الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العداء للنص الحديث.. أصوله وهوامشه

العداء للنص الحديث.. أصوله وهوامشه
21 مارس 2018 20:31
شاكر لعيبي المشكلة التي يتوجب الاعتراف بها هي أن بعض الشعراء والنقاد يريد لنا اليوم أن نتوقف عند تخوم نهائية، اسمها اليوم قصيدة النثر. ولعلهم يسقطون بذلك في كلاسيكية جديدة، أو بعمود شعري مُستحدَث بالمعنى الذي اُستخدم فيه تاريخياً مفهوم العمود، أي النسج على منوال تقليدي ثابت منذ مطلع القصيدة، مروراً بجميع التفاصيل الأخرى المقعَّدة بصرامة لدى النقاد العرب التراثيين. ما الفارق يا ترى بين هذا التقعيد والتقعيد الحالي للشعر؟. لا يبدو الفارق ذا شأن. نرى في التقعيد الراهن أصولية راسخة، سلفية بالمقلوب، ففي حين تزعم أنها في قلب الحداثة، فإنها تستعير المفهوم بصيغته الأصلية الجامدة وتضرب بعرض الحائط ما ينطوي عليه من تجديد وانشقاق وتفارق مستمر هو السمة الأصلية لأي حداثة. لو سألت اليوم سوزان برنار مؤلفة الكتاب الشهير «قصيدة النثر» عن موقفها بشأن تصنيم آرائها حالياً، لأجابت في الغالب أنها ستكون ضدّ ذلك، ولو سألتها عن المروق عن قواعدها المقترحة لقصيدة النثر لوافقتْ غالباً، ولو سألتها عما تسميه التجريب في الشعر لأجابت أنها تميل له أصلاً لأنه يقع في مكان ما من أطروحاتها، ولأنه قد يثير «تأثيراً شعرياً» على ما قد تقول. «المجانية» في كتابة الشعر نتحدث هنا بالطبع عن «قصيدة النثر العربية» التي يقع تقعيدها نظرياً بأطر نهائية، منها المجانية التي يبدو لي اليوم أنها قد فُهمتْ على نطاق واسع في العالم العربي بالمعنى المبتذل «للمجانية». من النتائج الفعلية التي نشهدها كل لحظة لذلك في الصحافة الورقية والإلكترونية، لكن خاصة على «بوستات» الفيسبوك العربية تلك النصوص اللانهائية «المجانية» المتدنّية بالفعل. هناك أيضا التنميط الأسلوبيّ ووحدة القاموس في هذه النصوص، لكأننا أمام نص واحد بتنويعات كثيرة. لعلّ دلالة هذا التنميط الأولى تقع في غياب التجربة الحميمة عن «قصيدة النثر» هذه، والتفخيم المفرط للذات الكاتبة. سيفهم البعض ذلك موقفاً متراجعاً إزاء الأشكال الشعرية والممارسات اللغوية المستحدثة. لا شيء من ذلك في حالة من يدافع مثلنا بكل قوة عن حرية الكائن في التعبير غير المشروط المسؤول، والحرية في استخدم اللغة. إن قصيدة النثر شكل مشروع لكنه ليس الشكل الوحيد النهائيّ، ولا نظنّ القواعد التي وضعها البعض صالحة دائما سواء في الحالات الرفيعة أو تلك الأقلّ أهمية. بينما الظواهر التي نتكلم عنها، والكثير منها نعرف منتجيها، لا تستجيب في الحالات السائدة لشروط الحداثة والجمال والمعرفة والحرية، وتمنح أعداء الشعر الجديد فرصة للنقد الشرس. مديح الشاعر الأمي يُلاحقُ بعضُنا المفارقاتِ الثقافية ويحاول أن يكشفها للملأ، لأنها تُجلي حقيقة الأمر المقصود أكثر من الأفكار النظرية المجرّدة. هنا مفارَقة جديدة بشأن الجدل، الدائر أو المضمر، عن أهمية أو عدم أهمية المصادر المعرفية والفكرية التي يمكن أن ينهل منها الشعراء ويغتذي بها شعرهم. يزعم المضمر، لكن المقال صراحة أيضاً في مناسبات عدة، أن التعمق بضروب المعرفة يجرح الحسّاسية الشعرية ويشحن الشعر بتجريد ثقيل الظل، ويبعده عن طلاقته وانسيابيَّته وشفافيَّته. يصير والحالة هذه أقرب إلى التفكير العقلي الذي لا يترك إلا القليل من الفضاء لحرية الخيال. من هذا المنطلق بدأنا نقرأ مديحاً «للشاعر الأمي» الضارب بأحلام يقظته والذي يستنبط من مكان خفي في كينونته الشخصية كل طاقاته الأدبية. الشعر إذنْ رديف للطفولة، للغريزة المبرأة من عيوب العقل وللهيمان في العالم دون التوقف طويلاً أمام السببيات والعلل المنطقية الصارمة. في هذا الموقف شيء من التناقض إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار فكرة بودلير الذاهبة ظاهرياً بذاك الاتجاه. إذ عندما قدّم الشاعر الفرنسي تعريفاً ممكنا للشعر على أنه «الطفولة المستعادة عمداً» أو قصداً أو شيئاً من هذا القبيل، فإنه كان يضع للتقصُّد الواعي، الصاحي مكاناً بارزاً، وهو ما يُنسى أحياناً. من جهة أخرى لا تبرهن وضعية بودلير مثقفاً وناقداً فنياً ومُنظّراً، وجمالياً بالمعنى الفلسفيّ، على أية عفوية. وضعيته بصفته مثقفاً تناهِض الأمية حتى بالمعنى العميق المُمتدَح اليوم في بعض الكتابات العربية. على المستوى التشكيليّ، الوجه الآخر للعالم الشعريّ، علينا أن نصاب بالدهشة، ونحن نجد أن خيرة العارفين في ثقافتنا يطالبون الفنانين بأن يمتلكوا، منذ البدء، مجموعة من المفاتيح المفهومية التي يشتغلون عليها، طالما أن الفن، ولنقل فن الرسم، لم يعد محض محاكاة بارعة للواقع أو تلوينا فاخراً مُغْوياً (هكذا الشعر بالمناسبة وإنْ بأدواته). نريد من الرسّامين أن يحتضنوا وعياً جمالياً عميقاً لا يتهيأ إلا بالتعمُّق في الدرس الفكريّ والجماليّ الضارب مرة بالفلسفة ومرة بتاريخ الفن، من بين معارف معقدة أخرى. جميع معاهد الفنون في العالم والعالم العربي تطالب طلابها بهذه المفاتيح السحرية التي من دونها نسقط، على ما يبدو، بالسذاجة التشكيلية. النقد في العراق، يقدِّم للفنان الراحل شاكر حسن السعيد مديحاً عالي الصوت مُجْمعاً عليه، وبالضبط لحالته التشكيلية المشبعة بالمعارف التاريخية والصوفية والثقافية. هذه مفارقة حقيقية. كيف نطالب أن يكون الشاعر أميّاً بينما نثمّن الفنان المثقل بالمفاهيم والمعارف المعقدة؟. الإجابة ليست مُعقَّدة، وبعضها راسخ في تاريخ الشعر العربيّ بوصفه وحياً وإلهاماً غامض المصادر. بعضها الآخر يتعلق بالوعي السائد الذي صار شعبياً وأميّاً بالمعنى الأدنى، حتى ولو تقاسمه مثقفون وكتاب وصحفيون، وهذا يريد من الشعر متعة سهلة، عاطفية، وجملة تهزّ السامع وتلعب على المفارقات الخارجية، تُطْرِب، ومن دون وظيفة أخرى غير الملامسة السريعة للمشاعر، وظيفة من طبيعة تُبْعد عن حقل اشتغالها، بأكبر قدر ممكن، كل ما يمتّ إلى التأمل العميق بصلة. هذه المطالبة وتلك الوظيفة للشعر لا يوجد ما يماثلها تشكيلياً عندما نستدعي مثال شاكر حسن السعيد. بطبيعة الحال، ليس المقام هنا مقام المديح للعقل البارد في الشعر، لفقدان الروح الجامح، لغياب الطراوة، لخشونة المخيلة وقحولتها، ولا تثمينا «لناطح صخرة لا هو أوهنها ولا أوهى قرنه الوعل». هناك شيء في المسألة أكثر تعقيداً من التبسيط الذي تُطرح فيه عادة. يبدو أن الشاعر الحقيقي مثل الماشي على الحبل في السيرك: يُمْسك وعياً فكرياً في غاية الدقة في طرف من عصاه، وفي طرف آخر جُمُوْحا لا متناهياً. ألا يبرهن أبو الطيب المتنبي على لاعب كبير في سيرك العالم، حتى أنه اتهم بأنه يحوز الطرف الأول من العصا، واتهم في الوقت عينه بأنه يمسك بالطرف الآخر منها: تخييل مفرط مقابل حضور المصطلح الفلسفي الإغريقي في شعره. كل هذا قد يؤيّد ما كان يقوله الشاعر نيرفال: «لنمتدح في الحيوان وعياً فعالاً». الشاعر و«تراثه» ثمة بعض الصمت اليوم عن علاقة الشاعر بإرثه الشعري التاريخي، سوى القلة. نحسب أننا لسنا أول من يقدّم اقتراحاً للتفريق بين المفردتين (التراث) و(الإرث). استخدمت مفردة التراث في الأدبيات العربية القريبة بمعنى أيديولوجيّ غالباً، فصارت رديفاً للاعتزاز القوميّ الصافي بالمرويات والسرديات والكتابات الكلاسيكية التي اُعتبرتْ خلاصة لروح الأمة ومجدها. وعلى الرغم من وجود آلاف المرويات والكتابات والمصنفات التي لا تتطابق مع الفكرة الثابتة عن صفاء هذا التراث ومجده، فلم تجد هذه الأيديولوجيا القومية حلاً لذلك سوى القيام باستبعاد ما لا يعجبها أو غض الطرف عنه أو التنكر له بطريقة اعتباطية، أو اعتباره ببساطة، غير موجود أصلاً. خذ مثلاً أدب الزندقة والأيروتيكا ومصطلحات عدة مثل (الحيل الفقهية) و(الخليج الفارسي) التي يستخدمها ابن خلدون، وغير ذلك الكثير. الأيديولوجيا اليسارية بطبعتها العربية قامت من جهتها بانتقاء ما يعجبها وسلطت الضوء عليه وحده، مثل حركات القرامطة والزنج والمعتزلة وحركات الهامشيين والحشّاشين وما يتعلق بالحياة الاجتماعية وشروط عيش الصناع وشغيلة الأرض وما إلى ذلك. أما (الإرث) فإنها مفردة مُحايِدة إلى حدّ معقول، ومن دون كثافة أيديولوجية، لأنها تشير إلى جميع أنواع سرديات الماضي دون تفضيل شيء منها على آخر. إنها رديف للميراث الذي نرثه عن أجدادنا بقضه وقضيضه، دون انتقائية التراث المنتخَبة عمداً. نحن من يختار ويقرأ الإرث دون مساءلة «تراثية» مُسبَقة عن مضامينه. بين التراث والإرث وشيجة أيضاً: إنهما يشيران إلى الماضي، الأول افتراضيّ قليلاً، والثاني له امتدادات بديهية في الحاضر. لذا يصير الأخير جزءاً من الفعل الأدبي المعاصر والكتابة الشعرية المحايثة. كم من الشعراء الجدد متحفّز ومنتبه وراغب في مقاربة هذا الإرث العريق؟ إن القراءة الصاحية للنصوص الشعرية والمقالات الأدبية الراهنة لا تشفّ عن اهتمام كبير بهذا الإرث. بل أنها تستخف به لصالح مقولات جاهزة عن قصيدة النثر، وطروحات عن الشعر تقلِّل من شأن الإرث الشعري البعيد والقريب. ولو أننا قدّمنا استشهادات موثقة لهذه العجالة في التعاطي مع الإرث الشعري لوقفنا أمام أمر جلل من الصعب دحضه بمزاعم التجاوز والحداثة والانقلاب الرقمي الواقع على وسائل الاتصال والعلاقة بالتالي مع اللغة نفسها. من أين تجيء فكرة أن العالم الرقمي قد قضى نهائياً على اللغة؟ بشكل غامض كتبت قارئة عربية تعيش في ألمانيا في الفيس بوك تذكر أن لا ضرورةَ لقراءة ترجمات ريلكه إلى العربية لأننا في العالم الرقمي. لم نفهم من ذلك سوى الاستخفاف بعلاقتنا باللغة وإرثها الذي لا أظن أن الناطقين بالألمانية أنفسهم يستخفون به. من الظلم وضع الجميع في سلة واحدة، فإننا نعرف من هؤلاء الشعراء المحايثين من يشتغل على هذا الإرث الشعري. أسماء قليلة وتكاد تكون متهمة بسلوك طريق مارق مقعّر، مناهض لعصرنا، كأن عصرنا قد قرّر أن يشيح بوجهه عن القراءة المتنوِّرة للإرث الشعري المحلي. لو منحنا كلمة التراث معنى الاعتزاز بإرث الأمة العربية، فلا تبدو شريحة الشعراء السائدة اليوم في الميديا مهتمة بأي مجد. بل تبدو، ظاهريا في الأقل، عدمية ومن دون انتماء إلا للكلام العابر والشعر المترجَم والاعتزاز بالذات المكتفية بسعادتها الشخصية وتكلُّف مجاملات اجتماعية في منتديات الاتصال الجماعيّ تحت لواء الشعر العربي. ولو أننا منحنا كلمة الإرث معنى الميراث الواصل إلينا رغماً عنا عبر اللغة والمرويات والأشعار الكبيرة والصغيرة، الإرث الذي نرثه من أقارب ميتين كما نرث أثراً معمارياً، بيتاً، قصراً، خاناً، بناية، فإذنْ علينا التصرّف فيه بطريقة أخرى: عدم تركه نهباً لتآكل الطبيعة والزمن. هذا بالضبط موقف الأوروبيين من إرثهم اليوناني والروماني الذي يعيدون قراءته وفحصه كل لحظة وبعيون متيقظة معاصرة. لا للتَّصنيم.. نعم للمروق لو سألت اليوم سوزان برنار مؤلفة الكتاب الشهير عن موقفها بشأن تصنيم آرائها حالياً، لأجابت في الغالب أنها ستكون ضدّ ذلك، ولو سألتها عن المروق عن قواعدها المقترحة لقصيدة النثر لوافقتْ غالباً، ولو سألتها عما تسميه التجريب في الشعر لأجابت أنها تميل له أصلاً، لأنه يقع في مكان ما من أطروحاتها، ولأنه قد يثير «تأثيراً شعرياً» على ما قد تقول. حبل الوعي الشاعر الحقيقي مثل الماشي على الحبل في السيرك: يُمْسك وعياً فكرياً في غاية الدقة في طرف من عصاه، وفي طرف آخر جُمُوْحا لا متناهياً. ألا يبرهن أبو الطيب المتنبي على لاعب كبير في سيرك العالم، حتى أنه اتهم بأنه يحوز الطرف الأول من العصا، واتهم في الوقت عينه بأنه يمسك بالطرف الآخر منها: تخييل مفرط مقابل حضور المصطلح الفلسفي الإغريقي في شعره.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©