الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

آلان باديو: الشعر يسكنني..

آلان باديو: الشعر يسكنني..
21 مارس 2018 20:39
حوار: نيقولا دوتون يجد الفيلسوف الفرنسي المعروف آلان باديو، علاقة وطيدة بين الفلسفة والشعر. لكنه يستشعر أن الشعر لكي يقوم بدوره عليه أن يكون في المواجهة. ففي أزمنة هيمنة الرأسمالية الريعية، كما يقول، ليس أمام الشعر إلا التمرد كي يصل إلى الناس. الفيلسوف آلان باديو الذي يجوب العالم، يتوقف ـ في هذا الحوار ـ لكي يقول ويؤكد، وهذا أمر نادر، حبه للشعر، كما هواه للأفكار. * حينما يحب المرء الشعر، يصاب بمفارقة تحمل سمات الجملة الموسيقية القصيرة التي تسبق الغناء أو تعقبه: شعراء اليوم كثيرون وينشرون كما أسلافهم ولكن، كما لخصت، «الشعر، واحسرتاه، يبتعد عنا». من يتراجع هنا: الشعر أم العصر؟ ** من دون أدنى شك، العصر. في أزمنة هيمنة الرأسمالية الريعية، تحت اسم «الليبرالية»، بتوحشها الأصيل، لا يستطيع الشعر، في رغبته بالتوجه إلى عدد كبير من الناس، العيش إلا مرتبطاً بالتمرد الحاد، ولكن أيضاً بالتمرد الصبور للغاية. لنقل، إنه يتحقق بين هوغو ورامبو كما بين لوتريامون وباييخو، وأراغون، أو بريشت. ومع ذلك، لا يعتبر زمننا زمن الابتكار المتمرد الذي يبلغ مرتبة الهيمنة التي تسحقنا. في هذا الصدد، نحن نحيا زمناً «واقعاً بين المسافات»: الحساب الختامي للماضي الشيوعي تحقق، والمستقبل غير محدد بعد. مما يعني، أن هناك شعراء رائعون. الفلسفة والشعر * الفلسفة، كما نعرف، مصابة بهاجس الشعر. هذا الخلاف يلهمك مقارنتين: بالضبط القصيدة، بالنسبة للفلسفة، «معادل العرض» والفيلسوف ينظر إليه «كند حسود للشاعر». من أين جاءت هذه الريبة الأولية للفلسفة إزاء الشعر؟ هل تم تجاوز هذا النزاع أو لم يزل موجوداً؟ ** أفلاطون، تحت اسم «الشعر»، انتقد الملحمة والمسرح. أطلق على هذا الشأن «تخلقي»، سواء في السجل الملحمي للخرافة (المحاكاة والمبالغة في الأفعال البطولية)، أو في السجل المسرحي للتمثيل (تقليد الممثل للأهواء العنيفة). أنتظر شيئاً ما في نفس السياق، اليوم، في الخلاف القائم بين الناحية الحساسة، المغناة، الاستعارية، الغنائية في التقليد الشعري، والرغبة في قصيدة أكثر جفافاً، أكثر تأليفاً بحصر المعنى، أكثر «نثرية» على وجه الإجمال. في كلتا الحالتين، يتعلق الأمر بنوع من الإرادة النسكية والفكرية، المعارضة «لتشوش المعاني» لدى رامبو، الذي أفضى الحال به أيضاً إلى إدانته في النهاية لما قرر العودة، بالعمل تاجراً، إلى العالم الحقيقي القاسي. إذن، أقول إن «الخلاف القديم بين الفلسفة والشعر الذي تكلم أفلاطون عنه أصبح تقسيماً للقصد الشعري نفسه، وهذا الأمر، في جوهره، تبدى جلياً منذ ارتبطا بصورة سيئة، كما يتضح لدى رامبو ومالارميه. بالمقابل، الفلسفة، كما أدركها، ترتضي بالشعر، كل الشعر، كظرف عظيم لوجودها. فك الشفرة * المعنى، في القصيدة، مفتوح دوماً، ثابت نوعاً ما وفار أحياناً. هذه الحركية، حركية المعنى، هذا الانكماش للعقلانية الخالصة... أهي الصعوبة الكبرى التي تتبدى جلياً حينما نبحث عن شيء ما مثل «فكر القصيدة»؟ ** لا أعتقد. نعرف منذ فترة طويلة، وقد تعلمنا من الرياضيات على وجه التحديد، أن الفكر لا يمكن تحويله أبداً إلى معنى. وهذا ما سعت الفلسفة التأويلية ـ دوماً في توجهها الديني ـ إلى طرحه لما رأت فك شفرة المعنى هدف الفكر. معيار الفكر هو الصواب، ومن المؤكد أن الصواب من الممكن أن يتبدى كما اللامعنى. وهو ما يحققه في غالب الأحايين: ثقب في المعنى، وعلى وجه الخصوص في المعنى الدقيق. *«القصيدة لا تهدف، لا تقترح، لا تفترض أي موضوع، ولا أي موضوعية». ما هو نمط المعرفة، وما الذي يمكن قوله عن عالم يمضي بالتالي في القصيدة؟ في أي فعل للمعرفة أو معرفة الفعل هناك صلة بالقصيدة؟ ** يتأسس فعل فكر القصيدة في معظم الأحيان على فك شفرة ما تحتويه الموضوعية، الوجود الموضوعي، من لغزوية، ومفارقة، وتعديل، وهذا ما تحققه الأسئلة التي نطرحها على العالم. وهذا ما تبدى في اكتشاف المنابع اللغوية القديمة المتجاهلة. نتيجة لذلك، يتبدى أن الموضوعية التوافقية للمظاهر الاجتماعية ليست إلا سطحية، مدعومة من قبل وجود يتبدى في اللغة. تبيّن الفيزياء الرياضية أن الموضوعية الظاهرة تتقوض لما تُرد إلى قوانين شكلية، لا يمكن أن تعبّر عن نفسها إلا في صيغ مشفرة. يبيّن الشعر أن وجود الأشياء غير مدرك إلا إذا أزلنا هالة الموضوعية عنه، و«قمنا باسترداده» بصورة أخرى في الابتكار اللغوي. علاقة ثلاثية * هل من الممكن أن تحدد العلاقات الثلاثة الممكنة للفلسفة بالقصيدة كما بيّنت: المزاحمة المعينة، المسافة المبرهنة، والإقليمية الجمالية؟ ** العلاقة الأولى هي العلاقة التي يتنافس الشعر والفلسفة فيها على احتكار اكتشاف معنى العالم. العلاقة الثالثة هي العلاقة التي تطمح الفلسفة فيها، وذلك بصورة من الصور، إلى «الإشراف» على الشعر، بتشكيل ـ في جمالية معينة ـ القوانين العامة للجميل. العلاقة الثانية هي العلاقة التي تشكل طبيعة البرهان الشعري فيها «منطقاً» مخالفاً بصورة كلية للمنطق العقلي الذي تنبني عليه الفيزياء الكلاسيكية. أنا قريب من هذه العلاقة الثانية، بيد أنني أدعم كون الشعر، كفكر خلاّق حي، ظرف للبرهنة الفلسفية العقلانية، وليس العكس. * في دراستك «ماذا تقول القصيدة»، (مطبوعات نو، 2016)، ذكرت خاصية فلسفية ترجع إلى «عصر الشعراء». من هم ممثلو هذا العصر الذي ينظر إليه كنقطة إشباع وموقف عصري للفلسفة؟ متى ولد ومات هذا الحدث الشعري؟ ** يبدأ هذا «العصر» بدءاً من السيطرة الثانية، في مجال الفلسفة، للوضعية، التي «حاكت» الفلسفة بالعلم، ورؤية سياسية تشرف وتحدد كلياً الخيارات الفلسفية. من الممكن القول أيضاً إن الأمر يتعلق بلحظة نهاية، موت، الميتافيزيقا. وهذا يغطي جانباً معتبراً من القرن التاسع عشر، وأيضاً بدايات القرن العشرين. من المدهش أن بين وفاة هيغل ولنقل فينومينولوجيا هوسرل وهيدغر، أصبح الإبداع الفلسفي نادراً، وفي كل الحالات، يعلن ويوضح نهاية الميتافيزيقا. في هذا السياق، أرى أن الشعر يضطلع بوظائف كانت قبلاً للفلسفة، تتعلق بالشمولية، والمعنى أو اللامعنى، وظروف الحقيقي، والوجود الواقعي والسامي ...إلخ، * نلاقي في دراستك شعراء مختلفين مثل سيلان، ماندلشتام، مالارميه، رامبو، هوبكنز، ستيفنز، بيك، حكمت، بريشت وأيضاً بازوليني. هل يتموضع اختيار الشعراء المذكورين على تفضيل شخصي، أو منطق برهاني؟ ** أعتقد أن خياراتي، بالتأكيد، شخصية، ولكن أعتقد أيضاً أننا نستطيع بصورة ما «إثبات» أن جميع من ذكرتهم من كبار الشعراء، والإشارة إلى الأسباب التي أوجدتهم هنا. ترى، في الرياضيات كما في الشعر والسياسة، توفر الوضوح الفلسفي في عظمته، وفي أهميته، وفي كل ما يشير إليه كنتاج مدون في سجل الظروف السياسية. سواء تعلق الأمر بأرخميدس، غاوس، غالوا أو إيمي نوثر، أو سافو، وهولدرلين، ورامبو وستيفنز، وتوسان-لوفرتورن ماركس، وروزا لوكسمبورغ أو ماو... نعرف أن ما نسميه معرفة، موجود هنا، تحت اسم علم، دعوة ضرورية للبناء الفلسفي. الشعر والشيوعية * تدرس رابطة تتبدى لك ضرورية بين الشعر والشيوعية مع تذكر أن في القرن الأخير وجد «شعراء كبار، في معظم لغات الأرض، كانوا شيوعيين». ما هو الأساس الشيوعي في النشاط الشعري؟ ما هي البراهين الشيوعية في القصيدة التي تعتبر ضرورية من وجهة نظرك؟ * بما أن اللغة الأمومية مقدرة لجميع الموجودين في «موقع» هذه اللغة، فإن الشعر، الذي لا يمكن النظر إليه إلا باعتباره كشفاً مذهلاً لما يمكن للغة الأمومية القيام به، يتوجه مباشرة إلى الجميع. كيف يمكن أن يقبل الشعر بأن جمهوره عصبة بسيطة من «المجربين»؟ إمبيريقياً، هذا من الممكن حدوثه. اليوم، مثلاً، الشعر يتوجه دوماً إلى جمهور محدود ومثقف. بيد أن هذا الأمر، إذا تجرأت على القول، ليس خطأ الشعر. يستمر في التجريب، في الإبداع، كأنه مبدع لأجل الجميع، وبالمثل، كما تمنى لوتريامون، مبدع من قبل الجميع. فقط، الظروف التاريخية/ السياسية تنتج تخفيف الحضور في القصائد المعاصرة. ولهذا، حينما تقترح هذه الظروف، على صعيد كبير، وجهاً مساواتياً وعالمياً، يقره الشعر من فوره. كان أراغون، وناظم حكمت، وإلوار، وسيزار باييخو، وبريشت وآخرين غيرهم، شيوعيين، مما شكل برهاناً لامعاً عن القرابة الحميمية بين الرغبة السياسية للشيوعية والرغبة الشعرية للعنوان العالمي. * متى وكيف قام الشعر بغزو حياتك؟ هل لديك علاقة منتظمة، بل ويومية، مع الشعر؟ مَنْ الشعراء الذين يسكنونك؟ ** أدين بالشعر إلى المدرسة وأمي. أحببت، مبكراً للغاية، دعوتي للتعلم عن ظهر قلب، في الفصل الدراسي، خرافات الكبير لافونتين، والقصائد الرثائية لرونار، والسوناتات التي لا تشوبها شائبة لدو بليه، و«بحيرة» لامارتين، و«نزهة المشنوقين» لفييون، و«بوز النائم» لهوغو، و«بيت الراعي» لفيني، وحتى الأشياء القديمة التاريخية (لجوزيه-ماريا) دو هيريديا، أو«المقبرة البحرية» لفاليري، التي علقت عليها كثيراً. وأيضاً، في الهامش، أو مؤخراً، نرفال، ومالارميه، ورامبو... كانت أمي معلمة للفرنسية، أرشدتني نحو القصائد غير المعروفة على نطاق واسع، وربما كانت أكثر كثافة، في «الريبرتوار» العريض في الشعر الفرنسي. وبعد ذلك، هناك كبار شعراء القرن الأخير، حيث بدأت بسان جون بيرس، وتحديداً قصيدته «منفي»، التي تلوتها في سن السابعة عشرة على الفتيات المندهشات. ثم، يأتي عمر الرشاد وتفتح العقل، كان موعدي مع شعراء كل العصور، كل اللغات، على حد مقدرتي. الشعر كله يسكنني، المراجع ليست إلا ظرفية، أو مدونة من خلال سؤالها الفلسفي. ولذا، في كتابي «الكبير» عن الفلسفة، «مثولية الحقائق»، الذي انتهيت منه مؤخراً، كل الجزء الذي أنتقد فيه مختلف الصور المفروضة للتناهي (أعتقد أن كل طغيان وجور، قمع فينا اللانهائي، وأعاقنا في دواليب التناهي) وجدت في شعر الأنصار القادرين. بكل دقة، هو ذا سؤال فيكتور هوغو، ورينيه شار، وباول سيلان، وإميلي ديكنسون، وصمويل بيكيت، وماندلشتام، وبيسوا، وبريشت... نعم، عكست تشخيص أفلاطون: الشعر، مع الرياضيات، هو الدعم المعتبر لبناء لغة فلسفية تستطيع الإمساك بالحقائق التي يستأهلها زمننا المريض. الفيلسوف الجمالي آلان باديو، فيلسوف فرنسي كبير الشأن داخل المشهد الثقافي الفرنسي المعاصر. درس خلال ثلاثين عاماً بجامعة باريس الثامنة، وبمدرسة المعلمين العليا قبل أن يحال إلى التقاعد. وهو عضو الكلية الدولية للفلسفة، إذ أنه مؤسسها ومديرها. مؤلف العديد من الكتب المهمة والمعقدة، التي غطت العديد من المناحي، منها الأنطولوجية، السياسية والميتا ـ سياسية، مثل «نظرية الذات» و»الوجود والحدث» أو «بحث قصير عن الأنطولوجيا العابرة». هذه المواقف الراديكالية، والتي تجلت في كتبه كافة حتى «مم جاء اسم ساركوزي؟» و«الفرضية الشيوعية»، سبّبت كثيراً من النقاشات والآراء النقدية. لآلان باديو عدد من الروايات والمسرحيات، كما أن جزءاً مهماً من إنتاجه الفلسفي تناول العديد من المسائل الجمالية والفنية، كما في أبحاثه النقدية: «رابسوديا الى المسرح» أو «بيكيت، الرغبة الجلود». .............................................المصدر: (*) Nicolas Dutent, Entretien avec Alain Badiou: «La poésie tout entière m›habite», L›Humanité, Jeudi, 23 Novembre, 2017.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©