الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هوغو كلاوس اللغة حين يصيبها الزهايمر

هوغو كلاوس اللغة حين يصيبها الزهايمر
21 مارس 2018 20:40
كتابة وترجمة عماد فؤاد تربّع الشاعر البلجيكي هوغو كلاوس على عرش الأدب الفلمنكي قاطبة لنحو 60 عاماً، حتى لقب بـ«المعجزة» التي أعادت للحركة الأدبية في بلاده مكانتها على الساحة العالمية من جديد، لا سيما في منافستها المستمرة مع الحركة الأدبية الموّارة لدى جارتها هولندا، شريكتها في اللغة ومنافستها في كلّ شيء. تحتفل اللغة الهولندية هذه الأيام بمرور عشر سنوات على رحيل هوغو كلاوس، عبر العديد من الفعاليات الثقافية والفنية التي تستعيد فيها أعماله الشعرية والأدبية البارزة، وبصرف النظر عن كون مواهب هوغو كلاوس كانت مثل الأخطبوط، لها في كل فنٍّ كتابيّ أو غير كتابيّ ذراع، إلا أنّه ظلّ على الدوام حريصاً على فنِّه الأول وهو الشِّعر، رغم نجاحاته المدوية في عالم الرواية والقصة القصيرة والكتابة المسرحية والإخراج السينمائي والفن التشكيلي والترجمة. ترك لنا هذا «الكاتب الطفل» كما كان يحبّ أن يسمّي نفسه، أكثر من مائة عمل أدبي، ما بين الشِّعر والرواية والمسرح والقصّة القصيرة والمقالة والسيرة الذاتية واليوميات وغيرها، مكنته من الحصول على أربعين جائزة أدبية رفيعة، ما بين دولية ومحلية، خلال سنوات حياته التي امتدت حتى 78 عاماً، لم تكن من ضمنها للأسف جائزة نوبل في الآداب، على الرغم من وجود اسمه على قوائمها الأولى لمدة عشر سنوات متواصلة، ليرحل دون أن يحصل عليها، بعدما قرّر في 19 مارس 2008، قبل أيام من يوم الشعر العالمي، اختيار الموت الرحيم جسرًا لعبوره إلى العالم الآخر، هربًا من مرض الزهايمر الذي أصابه في سنواته الأخيرة. امتلك هوغو كلاوس براعة لغوية فائقة مكّنته من التعامل السلس مع القوالب الكتابية على اختلافها وتباينها، وفي ظنّي أنّ إصابته بمرض الزهايمر في سنواته الأخيرة، هي التي جعلته يسارع باختيار الموت الرحيم معجلًا برحيله عن العالم، لم يتحمّل اللاعب البارع باللغة داخل كلاوس أن يعجز عقله عن تذكّر ما يريد كتابته، أو بالأحرى عن صوغه في القالب الذي يريده، وهو السبب الذي ربما دفع كلاوس لأن يعلن عن تحديد اليوم الذي سيرحل فيه عن عالمنا للصحف والإعلام البلجيكي، ما أثار وقتها الكثير من النقاش في الساحتين الثقافيتين في بلجيكا وهولندا حول مشروعية الموت الرحيم، لكن كلاوس تجاهل الزوبعة، وقام بدعوة أبنائه وأصدقائه وأفراد أسرته لوداع أخير ليلة الثامن عشر من مارس، ليرحل صباح اليوم التالي بعد حقنه بمادة طبّية، شاء لها القدر أن تكون آخر ما يصل إلى دمه. ولد هوغو موريس جوليان كلاوس في الخامس من أبريل سنة 1929 بمدينة «بروغ» البلجيكية، والتحق بمدرسة داخلية في أحد الأديرة الكاثوليكية حتى بلغ الحادية عشرة، هذه الأعوام كان لها أثر كبير في تشكل شخصية كلاوس الأدبية، ما جعله يستعيدها بعد سنين عدّة ويضمّنها أحداث روايته الشهيرة «حزن بلجيكا – Het verdriet van België « الصادرة في العام 1983. في العام 1946 يلتحق كلاوس، بأكاديمية الفنون الجميلة بمدينة «غنت» البلجيكية دارسًا النحت والفنون التشكيلية، لكن اتجاهه الأدبي يبدأ في السيطرة عليه شيئًا فشيئًا، فيبدأ في كتابة الشِّعر ويصدر مجموعته الشعرية الأولى: «سلسلة صغيرة - Kleine reeks» سنة 1947، في هذه المجموعة كانت أشعار كلاوس، كعادة الشّعراء الشباب، مفعمة بالمشاعر الدافئة والأحاسيس المراهقة والتصورات السطحية عن العالم، لكنّها جاءت كذلك معلنة عن موهبته الفذّة في اللعب بمفردات اللغة الهولندية، تلك التي كانت توصف حتى ذلك الحين بالجمود وعدم مناسبتها للشّعر. يتطور الحسّ الشِّعري لدى كلاوس في الخمسينيات لينحاز، أكثر فأكثر، إلى الحداثة وليواكب الحركات الأدبية الأحدث في العالم، هذا الانحياز الذي بلغ ذروته في مجموعته الشعرية «قصائد أوست أكرس - Oostakkerse gedichten» الصادرة سنة 1955، لاحقًا سيعود كلاوس في قصائده الأحدث إلى الحس الكلاسيكي، ولكن في قالب ذاتي يمزج فيه التفاصيل الشخصانية بالحكايات الأسطورية التي تمجد الأنثى في شكل مضاد للبطرياركية. في عام 1950 يصدر كلاوس أولى رواياته تحت عنوان «صائد البط - De Metsiers»، أما في مجال أعماله التشكيلية فيصبح أحد أبرز أعضاء حركة «كوبرا» الشهيرة، شجعه الرسام البلجيكي «دوترمون» على الالتحاق بهذه الحركة لما لاحظه على الفنان الشاب من موهبة تشكيلية ميّزته عن أقرانه، لكن هذا الاحتكاك بعالم الحركات الفنية الجديدة في التشكيل لم يثن كلاوس عن ولعه بالكتابة، فبدأ في العمل بالصحافة وهو ما جعل اسمه يتردّد بقوة في الأوساط الأدبية، بفضل كتاباته المنتظمة في عدد من الصحف البلجيكية والهولندية آنذاك. في مجال الكتابة المسرحية يشتهر كلاوس دولياً بمسرحيته «عروس في الصباح - Een bruid in de morgen» والتي صدرت سنة 1955، ثم يصدر مسرحيته «سكر - Suiker» سنة 1958، تميّزت عوالم مسرحيات كلاوس في هذه الفترة باعتماد أجوائها على عوالم الروايات والأدب القديم، كما في أعمال وليم شكسبير وسيرفانتس ودانتي وغيرهم، لكن تظل مسرحيته «الجمعة - Vrijdag» (1969) أشهر مسرحياته وأكثرها نجاحًا، وهو النجاح المدوي الذي جعلها تتحول إلى فيلم سينمائي في العام 1980. بعد إصداره الشعري الأول «سلسلة صغيرة» سنة 1947، واصل هوغو كلاوس خطواته الشعرية التي تأكدت في باريس أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، حين أصبح على اتصال مع رموز الحركات الفنية والتشكيلية والفلسفية الجديدة هناك، كالوجودية والسوريالية، ومع فناني مجموعة «كوبرا»، وعلى رأسهم أسجر يورن وكاريل أبل. كما تعرف أيضًا على عدد من الشعراء التجريبيين الهولنديين من مجموعة «ده فيفتيجرز» أو جيل الخمسينيات، وكان من بينهم خيرت كوينار وريمكو كامبرت. ومع هؤلاء الشعراء التجريبيين انغمس هوغو كلاوس في ما أسموه حينها «عبادة العفوية»، وهو ما أكدته مجموعاته الشعرية التي نشرت في هذه الآونة، ومن بينها مجموعته الأهم «قصائد أوست أكرس» (1955). مع بداية عقد الستينيات من القرن الماضي، بدأ كلاوس يوسّع من نظرته الشخصانية إلى العالم، وبدأت قصائد كلاوس تنفتح على مشكلات أكبر من ذاته، وتجلّى ذلك في مجموعاته الشعرية اللاحقة، كما في «الفارس المرسوم» (1961)، أو «الإشاعات» (1970)، ومع هذا الاهتمام الاجتماعي المتزايد لدى كلاوس بالماضي الأدبي في قصائده التي كتبها إبّان فترة الستينيات، أصبحت الإشارات والاقتباسات إلى ومن الشعراء الآخرين أكثر تواترًا وعلنية في قصائده، وهو ما نجده واضحاً في مجموعته الشعرية «علامة الهامستر» (1963)، وكذلك استخدامه لمصادر تاريخية وموسوعية في كتابة وبناء عوالم قصائده الملحمية، وربما يكون المثال الحي على هذا الاستخدام، قصيدته عن حياة الرسام الفلمنكي «هوغو فان دير غوز - Hugo van der Goes» الذي عاش في القرن الخامس عشر. كما أعاد كلاوس كتابة بعض سونيتات شكسبير ودانتي في مجموعته الشعرية «سونيتات» الصادرة في 1988. في الروايات التي كتبها كلاوس نجد ولعًا متزايداً بالأساطير والاستعادات الميثولوجية، كما في روايتيه «أيام الكلب - «De hondsdagen (1952)، و»الخجل - Schaamte» (1972)، ولكن إلى جوار هذه الروايات التي تتخذ من الأسطورة قالبًا لها، نجد كلاوس يصدر في العام 1978 روايته الواقعية «الرغبة - «Het verlangen وروايته الملحمية «حزن بلجيكا – «Het verdriet van België سنة 1983، والتي ضمنها أحداثًا تسجيلية عن تاريخ إحدى العائلات البلجيكية، لكنه في الوقت نفسه يضمنها أحداثًا اجتماعية وسياسية وقعت إبان الحرب العالمية الثانية، وبفضل النجاح الكبير الذي حققته «حزن بلجيكا»، يتم تحويلها إلى مسلسل تليفزيوني سنة 1994 لاقى نجاحًا مذهلًا سواء في بلجيكا أو هولندا، ولن نجاوز الحقيقة حين نقول إن روايته هذه هي التي نصبته أبًا للأدب البلجيكي المكتوب باللغة الهولندية، حيث ظلّت الرواية لأعوام طويلة تحافظ على موقعها في قائمة الأفضل مبيعًا في هولندا وبلجيكا، وترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، وأصبحت اللغة الهولندية حين تتباهى بكتّابها الكبار تذكر اسمين لا ثالث لهما: الهولندي هاري موليش Harry Mulisch (1927- 2010) والبلجيكي هوغو كلاوس (1929- 2008). مختارات شعرية لـ «هوغو كلاوس» الأمواج العالية لم تعد تطولني رقصة الأرض ترقص الأرض فوق سحابها بصحبة طنين الطبقة الوسطى الأمواج العالية لم تعد تطولني ولا حتى موجة الرحمة هل تستطيع القصيدة أن تفكّر؟ بأي طريقة؟ الأرض موجودة ولأجل العناية بالطين لأجل نحت الأفكار عليكَ أن تنظر في عينيّ! لا تبق منتظراً ولا مستخفاً! بالحثِّ على التطهر فقط يمكن للشِّعر أن ينقذ نفسه تنمو الجملة، تتبرعم لتتناثر. من مجموعة «صارخ» (2004) *** أكتبكِ امرأتي، مذبح قرابيني الكافر الذي أداعبه عزفاً بأصابع من نور غابتي الصغيرة التي أبيت فيها شتائي آيتي، مريضة الأعصاب، المدنّسة، العطوفة أكتب تنفُّسكِ وجسدكِ في نوتات الموسيقى. لأذنيك أزفُّ وعدي بأبراج فلكية لم يستعملها أحد من قبل وأعدُّ لك من جديد رحلات إلى بلاد العالم خوفاً من توقف إجباري في بقعة ما. ولكن لدى الأرباب ومجرَّات النجوم تصبح السعادة الأبدية أيضاً مميتة تعباً وليس لديَّ منزل ليس لديَّ فراش حتى أنني لا أملك الرغبة في إهدائك زهوراً لعيد ميلادك. أكتبكِ على الورق فيما أنتِ تنتفخين وتتبرعمين كبستان مثمرٍ في يوليو. من مجموعة «أكتبك» (2002) *** إلى العمة «إميلدا» من نِعم الحروب أن تشحّ حصص الطعام وتجعلكِ تفقدين الكثير من الوزن. العمة إميلدا تستطيع الآن أن ترتدي ملابس السنة الماضية بل وتتجرّأ على الغناء أمام الملأ. في النور المغبَّش لقاعة احتفالات القرية وسط باقات أزهار البلاستيك تصبح العمة «إميلدا» «الكونتيسة ماريتزا» (1) من مجموعة «أكتوبر 43» (1998). *** 1917 حين تصمت المدافع، وقت القدّاس على الجبهة الأخرى يسمع الناس صمت القتلى وهم يئنُّون. حينها نشحذ رؤوس رماحنا فبعد قليلٍ لن يتبقّى سوى أمواس الحلاقة وسيتمكّن ضباطنا من قراءة رسائلنا أولًا: عزيزتي ماجدة حانت اللحظة قال الكولونيل: علينا مراعاة الوصول هناك قبلهم كما في كرة القدم الهدف الأول يضعف معنويات العدو. ماجدة العزيزة قناع الغاز بدأ في التراخي على وجهي ألا زلت تذكرين، في الغابة»؟ من مجموعة «سعادة قاسية» (1999). *** سمّ في هذه اللحظة تكسَّر صوتي إلى قطع صغيرة كما لو أنَّني حاولت أن أصرخ لكن فمي جفّ من العطش، كسرني العطش أصبحتُ غضوبًا، شجيًا وتخثرتُ في ماء هذا العالم الصعب سمٌ هو الغفران البشري أعيش داخل هذا العالم كوسط الفاكهة وقشرتها صانعًا أسرار الحياة السرية تلك الخاصة بالإنسان وهو يدور في مداره. من مجموعة «قصائد أوست أكرس» (1955) *** حتى الآن (2) ما من شبيه لها بين النساء ليس من بينهنّ من تمتلك هذا الفم المجدب الذي هزَّني لو تستطيع روحي المجنونة لحكَتْ عنها لكنَّ روحي دُمرت تماماً. *** حتى الآن لا تزال ترتعش أمامي من التعب همستْ: «لماذا تفعل ذلك؟ لن أتركك أبداً يا مَلِكِي» لم يكن هناك ملك طائش وفاقد للحس مثلي جعلتها ترى كيف يبكي الملوك دموعاً من عين واحدة. *** حتى الآن ترتعش ساقي كلّما فكَّرت في حبيبتي الضائعة كلّما تذكّرت أيّ شخص يقطفها الآن زهرة الدفلى التي تتمشَّى خفيفة في المروج كي تنزع النبتات الشيطانية تلك التي زرعتُها بدأب في حديقة الرغبة. --------------------- 1- كتبت في الأصل باللغة الألمانية «Gr?fin Maritza» إشارة إلى وجود الجنود الألمان إبَّان الحرب العالمية الثانية على الأراضي البلجيكية. 2- من نص شعري طويل بالعنوان ذاته سجله الشاعر بصوته وبيع على أسطوانات CD في العام 1999 بمناسبة بلوغ الشاعر عامه السبعين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©