الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عَظَمة

عَظَمة
28 يونيو 2009 00:12
ذات أمسية من أمسيات الزمن التلفزيوني الجميل، زمن الأسود والأبيض الذي لم تكن قد شوهته ألوان الفضاء الزائفة بعد، حلَّ الشاعر سعيد عقل ضيفاً على برنامج حواري راقٍ، تقدمه مذيعة تتصف بقدر لافت من الحرفية والتهذيب، مذيعة عرفها معاصروها تحت اسم سعاد قاروط العشي، وكان الاسم وحده كافياً لبعث الدهشة في أوصال سامعيه. في سياق الحوار توجهت المقدمة نحو ضيفها بسؤال لا يخلو من خبث: أستاذ سعيد أنت متهم بالتكبر، وصولاً إلى حدود العجرفة، ما ردُّك على ذلك؟! أبداً.. أجاب الضيف، قبل أن يضيف: على العكس تماماً من ذلك، أنا أتصف بالتواضع المفرط!! بغريزة الإعلامي، شعرت المذيعة كما لو أنَّ فرصتها صارت مؤاتية للإطباق على محدِّثها، فكان أن أردفت بنبرة لا تداري ما فيها من مكر: لكنَّك تصف نفسك بالإنسان العظيم... «صحيح».. قال الشاعر مؤيداً، قبل أن يضيف بلهجة تختزن الكثير من الثقة: أنا عظيم فعلاً، فما الذي يسعني فعله حيال ذلك؟! وهل المطلوب مني أن أصف ذاتي بغير حقيقتها؟ قال هذا، ثمَّ ختم قوله بطباق معنوي لا يجيده سوى الشعراء: أنا عظيم.. لكنّني متواضع!! بجهد أخفت المذيعة ابتسامة ملتبسة ارتسمت فوق شفتيها، أقول ملتبسة لأنَّها هي نفسها لم تكن تدري ما إذا كانت تشي بإعجاب أو باستهزاء، ثُمَّ تابعت حوارها مع ضيفها في شؤون الشعر وشجونه. على الضفة الأخرى من الشاشة كان بوسع مشاهدين كثر أن يضحكوا ملء أفواههم من الرد الواثق الذي ساقه الشاعر على سؤال العظمة، وكان يمكن لبعضهم أن يعيد الحادثة الى فعل السنين المتراكمة فوق كاهل صاحب «قدموس»، حسم الناس، وبينهم محبون لسعيد عقل، المسألة ببداهة مستفزة، وأدرجوا الإجابة في خانة ما لا يجوز وما لا يليق، وهي مكب واسع ترمي فيه العامة كلَّ ما تضيق به حوصلتها ذات الحجم الممعن في التضاؤل.. لكن ماذا لو أعدنا طرح السؤال مجدداً، وبنبرة أكثر هدوءاً؟! أليس من حق الشاعر الذي بلغ من الشعر مكانة مميزة أن ينسب لنفسه قدراً من العظمة؟ وهل صحيح أنَّ العظماء لا يجدر بهم أن يدركوا أنَّهم كذلك فعلاً؟ وهل بوسع العظيم أن يبقى على عظمته إذا لم يلامس جوهرها وحقيقتها؟ واستطراداً: هل يُعتبر تنكر المرء لذاته وصولاً إلى جلده لها شرطاً عادلاً ليكون مقبولاً من الآخرين؟! قرأتُ ذات مرة لأحد المفكرين أنَّ في داخل كلٍّ منَّا بطلاً يحتاج فقط أن نكتشفه كي يبدي من الآراء ما يثير الذهول.. لا أخفي عليكم أنني منذ أن قرأت القول وأنا أنقَّب في داخلي بحثاً عن ذلك البطل، فأنا أحتاجه حقاً كي أشكو له فعل زمن التواضع بي، وأعدكم: عندما أعثر عليه سأخرج إلى الملأ صارخاً بنبرة أرخميدس وجدته..!! ستقولون جنوناً؟! لا ضير فهو جنون العظمة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©