية برؤى أخرى، بقيت في الظل، على الرغم من الأعمال الكثيرة والمهمة التي أنجزتها، ومنها: الرؤية (التبسيطية) للشاعر كاتانيو كامبوس بامبانو أو آلبارو غارثيا، و(شعرية الحنين التأملي) للوبيث آندرادا ورويث نوغيرا، أو (الباروكية الجديدة) لأنطونيو انريكه.. إضافة إلى بؤرتين شعريتين ينطلقان من كونهما على الهامش، ويصارعان لمواجهة أساليب الشعرية المهيمنة حد الرسمية، وهاتان البؤرتان هما: (شعرية الاختلاف) التي انطلقت من مدينتي قرطبة ومالقا، وجماعة (مدينة بلد الوليد)، وهي أكثر قوة من حيث التنظير والتطبيق. وأبرز شعراء هاتين المجموعتين هم: خوسيه كارلوس سونيين، أنطونيو أورتيغا، أولبيدو غارثيا بالديس، ميغيل كاسادو، إلديفونسو رودريغيث، كونتشا غارثيا، بيدرو بروبنثيو. وصولاً إلى الأعوام الأخيرة، حيث تطور وتنوع المشهد الشعري الإسباني أكثر، وصار أقرب لاهتمامات الميدان الإعلامي، والذي يسميه الناقد بيثينته لويس مورا (شعرية العادي)، وكان الشاعر ميغيل كاسادو قد أشار قبله إلى «اللغة الشائعة»، والتي صرنا نجدها في أعمال أغلب شعراء اليوم، كما يتضمن بعض هذا الشعر سلسلة من إشارات تجسيدية، تشكيلية، موسيقية وتمثيلية أكثر منها مكتوبة، والتي لا زالت بانتظار المزيد من اعتراف النقد ودور النشر بها. علماً بأن بعض أنساقها مستمدة أساساً من أواخر تيار (شعرية التجربة)، مطعمة إياها بمختلف جماليات الأساليب الموجودة. تعددية وتنوع منذ مطلع الألفية الحالية، يتم الحديث أيضاً عن انفتاح على التنوع والتعددية الجمالية في شعر الشباب، فبالإضافة إلى المرجعيات الأدبية وتيارات الشعرية التقليدية الإسبانية، ينهلون من تجارب شعريات الآداب الأوروبية والأميركية الحداثوية، وهو ما جعلهم ينزعون الصورة التقليدية السيئة عن بعض رموز الحركات الطليعية، وعن نماذج كالشاعر تشارلز بوكوفسكي، ويعمل الشباب على ما هو متداخل الميادين والتخصصات، امتزاج الفنون، كما يتزايد عدد الشعراء الذين يسعون لإحياء التفكير النقدي حول الفعل الشعري واللغة الشعرية. وهنا يرصد الناقد مانويل ريكو ما يسميه «احتفالية التنوع»، في سعي منه لإيجاد مناطق مشتركة بين الشعريات المختلفة. احتفالية تنوع تتميز برؤية منفتحة لا تستبعد أي تجربة شعرية، وتقترح الخطوط التالية للتعرف على حال الشعر اليوم: = بُعد جديد لشعر التجربة، حيث إن الشعراء الذين يتبعون هذا التيار، يمارسونه بشكل أعمق وأكثر تأملية، وبتوجه أقل عقلنة، مثل: البيرتو تيسان، ادواردو غارثيا، لويس مونيوث، غارثيا كاسادو، اندريس نيومان. = التوسع في شعرية الذات الفردية العاطفية والتأملية، ذاتية راديكالية في تماسها مع الحس الوجودي، مثل: آدا سالاس، آنا مرينو، لويسا كاسترو. = البحث عن تجسيد جديد للغة كأداة، من خلال منطلق يمزج بين الأخلاقي والجمالي، بين مصادر تشكيلية مثل الرسم والسينما والتصوير والتلفزيون، وبين التجربة اليومية وصلاتها مع اللغة، مثل: نيال بينس، آندريس فيشير. = التعمق في شعر التأملية والحميمية في العلاقة مع الطبيعة، نوع من البحث عن التقاط ما لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، الرهان على الخيال وإنقاذ ذاكرة ظاهرة مرئية أو غاطسة، ومرجعيتهم في ذلك: كلاوديو رودريغيث، والشعر الأنكلوسكسوني الأكثر امتزاجاً مع الطبيعة، مثل وورد وورث، وييتس وتوماس هاردي. وكمثال على ذلك تجربة الشعراء: دييغو دونثيل، خوسيه لويس ري، جوردي دوثه، بيثنته باليرو وخوان آبيليرا. = المراهنة على تمرد اللغة الشعرية، من خلال وعي نقدي بمواجهة الواقع. وهو خط سلكه الشعراء بشكل قليل في العقود السابقة، ولكنه يكتسب الآن زخماً في الأعمال النقدية والشعرية لآنطونيو مينديث روبيو وإنريكه فالكون. أفق المشهد الناقد الأكاديمي فرانثيسكو دي ريبينغا، المهتم في تقييماته بقضية الأصالة، يقر بأن آفاق المشهد الشعري الإسباني الحالي مفتوحة وثرية ومزدهرة بشعراء يواصلون التعبير عن قلقهم وهمومهم، متواطئين مع الحياة، محاولين تفسير الوجود الإنساني، ويريدون التقصي عن الكلمة الشعرية الدالة والمعبرة عن عواطفهم وانفعالاتهم وتجاربهم. فيما تعزو الناقدة بالييرو هذا التنوع إلى أزمة طروحات العولمة، والحاجة إلى استيعاب الهياكل الاجتماعية والتواصلية الجديدة، واتساع إمكانيات التواصل والتبادل الثقافي.. أو كرد فعل غريزي على فوضى ما بعد الحداثة. وتعتبر غياب العقائدية الثقافية أمراً جيداً، مشيدة بظاهرة تزايد الشعراء الذين يكتبون عصرهم بوعي صافٍ واستقلالية... أما عن مستقبل الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، فإنه لمن الصعب الحديث عنه، إلا من باب التوقعات والتكهنات. الذهاب نحو الواقع شهدت البلاد سنوات من التعايش الديمقراطي غير المستقر بشكل عام، قبل حادثة 23 فبراير 1981 التاريخية المعروفة، والتي حاولت فيها مجموعة من القادة العسكريين، قلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة في إسبانيا، وتم فيها اقتحام قاعة البرلمان، من قبل مجموعة مسلحة قادها المقدم أنطونيو تيخيرو، وإثر فشل هذه المحاولة بدأت الانطلاقة الحقيقية للاستقرار الديمقراطي، حيث تم بعدها التكاتف والتطبيع بين الثقافة والسياسة، وصار التوجه نحو اتخاذ الواقع كمصدر رئيس وهدف لما هو جمالي. ورحبت واحتفت الملاحق الثقافية الرئيسة ودور النشر والنقاد والأكاديميون والجوائز بهذا التوجه، وتبنوه بقوة وكأنه قضيتهم الخاصة، وعملوا بكثافة متزايدة على تكريسه وترسيخه، فتم نشر الكثير من الأنطولوجيات الشعرية التي تدعم هذا التيار. حجاب التشويش تنتقد الناقدة والشاعرة خوليا بالييرو طبيعة الحركة النقدية حيال الشعر، معتبرة إياها تصنع حجاباً من التشويش عندما تتوق لوضع قواعد تريد فرض ممارستها، بحجة موضوعية مزعومة، فيما هي مجرد إجراءات ومفاهيم قابلة للشك، وليست معصومة من الخطأ في تشخيصاتها للتغيرات التي يُحدثها الزمن. كما تدين انتشار ظاهرة الأنطولوجيات الشعرية؛ لأنها تُربك القارئ، وخلقت عند كثير من الشعراء حالة من الهوس للمشاركة فيها، مفسرة ذلك برغبتهم بالتواجد وتسجيل الحضور والبقاء بأي شكل كان أو حتى لحلمهم بالخلود، وهو أمر ليس في صالح الحرية الإبداعية بكل تأكيد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©