الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعبوية فضيلة أم رذيلة؟

الشعبوية فضيلة أم رذيلة؟
13 ابريل 2017 20:12
ليست الشعبوية هي فقط إعلان الانتماء إلى الشعب بمعنى الطبقات الدنيا، بما يضمره هذا التصور من بعد تراجيدي ومأسوي، بل أيضاً تمجيد هذا الانتماء ومن خلاله تمجيد الشعب والجماهير بالمعنى الواسع الذي قد لا يشمل فقط الأبعاد الاجتماعية، بل ربما حتى الجذور العرقية والروابط اللغوية والمتخيلات الجمعية. العلوم الاجتماعية ظلت هي أيضاً في حالة صعود وهبوط من تمجيد البطولة الفردية والأبطال الاستثنائيين في كل المجالات الدينية والخيرية والفنية والرياضية والعلمية... إلى تمجيد الجماهير والجموع والوحدة العضوية والروابط المشتركة. من التراث الفكري لتمجيد البطولة نذكر الأبطال لكارلايل الممجد للتميز والتفرد، مقابل تصورات سوسيولوجية أخرى نذكر من بينها «سيكولوجية الجماهير» للفرنسي غوستاف لوبون الذي هو في النهاية قدح في التجمعات والجماهير التي هي في نظر صاحب الكتاب هيجان ومشاعر عدوانية تشل القدرات الذهنية للفرد وترده إلى المستوى البشري الأول الأقرب إلى القطيع. من آثار لوبون قولته إن الناس تستطيل آذانهم عندما يجتمعون. الماركسية هي أكثر الإيديولوجيات والمذاهب السياسية قرباً من الشعبوية. فقد مجدت الجموع وقدست الجماهير لدرجة جعلت الجماهير هي الحكم والمرجع النهائي (الكلمة الأخيرة للشعب) في كل القضايا، إلى حد الأسطرة والأمثلة. الاتجاهات الاشتراكية على العموم كانت ميالة إيديولوجياً إلى تمجيد الشعب والجماهير لدرجة الأقنمة، وجعل الفرد لا يكتسب قيمة أو مكانة اجتماعية عليا إلا برضى الجماهير عنه وتصفيقها له. فالبطل لا يستمد بطولته إلا من الجمهور السياسي والنقابي ثم الشعبي العام. ولعل الديمقراطية ذاتها شكل من أشكال الشعبوية، بل ربما مأسسة وقوننة لها. فعن طريق الديمقراطية صعد هتلر وموسوليني لكن أيضاً مانديلا ونظائره. الديمقراطية هو الشرط السياسي الذي هيأ الظروف لصعود قادة شعبويين من الدرجة النهائية كبرلسكوني وساركوزي، ولنذكر في عالمنا العربي صانع مفهوم الجماهيرية الذي يجمع في ثناياه بين الحكم الجمهوري والغثاء الجماهيري. السؤال المطروح اليوم بحدة في المجال السياسي، سواء في الدول المتقدمة أو في الدول التابعة هو: لماذا وما هي الأسباب التي جعلت الديمقراطيات الحديثة تميل أكثر نحو توجهات شعبوية بالمعنى غير الإيجابي والتي قد تبلغ بعض التحليلات المبالغة إلى نعتها بالرداءة السياسية. ما لا جدال فيه أن الشعبوية هي أقرب ما تكون إلى إيديولوجيا سياسية، وإن تكن غير مكتملة المعالم وغير مرصوصة البنيان الداخلي، فإنها تؤدي دور تصور سياسي مؤطر وموجه تختلط فيه العناصر الإيديولوجية الشعبوية والحشدية والعناصر اليوتوبية الساحرة والجاذبة للجمهور العادي، ومسرحاً لانفجار المكبوتات الثقافية والسياسية الأقرب إلى الغرائز المراوحة بين أحلام الهوية والمطالب الحيوية الاستهلاكية. هذه المكونات الإيديولوجية واليوتوبية والغرائزية تتهيأ لها فرصة الانفجار والأداء الاجتماعي السياسي عندما يتعوق التطور الاجتماعي بسبب عوامل خارجية أو عوائق داخلية تنعت عادة بالأزمة. ويأتي التشخيص الشعبوي من حيث هو رؤية تبسيطية للأزمة يلخصها في عناصر ملموسة: فسبب الأزمة الاجتماعية هو تدفق المهاجرين واحتلالهم لقطاع العمل والخدمات بأجور أدنى، وسبب الأزمة السياسية هو بيروقراطية الدولة كوسيط بين الإدارة والشعب والتهامها لجزء من الميزانية، ومن ثمة تكثيف العداء للطبقة السياسية والأحزاب والفاعلين والإدارة. هذا «التشخيص» هو رؤية تبسيطية تتضمن خلاصات ملموسة ثنائية اختزالية وذات قدرة تعبوية ساحرة وسحرية، وهذا ما يفسر انتعاش الشعبوية في الغرب الأوروبي والأميركي، وهو انتعاش سيشكل منعطفاً ورؤية وباراديغما جديداً في الدول التابعة خلال العقود المقبلة عبر نوع من العدوى السياسية الدولية. هذا فيما يتعلق بآليات انبعاث الشعبوية، أما فيما يخص تقييمها المعرفي والأخلاقي فإنه لا يمكن فرز الإيجابيات عن السلبيات وتقديم صورة وحيدة الجانب. تتمثل الخلفيات الاجتماعية المولدة للشعبوية في التحولات التكنولوجية وتوابعها الاقتصادية والاجتماعية، المتمثلة في دخول فئات اجتماعية واسعة إلى المجال العمومي وإلى الساحة السياسية، وعلى انتشار المصانع والشركات والإدارات والوظائف، وهي التحولات التي تذكيها وتؤطرها الثقافة السياسية والإعلام. وهذه الأدوات الجماهيرية تبلغ ذروتها اليوم مع ظهور التلفاز والهاتف والتلغراف ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي تلف عبرها مئات الملايين من الأفراد الغفل إلى ساحة الفعل والحشد والتأثير. فالثقافة الجماهيرية بالمعنى الواسع هي انعكاس للتطور التكنولوجي، كما أنها مجال فعل جماهيري واسع لم يعد في الإمكان تجاهل دوره وتأثيره في صناعة الفعل السياسي، وهو ما أعطى للشعبوية أعلى شروط الفعل التأثير في المجال السياسي. طبعاً هناك الوجه الآخر، لنقل السلبي للشعبوية، والمتمثل في ذيوع وهيمنة معايير الملكية والمظهرية، والتفاخرية التنافسية، ومستلزماتها الأخرى كالعمومية وسرعة الأحكام الاستهلاكية السياسية، والبطولية والنجومية السريعة... وهذا ما يلزمنا بالنظر إلى الشعبوية لا من زاوية التقييم الأخلاقي فقط، بل أيضاً من زاوية الديناميات الاجتماعية العميقة المولدة والموظفة لها في عصر مواتٍ لها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©