الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صورة أميركا... في قرية سودانية!

صورة أميركا... في قرية سودانية!
5 مارس 2011 23:08
يوم الأربعاء الماضي، اشتكت وزيرة الخارجية الأميركية أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي من التخفيض الذي لحق بميزانية وزارتها، قائلة إن الأمر كان يستدعي، بدلاً من ذلك، تخصيص المزيد من الأموال لتحسين صورة الولايات المتحدة في الخارج. ولكن الوزيرة لم تشر إلى شيئين آخرين -على الأقل: الأول، أنه عندما أعلن الرئيس السابق بوش عن "حرب الأفكار"، وزاد من الميزانية المخصصة للعمل الدبلوماسي، لم تتمكن الولايات المتحدة مع ذلك من تحسين صورتها، وخصوصاً في العالم الإسلامي. والثاني، أن السبب في هذه الصورة السيئة لم تكن مبادئ الحرية والعدالة الأميركية، ولا حب الشعب الأميركي للخير، ولا تقدم أميركا في العلوم والتقنية، وإنما كان السبب الأول والأخير هو السياسة الخارجية الأميركية. وفي الحقيقة، ربما كان يتعين على كلينتون أن ترافقني خلال الرحلة الأخيرة التي قمت بها لقريتي "وادي حاج" الواقعة على ضفاف النيل في شمال السودان، جنوب المنطقة الحدودية مع مصر. فبعد 30 عاماً في واشنطن، و20 عاماً من الغياب عدت إلى قريتي، بسبب وفاة والدي. وطيلة وجودي في القرية كنت شغوفاً بمعرفة الكيفية التي تبدو بها صورة الولايات المتحدة هناك، بعد مرور أكثر من تسع سنوات على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبدء "الحرب على الإرهاب"، وخصوصاً أنني كنت على اطلاع على المواقف المتضاربة تجاه الولايات المتحدة، التي كانت تظهرها المسوحات واستطلاعات الرأي. ففي عام 2003 على سبيل المثال، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "بيو" الشهيرة للأبحاث أن نسبة الأشخاص الذين ينظرون إلى الولايات المتحدة نظرة إيجابية كانت متدنية للغاية في بعض دول الشرق الأوسط حيث لم تزد عن 1 في المئة في الأردن، و13 في المئة في باكستان، و15 في المئة في تركيا. ومع ذلك فإن نسبة من أبدوا إعجاباً بالتطور الأميركي في مجال العلوم والتقنية وصلت إلى 59 في المئة في الأردن، و42 في المئة في باكستان. وبالنسبة للآراء تجاه الثقافة الشعبية الأميركية كانت أكبر مما كان المرء يتوقع: ففي لبنان قال 59 في المئة من المستطلعة آراؤهم إنهم يحبون الموسيقى، والأفلام، والتلفزيون الأميركي. وفي البلدان الإفريقية التي يشكل المسلمون نسبة كبيرة من سكانها مثل السنغال ونيجيريا، قال أغلبية المستطلعة آراؤهم إنهم يحبون الثقافة الأميركية الشعبية، على رغم أن الأغلبيات في الأردن ومصر قالت العكس من ذلك. وللأسف لم تجر مؤسسة "بيو" استطلاعاً للرأي عن هذه المواقف في السودان. وعندما عدت من غربتي، بدت قريتي في نظري، وكأنها قرية من القرى الأفغانية التي كنت أشاهدها على شاشة التلفزيون: فبيوتها طينية، وشوارعها متربة، وتسير فيها الدواب، ويرتدي رجالها الجلابيب الفضفاضة، وتعيش الأغنام والماعز داخل بيوتها، وتجول الكلاب في دروبها، وتغطي نساؤها أجسادهن وشعورهن ولكن ليس وجوههن. وخلال الفترة التي أمضيتها هناك، زرت مدرستي أو "خلوتي" التي كنت أدرس فيها عندما كنت صبيّاً. وكنت أثناء دراستي حينها أجلس على الأرض لقراءة سور من القرآن الكريم، تماماً مثل الأطفال الأفغان الذين نراهم على الشاشات. وقد حضرت بالطبع مجلس عزاء والدي حيث تصدرت المجلس مرتديّاً الجلابية السودانية التقليدية الفضفاضة، وكان يجلس بجانبي لتقبل العزاء بعض من أبناء عمومتي وأصدقاؤهم الذين جاءوا للعزاء هم أيضاً. ومن حين لآخر كان هؤلاء يسألونني عن الأحوال في أميركا، وعن المكان الذي دفن فيه مايكل جاكسون (لم أكن أعرف في الحقيقة ذلك المكان)، ومتى سيزور أبنائي القرية (هم يودون ذلك بالفعل)، وما إذا كنت قادراً على تأمين قبولهم للدراسة في الجامعات الأميركية (سأبذل قصارى جهدي في هذا الأمر). وفوجئت أثناء الزيارة بمستوى الشعبية التي تحظى بها في قريتي بعض أكثر الحركات الأصولية تشدداً في العالم العربي والإسلامي. وأطلعني بعض أقاربي على مشاهد من شرائط سينمائية التقطوها من الفيديو عن عربات أميركية يتم تفجيرها بواسطة المواد الناسفة مصحوبة بأصوات من نفذوا هذه العمليات وهم يهتفون صائحين "الله أكبر!" بالإضافة إلى أفلام لابن لادن وهو ينتقد أميركا. وفي إحدى الجلسات، وعندما سألني أخي عن الحياة في أميركا، أخبرته عنها، وامتدحت ما تتمتع به من حرية، ففوجئت به ينفجر صائحاً: أي حرية! حرية استهداف المسلمين في كافة أنحاء العالم؟! أم حرية الوقوف مع إسرائيل ضد العرب؟! عن أية حرية تتحدث؟! وعندما التفت حولي، ولاحظت أن الجالسين يومِّئون برؤوسهم موافقين على ما قاله أخي، فضلت أن أغير موضوع الحديث، وكان ذلك هو أكثر الخيارات حكمة، في مثل هذه المواقف.وقبل سفري بيوم واحد، حضرت صلاة الجمعة في مسجد بقرية مجاورة، واستمعت لخطبة الجمعة التي تحدث فيها الإمام عن الأشياء التقليدية التي تتضمنها مثل هذه الخطب، كتحذير العصاة ووعيد غير الملتزمين بالويل والثبور، ووعد الأتقياء بالجنة، ولكنه دعا الله أيضاً أن ينزل العقاب بأميركا. وفي العادة لا يعلق المصلون على خطبة الإمام، ولكن هذه المرة مال أحد المصلين الذين كانوا يجلسون بجواري على أذني وقال لي: "لماذا ندعو الله كي يعاقب أميركا؟.. لماذا لا ندعوه كي يهدي أميركا إلى طريق الصواب؟". وعندما عدت إلى أميركا مرة أخرى وانخرطت بحكم عملي كمراسل صحفي في الحوار السياسي في واشنطن وما يثيره من مشاعر الخوف، والغضب، والتشوش، والتوتر، كنت من وقت لآخر أتذكر ما قاله هذا المزارع وأدعو الله أن يهدي أميركا إلى طريق الصواب. ولقد فعلت ذلك على وجه التحديد في ذات اليوم الذي جلست فيه أمام التلفزيون أستمع لهيلاري كلينتون وهي تطلب من الكونجرس تخصيص المزيد من الأموال لوزارتها، حتى تتمكن من تحسين صورة أميركا في الخارج.. كما لو أن تلك الصورة تتوقف فقط على ما ننفقه من أموال، ولا شيء آخر. محمد علي صالح - واشنطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفيس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©