الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البيوت أسرار

البيوت أسرار
15 ابريل 2010 20:54
زواج في الربيع وخلع في الخريف نورا محمد (القاهرة) - لا أريد أن يناقشني أحد، فلن أعود في قراري ولن أتراجع عنه بعدما حسمت أمري، فقط أريد من يسمعني لينفذ ما أريد، هكذا جاء صوتها وحديثها في صيغة الأمر، تبدو شخصيتها قوية، نبرتها خادعة، كأنها فتاة في العشرينيات من عمرها، مازالت تحتفظ بحيويتها وطلاقة لسانها رغم أنها تخطت الستين، لا تخفي عن وجهها بصمات الزمن وآثار الشيخوخة حتى اعتقد خبير مكتب التسوية بمحكمة الأسرة أنها فقدت عقلها، خاصة عندما علم أنها جاءت تطلب خلع زوجها، وازدادت دهشته عندما علم أنه هو الآخر تجاوز الثمانين، صحيح أن الخبير يسمع كل يوم قصصا وحكايات غريبة، لكن لم تصادفه خلافات لأشخاص في مثل هذه الأعمار، واكتشفت الدهشة التي علت محياه، فكررت تحذيرها وطالبته بالإنصات حتى تنتهي من حديثها كله، وما عليه إلا أن يدون ما تقول، وفي النهاية يستجيب لمطلبها، فما كان من الرجل إلا أن منحها الفرصة كاملة لتعرض ما تريد. حاولت بلا جدوى أن تخفي دموعا فلم تستطع المقاومة والاستمرار في حدتها، وسرعان ما عادت لتماسكها، فهي لا تحب أن يعرف أحد ضعفها. قالت لا أعرف كم كان عمري عندما تزوجت، ربما كان يتراوح بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة، فقد كنا نحسب الأعمار بالأحداث الحياتية، لم يكن هناك تسجيل مواليد ولا شهادات ميلاد ولا تحقيق شخصية، لا يهم حساب العمر ولا أعرف أي شيء عن زوجي، فقد كان غريبا ليس من أبناء عائلتنا، وما رأيته إلا في ليلة الزفاف كما كان يحدث لبنات جيلي في السنين الغابرة، كنت متخوفة من هذه الحياة الجديدة وهذا الشخص المجهول، فلا أدري إلى أين تسير الأمور، ومع مرور الأيام تأقلمت معه وانطلقنا في الكفاح، لم يكن هناك ما يرثه عن أبيه، ولا مقام له في القرية إذ لا يوجد ما يعيننا على النفقات، وهو يعمل أجيرا، وكثيرا ما يتعطل أياما متتالية، وكان قراره بالهجرة إلى العاصمة، حيث فرص العمل المتوفرة والحياة أفضل، اصطحبني إلى غرفة صغيرة ورغم ضيقها رضيت بها، التحق زوجي بعمل عند أحد أبناء القرية الذين سبقوه بالهجرة وافتتح محلا لبيع الأسماك، وعمل معه بائعا، وبدأت حياتنا تتغير، عرفت الأموال طريقها إلينا، فأصبحنا نشتري اللحوم والدجاج وبالطبع تأتينا الأسماك مجانا من خلال عمل زوجي، ولدينا الفواكه والحلوى بين الحين والآخر، كان ذلك بالنسبة لنا نعيما نحمد الله عليه، واكتملت زينة الحياة الدنيا بالأطفال الذين توالى مجيئهم، واحدا تلو الآخر، حتى أنجبت سبعة من البنين والبنات، وبدأوا يلتحقون بالمدارس، كل هذا ونحن نعيش ونقيم في نفس الغرفة، بعدما صنعنا أسرّة من طابقين لتستوعب هذه الزيادة السكانية الرهيبة، ومع ذلك فقد كنا سعداء ولم نشعر بأننا نفتقد شيئا حتى بعدما زادت نفقات الأسرة وتضاعفت مطالب الأبناء، بل العجيب أننا كنا نرحب بالزائرين والضيوف من أبناء قريتنا وأقاربنا الذين اعتادوا الحضور إلينا ولا نتبرم ولا نصد، بل كنا نسعد بهم. لا نعرف كيف أنهى الأبناء تعليمهم وحصلوا على شهاداتهم، فقد يسر الله سبحانه وتعالى لنا ذلك من حيث لا نحتسب، وتزوجوا جميعا واستقلوا بحياتهم، انتقلت الفتيات إلى بيوت أزواجهن، والأولاد إلى بيوتهم، انشغل كل منهم بحياته وأبنائه، وهنا حدث انقلاب في حياتي وتغير كل شيء. وهنا عاجلها الخبير بسؤال: ولماذا مع هذه الظروف تريدين خلع زوجك وأنت في أمس الحاجة إليه في هذا العمر وهذه الوحدة؟ قالت: لقد حذرتك من المقاطعة، إنك تعجلت ولم تتركني أكمل كلامي، ما أردت أن أخلع ذلك الزوج والد أبنائي لأنه انتقل إلى الرفيق الأعلى، وبقيت وحيدة في الغرفة التي شهدت كل ذكرياتي وإنجاب أولادي، وأفنيت فيها عمري، لكن الوحدة الآن تقتلني، فقد انفض الكل من حولي وأبنائي لا يزورونني إلا على فترات متباعدة، وأنا لا ألومهم وألتمس لهم الأعذار، فهم مشغولون بأعمالهم ومسؤوليات الحياة كبيرة، وفي نفس الوقت فإن الفراغ قاتل، فأنا لا أنام كثيرا، أظل أتقلب في فراشي أحيانا إلى أن ينادي المؤذن لصلاة الفجر فأقوم للصلاة ثم أنام سويعات قليلة وأظل طوال اليوم بلا عمل. كل ما أفعله في يومي هو أنني أجلس خارج البناية التي أقيم فيها أتبادل أطراف الحديث مع جاراتي في أي موضوعات، معظمها غير مهم وربما تافه، مجرد دردشة وكلام بلا قيمة لمجرد التسلية وقتل الوقت، وكثيرا ما يشاركنا الحاج «أحمد» حواراتنا ويدلي بدلوه في كل شاردة وواردة، يقنعنا أنه أبو العريف الذي يعرف ما لا يعرفه غيره، يتباهى بخبرته، ولأنه الرجل الوحيد بيننا فلا نستطيع تصديقه أو تكذيبه فيما يقول، لكنه مولع بالبطولات والقصص الشعبية ويقتني من محل البقالة الذي يمتلكه في البناية التي نقيم فيها الكثير من شرائط الكاسيت حول هذه القصص، لا يمل تكرارها حتى حفظناها عن ظهر قلب، والحاج «احمد» الذي تجاوز الثمانين يعيش في الماضي اكثر مما يعيش في الحاضر، لا حديث له إلا عن شبابه ومغامراته وشجاعته، لا تخفى علينا مبالغاته، لكن الرجل يمتلك الإقناع والحبكة والتشويق، يحب دائما أن يضع نفسه في بؤرة الأحداث ويختلق أدوارا في الوقائع الكبرى كأنه واحد من الزعماء. وظروف الحاج أحمد لا تختلف كثيرا عن ظروفي، فهو رجل نزح أيضا من إحدى القرى وجاء إلى هذه المنطقة وأقام في نفس البناية، وأنجب البنين والبنات، وكانت علاقتنا على مدى هذه السنين طيبة وارتبط مع زوجي الراحل بصداقة قوية، حتى تزوج أحد أبنائي من إحدى بناته، وأقاما في منطقة بعيدة لظروف عمل ابني، والآن فإن الحاج «أحمد» كما يناديه الجميع صار وحيدا، فقد توفيت زوجته أيضا منذ سنوات، ويحتاج للرعاية، لكنه لا يبدي ضعفا، ولا يظهر أنه بحاجة لأحد، مازال يرتدي ثوب الزعامة ويتمسح في صفات الشباب، وقد يكون أفضل حالا مني، فهو مشغول معظم الوقت في عمله بمحل البقالة، ويتيح هذا له التحرك ويمده بالحيوية ولا يخلو الأمر أحيانا من الشكوى. فجأة وبدون مقدمات وجدت الحاج أحمد يعرض عليّ أمرا غريبا لم أتوقعه ولم يرد حتى على خيالاتي، بطريقته الجذابة في الحديث عرض أن نتزوج بحجة أنني بحاجة إليه وهو بحاجة إليّ، يكمل كل منا الآخر، نتعاون في مواجهة الوحدة والفراغ، نكون جنبا إلى جنب، لم أجد جوابا حاضرا، لا رفضا ولا قبولا، لقد ضرب على الوتر الحساس، في هذه الليلة لم أذق طعم النوم، وأنا أسترجع شريط ذكرياتي وحياتي السابقة، فلا أتخيل نفسي مع رجل آخر بعد زوجي الراحل، كيف أكون عروسا وقد تخطيت الستين، والعريس تعدى الثمانين؟ وهكذا كنت بين شد وجذب، ورفض وقبول، حيرة لم أتعرض لمثلها، تحتاج إلى قرار حاسم وشجاع حتى لا أندم، وكي لا أكون مخطئة شاركت أبنائي في اتخاذ القرار، والغريب أنهم بعد كثير من المزاح وافقوا على الزيجة، فوضعوني في حيرة أكبر، فلو رفضوا لكان الأمر أيسر وانتهى، وكأنني كنت في حلم، تمت مراسم الزواج وانتقلت لأول مرة بعدما يزيد على أربعين عاما من غرفتي إلى غرفة الحاج أحمد، وفي الحقيقة رأيت الرفض في عيون كل جيراننا ومن حولنا، اعتبروا أن ما يحدث نوع من الجنون أو تخاريف الشيخوخة واعتبره آخرون من الحكمة، فلا هو عيب ولا حرام. الأسابيع الأولى كانت كافية لاكتشف الحقائق المرة، شتان ما بين زوجي الراحل والحاج «احمد» والفارق كبير بين الماضي والحاضر، زوجي بحاجة إلى خادمة تغسل ملابسه وتنظف بيته وتعد طعامه، وممرضة تذكره بالدواء وتمرضه وترعاه، وفي نفس الوقت لم يحدث تغييرا في حياتي، ومطالبه لا تنتهي، كانت الاختلافات أكثر من الاتفاقات، وعرفت الخلافات طريقها إلينا مبكرا، لم نستطع التغلب عليها، أو تجاوزها وهي تزداد كل يوم لا وقت في العمر للتضحية، تأكدت أنني أرتكبت أكبر خطأ في حياتي ولا إصلاح له ألا بالخلع، فالرجل بخيل، لم تكشفه إلا العِشرة، حريص على الحياة كأنه شاب في مقتبل العمر يريد أن يبني مستقبله!! وهذه المرة لم أكن في حيرة، فالقرار ليس صعبا والاختيار الوحيد أن أسترد حريتي فطلبت منه التسريح بإحسان، إلا أنه أخذته العزة بالإثم ورفض، فأتيت أطلب خلعه وقد تنازلت عن كل ما قدمه لي، وهي مجرد أشياء لا تذكر، وكما قلت في بداية حديثي لا أريد أن يناقشني أحد في قراري إلا في التنفيذ الفوري، لأنني لا أطيق البقاء معه ولو لحظة أخرى، كفاني ستة أشهر معه، كانت أطول من سنين عمري كلها. لم يجد خبير المحكمة أمامه مجالا للمناقشة كما اشترطت عليه، لا يملك إلا السير في الإجراءات التي تتطلب أولا استدعاء الزوج العجوز ومواجهته بمطلب زوجته، جاء «العريس» وهو يعبث بشاربه الأبيض الذي لم يبق فيه ولا شعرة سوداء، جلس يرد على ما ذكرته زوجته فإذا به هو الآخر يفجر مفاجأة أكبر بأنه نادم على هذه الزيجة الفاشلة، لأنه تزوج امرأة طماعة، لا تفكر إلا في المال، تريد إن تأخذ ولا تعطي، كل همها اقتناء الذهب والمجوهرات، كأنها فتاة في العشرين تبحث عن الزينة! الشيء الوحيد الذي اتفق عليه العروسان العجوزان هو الانفصال، وحان وقت التصحيح وتم اتخاذ إجراءات الخلع، وعادا معا إلى المنزل الذي يقيمان فيه، ولكن ذهب كل منهما إلى غرفته وقد تنفس الصعداء، هي بكت وكأنها لا تعرف الأسباب، وهو ضحك حتى استلقى على قفاه، وكأنه أيضا لا يعرف السبب!! ميزان العدالة من أجل ولدي أحمد محمد (القاهرة) - اعتاد سكان المنطقة الشعبية المشاجرات التي تتكرر بشكل يومي، وربما تتكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد، بين عشرات المتعطلين الذين يتجمعون على نواصي الشوارع أو أمام محال ألعاب الكمبيوتر ويتمازحون بشكل سخيف، ويرددون ألفاظاً نابية ويتبادلون سب الآباء والأمهات، أغلبهم من المتسربين من التعليم، والباقون لم يعرفوا طريق المدارس، وقليلون حصلوا على مؤهلات متوسطة، أصبحت بلا قيمة الآن ومع هذا التكرار اليومي لم يعد السكان يهتمون بما يدور حولهم، وكل ما يفعلونه غلق أبواب ونوافذ بيوتهم ومحاولة أن يمنعوا الألفاظ القبيحة من اختراق آذانهم، وكانت الكلمات تدخل رغم الاحتياطات، في الماضي كانوا يهرعون لفض المشاجرات وتفريق المتشاجرين، وإنهاء الخلافات لكن أصابهم السأم والملل، وتركوا الشباب يتناطحون كالثيران ويتخاصمون أحياناً ويتصالحون أخرى، ويعودون لما كانوا عليه. أما مشاجرة هذه المرة فقد طالت واستغرقت وقتاً طويلاً، تخبو ثم تعود لتستعر من جديد، وقد حمى الوطيس، ضربات متبادلة في كل مكان تصل إليه الأيدي، ملابس ممزقة، دماء تسيل على الوجوه، صرخات تتعالى، وصيحات وتوعد بالانتقام، العدد كبير وتداخلوا في بعضهم حتى أن القادم من بعيد لا يعرف من ضد من ووقفت امرأة تراقب الموقف الذي كان لها فُرجة قد تستمتع بمشاهدتها، لكن عندما علمت بأن «طه» ابن جيرانها أحد طرفي المشاجرة ازداد اهتمامها ونزلت إلى ساحة المعركة التي كانت عبارة عن حرب، زجاج يتطاير فوق الرؤوس، سكاكين بيضاء لامعة يلوحون بها للقتل لا للتهديد، يتدافع الحاضرون خوفاً ويعودون مرة ثانية لمتابعة ما ستسفر عنه هذه المنازلة الدامية، لكن المرأة لم تجد جارتها «أم طه» بين هذا الجمع، فتأكدت أنها إما غائبة وإما لم تهتم مثل الكثيرات، فركضت إليها وطرقت بابها ووجدتها في المنزل وأخبرتها بأن «طه» يتشاجر مع البلطجي حسام، ذلك المدمن الذي يفرض سطوته على المنطقة، الجميع يخافون ويصابون بالرعب منه، لا يتعاملون معه خشية بطشه وجبروته، ويتجنبونه في كل شيء حتى التحية لا يتبادلونها معه، فقد ارتكب العديد من الجرائم وكلما خرج من السجن عاد إليه وأصبح ذلك أمراً اعتيادياً. «أم طه» كانت تعد الطعام لأسرتها، كان اسمها «صباح» سكين المطبخ في يدها، انطلقت كالمجنونة لا تدري كيف ألقت بنفسها من فوق درجات السلم، وهي ليست فوق مستوى الشبهات، فقد شاركت كثيراً في مشاجرات لا حصر لها وألقي القبض عليها عدة مرات، وتم حبسها واتهامها في قضايا ضرب وتجارة أقراص مخدرة، لا تعرف الخوف، ولا يعرف الخوف طريقه إليها، بل أحياناً تقحم نفسها في خلافات لا علاقة لها بها، لكن في هذه المعركة، ضربات قلبها تسارعت، وإحساسها مختلف، لا تعرف ما السبب، وفي دقائق معدودة كانت «صباح» وسط ساحة القتال تسبقها الكلمات التي كانت تخرج من فمها مثل طلقات الرصاص العشوائية، تصيب وتقتل من تصادفه، وتجد من تشجعها وتعضدها، وأيضاً من ترد عليها، وتقارعها بنفس أسلحتها الكلامية، وتبادلها بألفاظ أكثر قسوة، وأكثر تقريعاً، حاولت في البداية أن تجذب ابنها لتبعده عن أيدي «حسام» وأعوانه حتى لا يكون في مرمى ضرباتهم، لكن لم تستطع أن تسيطر على أي منهم، وحاول ابنها أن ينتفض ويوجه بعض الضربات لخصمه فإذا بالآخر ينقض عليه ويلاحقه ويحاول أن يمسك به بينما أطلق «طه» ساقيه للريح، بعيداً عن هذا الزحام حتى يستطيع الهرب من أمامه ومن بين يديه فهو يعلم أنه أقوى منه ولا يمكنه مواجهته، وإذا لحق به فإن الهلاك مصيره المحتوم، وتحول الوضع إلى سباق بلا ضوابط، البعض يعدو للضرب أو الدفاع، وبعض آخر يجري ليتابع ويرى ما يحدث، وآخرون انتحوا جانباً خشية أن تصيبهم ضربة خاطئة أو حجر شارد، شعر «حسام» بأن كرامته قد تعرضت للمهانة، ولابد أن ينتقم، ويجب أن يردها فوراً وإلا فإنها لن تعود، وسيفقد هيبته وسطوته في المنطقة، وربما يتجرأ عليه آخرون مثلما حدث الآن، فأسرع خطاه وهو يشهر المطواة ويحاول أن يشق بطنه، وكاد قلب «صباح» يخرج من بين ضلوعها عندما ضاقت المسافة بينه وبين ابنها وهي خلفهما، وجاءت اللحظة التي لم يرجوها أحد رغم نفوسهم المريضة، لحق «حسام» بضحيته، حاول أن يعتدل ليسدد له ضربة قاتلة، طعنة واحدة ستكون كافية لإنهاء حياته، لم تشعر «صباح» بنفسها وهي تعاجله بطعنة من سكينها في رقبته، قطعت شرايينه، تدفق الدم منه، ترنح وسقط على الأرض، والدماء لم تتوقف، لفظ أنفاسه وسط ذهول هذا الجمع الكبير الذي انفض خلال لحظة قصيرة من هول الموقف، فإن كانوا من قبل قد شاهدوا عشرات أو مئات المشاجرات والإصابات بمختلف أنواعها، من جروح وكسور وطعنات إلا أنهم لم يروا قتلى، ولم يشهدوا شخصاً وهو يصارع سكرات الموت في اللحظات الأخيرة. حضر رجال الشرطة ليجدوا البلطجي المعروف لديهم قد سقط قتيلاً، لكنهم لم يجدوا شخصاً واحداً يمكن أن يدلي بأية معلومة تشير إلى القاتل رغم هذا العدد الهائل من شهود العيان وكلهم اعتادوا هذه السلبية منذ سنوات طويلة، وكل ما تم التوصل إليه من معلومات أن القتيل كان في مشاجرة مع «طه»، فألقي القبض على هذا الأخير، واعترف بذلك لكنه أقسم على أنه لم يقتله ولا يوجد دليل ضده لكن تم التحفظ عليه في قسم الشرطة للوصول إلى الحقيقة. كل ذلك و»صباح» في غيبوبة بعدما حدث، حملها جيرانها إلى منزلها، ولم تشعر بشيء بعد الجريمة، لم تسترد وعيها إلا بعد مرور أربع وعشرين ساعة وهي تتأوه، تذكرت ما حدث، صرخت، سألت عن ابنها اين ذهب؟ أخبروها بأنه مقبوض عليه وقد تم اتهامه بقتل «حسام» وربما يواجه عقوبة الإعدام، وهنا انتفضت كأنما لدغها ثعبان وطارت إلى قسم الشرطة، تعترف بارتكاب الجريمة، وتؤكد أنها ما فعلت ذلك إلا لتنقذ ابنها من الموت، وعلى عكس ما يفعل مجرم، فإنه يحاول الفرار من الاتهامات، اعترفت بمحض إرادتها، وأصرت على أن تنقذ ابنها من السجن أو الإعدام، بعدما أنفذته من الموت وتضحي بنفسها وحياتها من أجله، وانتقلت القيود الحديدية والاتهامات منه إليها، فرغم شراستها لكنها في النهاية «أم».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©