الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العروض المسرحية لقصر الحصن تثري الحركة الثقافية في أبوظبي

العروض المسرحية لقصر الحصن تثري الحركة الثقافية في أبوظبي
2 مارس 2013 19:53
تتداخل الإيحاءات الضوئية مع المؤثرات الصوتية في مشهد فني نابض يجسد البيئة المحلية لمجتمع الإمارات من خلال فعاليات مهرجان قصر الحصن الذي تحظى عروضه التراثية بالاهتمام الأكبر من الجمهور. وتزهو على الواجهة الشامخة للصرح عناوين مجد كثيرة لمهن لطالما انغرست في البال نبراسا لهمم الرجال بناة الوطن وحماة الأرض،إنها الحكاية نفسها التي تتوارثها الأجيال وتُروى كل مرة بصيغة مثيرة من ملاحم المجد والمعاني السامية. وهذه المرة تتلخص الرواية في لوحة فنية رائعة أبطالها كلمات وأهازيج ورقصات عيالة وحربية ورزفة. نسرين درزي (أبوظبي) ما أن تسدل الشمس آخر خيوطها في سماء أبوظبي هذه الأيام حتى يسارع زوار مهرجان قصر الحصن إلى حجز مقاعدهم على مدرجات المسرح المفتوح قبالة الصرح التاريخي الذي تحتفي الإمارة بمرور أكثر من 250 عاما على إنشائه. يتجمعون هناك بحماس ويقبلون بشغف على لحظات افتتاح العرض الفني الشامل، حتى أن كثيرين ممن تغص بهم الأماكن يفترشون الأرض بهدف ألا تفوتهم لقطة واحدة، وما هي إلا دقائق معدودة حتى يسود الصمت المكان بترقب عال يجذب إليه كل الحواس إصغاء ومشاهدة وتحسسا للعروض الحية التي تأخذ الحضور معها إلى ماض بعيد لم يسبق أن عاشوه على هذا النحو من قبل. وتتكرر هذه اللوحات يوميا حتى نهاية فعاليات المهرجان الوطني المستمر في باحة قصر الحصن حتى 2 مارس الجاري. هاي لاما.. على وقع اللحن البحري «يالله يا صباح الخير .. رزقك عا الله يا طير» ينبت من على خشبة المسرح الضخم مركب قديم بشراع أبيض بالكاد يصمد أمام الرياح الشمالية، وعليه 10 صيادين يتبعون «النهام» بنغماته وتمتماته ومناجاته. «هي يالله بالوله.. بإذن الله مدينا الشراع». يرمون «الألياخ» في البحر وهي الشباك التي كانوا قديما يصنعونها بأيديهم، ويجهزون سلالهم أو «الدوباية» فيما يدندنون بلا انقطاع. «هيلي.. هيلي..» بانتظار ساعة الفرج وأن يأذن البحر بخيراته فتنفرج أساريرهم بالرضا.. وهنا تعلو مجددا وبلا انقطاع ترنيمة «هاي لاما.. هاي لاما..». وفي تمثيل متقن لعملية الصيد تماما كما كانت حرفة يتباهى بها الأولون، تشخص عيون المشاهدين متوغلة في كل حركة تؤدى على المسرح. والذي يتحول فجأة إلى ورشة صيادين تعلو جباههم حمرة الشمس وتعرجات السنين، وهم يشقون ويجهدون في أعماق الخليج، ومع ذلك لا تغيب عنهم بهجة العمل المشترك يدا واحدة في وجه المجهول. وتتخلل الأداء المسرحي البطيء بما ينسجم مع قصص الصيد ومهارات لعبة البحر، شاشة عملاقة تضيف إلى الحبكة الفنية صوراً ملونة كخلفية ذكية لتوظيف أدوات السيناريو في مكانها الصحيح. وتظهر من عليها مفردات من صميم البيئة المحلية المعنية في زمان الحدث ومكانه لتضيء على جزئية المقطع التمثيلي الذي يتزامن عرضه مع مرورها. ومنها «النهام» في إشارة إلى الترنيمات التي يستمتع بأدائها الصيادون، و»المجراف» الذي يمثل جزءا مهما من عملية الإعداد لرمي الشباك. وبعدها «الصيد» بمراحله وفقرة «الخطيف» التي تعتبر الأكثر أهمية في لحظات الرجاء والانتظار. وأخيرا وقت «العودة» حيث مهما كانت النتائج فهو حتما مصدر أمل يتجدد مع كل رحلة ينشد فيها الأجداد أن يأتيهم الرزق. 100 مؤدٍ ولا تقتصر عروض المسرح الحي ضمن مهرجان قصر الحصن على المهن التقليدية التي كانت سمة الزمن الأول لسكان أبوظبي، وإنما تعززها رقصات الحربية والعيالة والرزفة في مشهد متكامل تتداخل فيه الأحداث بما يبهر الناظرين. وبين قطعة مسرحية وأخرى تدخل الفرق المشاركة من مختلف النوادي المحلية، لتقدم عروضها بما لا يقل عن 100 مؤدٍ لكل جولة فنية. ومع كل حركة للعارضين وبأيديهم عدتهم القديمة، يتمايل الجمهور مرة عن اليمين ومرة عن اليسار فيما يخترق الأطفال كل الحدود. ويصبحون هم أبطال العرض عندما يخرجون من خلف الممرات ليؤدوا الرقصات على طريقتهم وبحسب انسجامهم الفطري مع الألحان الشعبية المحفزة. وهكذا تتحول أجواء المسرح المشيد خصيصا لإحياء فعاليات مهرجان قصر الحصن إلى كرنفال شعبي من فئة الأحداث القيمة التي تثري الحركة الثقافية في العاصمة. وتشهد عروض الحربية والعيالة والرزفة التي تقدم يوميا في باحة قصر الحصن اهتماما لافتا من قبل الجماهير التي تختم جولاتها على أجنحته التراثية بمشاهدة هذه اللوحات الفنية المعبرة. ويكفي القيام بزيارة إلى موقع المهرجان الذي تضج به الأرجاء للالتقاء بأوجه من مختلف الجنسيات والتي جاءت بكثافة لمشاركة المواطنين فخرهم بتاريخ أبوظبي المتمثل بقصرها الحصين. رزق البحر ويتحدث المسن سيف سالم سيف الذي يبدو أنه تجاوز التسعين عاماً مع أنه لا يتعرف إلى سنه، عن فرحه بالمشاركة في العرض المسرحي من على مركب الصيد. ويقول إنه عاش سنوات عمره كلها على الشاطئ يجهد في صناعة الألياخ وهي الشباك باللهجة المحلية. ولم يمتهن في حياته أي مهنة أخرى لأنه نشأ في أسرة اعتادت أن تقتات من رزق البحر وخيراته. ويشير سيف سالم سيف إلى أن الحياة قديما كانت أفضل وأكثر راحة بالرغم من المشقة التي كان يتكبدها المواطنون. والسبب برأيه أن الناس كانوا أقل عددا، وأصحاب الحرف كانوا يتعاونون على تأمين أرزاقهم بما لا يترك مجالا للتنافس. بعكس اليوم حيث يتصارع الصيادون على رمي شباكهم في المربع نفسه وكأن البحر ضاق بأهله، مما يجعل الخير يقل ويهدد باندثار هذه المهنة الشريفة. ويقول سيف سالم سيف إن أحدا من أبنائه لم يمتهن مهنته لأنهم اختاروا التجارة عوضا عن البحر لما تعود به عليهم من فائدة أسرع وعناء أقل. ويذكر الصياد المسن أنه جاء من منطقة بعيدة في الإمارات الشمالية للمشاركة في العرض، حيث لم يتعرف إلى موقع المهرجان بعدما اندهش لرؤية الأبراج الشاهقة تحوط بالواجهة البحرية للعاصمة. ويقول إنه منذ زمن بعيد لم يزر أبوظبي لأن صحته ما عادت تساعده على التنقل، وهو سمع من أبناء أبنائه بأنه مطلوب للمشاركة في المهرجان، وما كان به إلا أن لبى النداء بكل سرور إكراما لأبوظبي الغالية على قلبه. صدقية المشهد ويروي عبدالله أحمد شحي المسؤول عن فقرة العريش ضمن العروض المقدمة على جدول فعاليات مهرجان قصر الحصن، حكايات عن تفاعل الجمهور. ويقول إنه منذ الأيام الأولى لنصب أجنحة السعف في الباحة الداخلية لمحيط القصر، شعر وهو من المنظمين بالرهبة التي تسيطر على الموقع بما لا يترك شكا بمصداقية المشهد الشعبي لأبوظبي قديما. ويذكر أن تنوع فقرات العرض تزيد من وضوح الصورة العامة لحكاية الأولين، بدءا من حرفهم التقليدية إلى المهن المتوارثة عبر الأجيال، وصولا إلى خيرات البحر والصحراء وأدوات الماضي التي مازالت تستعمل حتى اليوم. ويعتبر عبدالله أحمد شحي أن توافد الناس على مشاهدة الأعمال الفنية المقدمة على المسرح، لهو خير دليل على اهتمام الأجيال بالاطلاع على تفاصيل كانت معاشة في الماضي. وذلك من باب تلمس معاني النضال المعيشي والجهد الجسدي وكذلك معاني التحدي والإرادة والإصرار. وكلها صفات كانت سمة الأجداد ممن اختصروا بمعاناتهم الدرب على أبناء الوطن الذين ينعمون في عهد الإعمار بالكثير من مزايا الحضارة التي ما كانت لتصلهم لولا عذابات الأولين. ويشير عبدالله أحمد شحي إلى نموذج بسيط من مفردات الموروث الشعبي، وهي القواقع البحرية التي كانت تستعمل في الماضي للزينة ولعب الشطرنج. ويقول إنها اليوم تجذب جماهير المهرجان ومعظمهم يتعرفون للمرة الأولى إلى حقيقة استخدامها كواحدة من أقدم اللعب الشعبية «الحيلوس» لأهل المناطق الساحلية في مجتمع الإمارات. وكذلك الأمر بالنسبة لـ»القرقور» وهي المباخر المصنوعة من سعف النخيل والتي كانت تستعمل كذلك كـ»دوباية» لصيد السمك. و»الخرس» على شكل جرار كانت ممتازة لحفظ التمور و»المالح» أي السمك المملح. وكلها أدوات يتم عرضها تدريجا وسط مؤثرات صوتية تعيدها إلى مكانها الأصلي. حتى الآخر على الطرف المقابل لمنصة العروض، وتحديدا من على مدرجات المشاهدة، كان لابد من التعرف إلى انطباعات الجماهير التي فاقت خلال اليومين الأولين للمهرجان كل التوقعات. وتعلق سناء المحمودي على خفة حركة المؤدين على المسرح بالرغم من أنهم ليسوا ممثلين محترفين بالمبدأ. وتقول إنها أعجبت بالمؤثرات الضوئية التي كان لها الدور الأكبر في لعبة الليل والنهار والتباين بين اللوحات الطبيعية. وهي تذكر أنه سبق لها وأن شاهدت من قبل عروضا شبيهة بواسطة تقنية الليزر، لكن الجديد في الأمر أن أدوات التراث كانت حاضرة بقوة ما بين العناصر البشرية والمواد الأخرى. وتلفت سناء المحمودي إلى وحدة المسرح التي استطاعت أن تلفت انتباه المشاهدين على مدى أكثر من ساعة ونصف الساعة وبشكل متواصل. وهذا بحد ذاته دليل على نجاح العرض الذي لم يكن من السهل برأيها عدم متابعته حتى الآخر. الرأي نفسه يسجله علاء الحفناوي الذي مع أنه لم يجد مقعدا على المدرج، غير أنه بدا مرتاحا بمشاهدته واقفا طوال العرض، وأكثر من ذلك، فإنه كان طوال الوقت يحمل ابنه أيمن الذي لا يتجاوز السنتين من عمره. ويحاول لفت انتباهه مع كل مؤثر صوتي أو ضوئي يخيم على المكان. ويذكر علاء الحفناوي أنه استمتع كثيرا بالرقصات الشعبية التي تم تقديمها مباشرة بعد العرض المسرحي. والتي مثلت برأيه تصويراً حياً لواحدة من أهم فقرات الموروث الشعبي الذي يتباهى به المجتمع المحلي. ويعتبر أن ما يتم تقديمه اليوم في أبوظبي المتمثلة في مهرجان قصر الحصن التاريخي، هو مفخرة لجهود عقول تفكر بأهمية الحفاظ على القيم والعادات بهدف الارتقاء بالقمم. وتتحدث أمل البدوي عن اهتمامها بالتفاصيل الصغيرة التي لم يتم إغفالها ضمن العروض المقدمة. ومنها أدوات الحرف اليدوية ونغمات النهام التي مع أنها لا تحفظ كلماتها لكنها تشعر بتطابقها مع تمايل المراكب وهموم الصيادين. وترى أن هذا النوع من الأعمال الفنية يؤثر إيجابا على فهم التركيبة المحلية لمجتمع زمان، ولاسيما أن السرد المسرحي بالصوت والصورة هو أفضل تعبير عن الواقع. وتقول أمل البدوي إنها تنوي معاودة المجيء إلى المهرجان مع أخواتها وزميلاتها لمشاهدة العرض مرة أخرى واستنباط المزيد من الملاحظات التي تفيدها بمهنتها، كونها باحثة تربوية. مفخرة للأجيال جمالية المشهد الفني المترجم صوراً وكلمات وحركات إيحائية على الواجهة المعمارية لقصر الحصن، جاءت موفقة لإضافة المزيد من أوجه الإبداع المسرحي إلى العرض الشعبي الذي يقدم يوميا ضمن فعاليات المهرجان، والانطباع السائد في صفوف الحضور هو ابهار كلي بتاريخ يرونه ماثلاً أمام أعينهم بقيمة مجتمعية أقل ما يقال فيها إنها مفخرة للأجيال. ساحات الماضي اللافت ضمن أعمال الديكور التي تشكل بوابة لعبور الخطوات إلى المسرح المتكئ على كتف قصر الحصن، هو توزيع أشجار النخيل الهيفاء برسم مناسب يعيدنا إلى ساحات الماضي، أما تقطيع الأجنحة السعفية ونشرها بين الممرات فهي تمثل بمصداقية هندسية حال الفريج المزروع ببساطة الأيام وترابط أهلها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©