الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الدين والأيديولوجيا.. علاقة مأزومة

الدين والأيديولوجيا.. علاقة مأزومة
26 مايو 2016 15:23
عبد الجواد يسن يمكن الربط بوضوح، بين ظهور الأيديولوجيا وأزمة الدين التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر الأوروبي، كما سيمكن الربط لاحقًا، لكن بوضوح أقل، بين الظهور الجديد للدين، وأزمة الأيديولوجيا التي بلغت ذروتها في نهاية القرن العشرين. قدمت الأيديولوجيا ذاتها فيما يفهم البعض كبديل تعويضي عن الدين، خصوصا في شقه الاجتماعي الدنيوي (السياسي التشريعي)، فهي معنية أولًا: بمشاكل الإنسان (الخلل الاقتصادي السياسي الاجتماعي المرتبط بوضعيات استغلال واستبداد) على الأرض وليس في السماء، وهي معنية ثانياً: بأن تنبع حلول هذه المشاكل من الإنسان ذاته أي من داخل العالم لا من خارجه. وعلى ذلك، فهي كالدين تقدم وعدًا بحياة ثانية (أخرى) أفضل من الواقع، ولكن هذه الحياة ليست مؤجلة لملكوت السماوات كما في الدين، بل ممكنة التحقق على الأرض في المدى المنظور وفق قوانين نابعة من الاجتماع ويمكن تحفيزها بالعقل والجهد البشريين. وهي - كالدين أيضًا- تطرح رؤية تتسم بالشمولية، مبنية على نوع من التأصيل النظري، وتعتمد، بغموض، آليات شحن معنوي ذات مساحة وجدانية (شيء من الطابع الرمزي والإيقاني) ولكن هذه الرؤية خلافًا للدين لا تهتم بفكرة الخلاص الفردي ذات الطابع السماوي، بل تشتغل على العام الذي تمثله الطبقة أو الأمة أو العالم. تقاطعات منطقة الاجتماعي (السياسي التشريعي) هي، إذن، منطقة مشتركة يتقاطع فيها الدين مع الأيديولوجيا، وفيها يشتعل التنافس الذي يسم غالبًا علاقة الطرفين. وبوجه عام يبدو موقف الدين حيال الأيديولوجيا أكثر تشددا من موقف الأيديولوجيا حيال الدين، بسبب فكرة المقدس المتعالية ذات المضامين التي تنزع عن البشر صلاحية تنظيم العالم. لكن الأيدولوجيا (وهذا أكثر وضوحًا في الماركسية التي رفضت دوغما المقدس المتعالي) أسست ذاتها على حتميّات نهائية اجتماعية، ما يعني الوقوع من جديد في شرك الدوغما وإن كانت أرضية تنتمي إلى العالم، وهو ما سيسهم لاحقًا ضمن حيثيات أخرى في تراجع الأيديولوجيا على مستوى النتائج وكمفهوم نظري. افتراقات يمكن الحديث عن فروق نسبية في هذا الصدد على مستوى الطرفين، قارن مثلًا بين موقف الماركسية وموقف الأيديولوجيات «الحرة» التي سادت في الغرب: هذه الأخيرة قبلت إجمالًا، بفكرة اقتسام العالم مع الدين تحت سقف العلمانية، واستطاعت إيجاد صيغ عملية وتأسيسات نظرية لهذه الفكرة (راجع مثلاً التأصيلات المدهشة التي قدمها جون ديوي لفكرة الدين في سياق البرجماتية) في مقابل ذلك أنكرت الماركسية على الدين حتى دوره الوظيفي الذي أسبغه عليه أوغست كومت كعامل مساهم في بناء الوعي الجمعي والمحافظة عليه، ولم تر فيه أكثر من غطاء يستر الاغتراب الاقتصادي الناشئ عن الرأسمالية، إما من جهة الطبقات المهيمنة التي توظفه في تبرير الاستغلال، أو من جهة الطبقات المقهورة التي قد توظفه في التعويض أو الاحتجاج. بالقياس إلى المسيحية (الغربية خصوصًا) يُظهر الإسلام حساسية أكثر حيال التوجهات الأيدلوجية ونتائجها الاجتماعية وهو موقف مفهوم بالنظر إلى جسامة الحضور «الفقهي» في المنظومة الإسلامية، الأمر الذي يشير الى اتساع مساحة المشترك الاجتماعي الذي يتقاطع فيها مع الأيديولوجيا. (مسألة الجسامة الفقهية في المنظومة الإسلامية ترتبط بسياق «تكونها» التاريخي الذي تداخل مع نشأة الدولة وكرس طابعها الاجتماعي التشريعي، وهو سياق مشابه من هذه الزاوية للسياق اليهودي، ومغاير لسياق المسيحية التي تكونت في نطاق الدولة الرومانية، أي بمعزل عن «دولتها» الخاصة في البداية، ما وجه مسارها وجهة لاهوتية أكثر منها تشريعية). تمييز مفاهيمي كل ديانة إذن تحتوي على قطعة من الأيديولوجيا، لأن كل ديانه تحتوي على شق اجتماعي تاريخي. هذا مقتضى التمييز بين الدين والتدين والديانة: توحيديًا، ومن زاوية العلاقة مع الاجتماع، الدين هو المطلق الكلي القادم من خارج الاجتماع والذي لذلك، لا يتعدد ولا يتطور. والتدين هو ممارسات البشر المتعددة والمتطورة للدين في العالم أو داخل الاجتماع. أما الديانة، فهي صيغة للتدين تكونت في سياق اجتماعي (زمني جغرافي) خاص، صيغة تدين جماعي ملزمة ذات خصائص سلطوية، جرى تسييدها تاريخيًا كنمط حصري للتدين بفعل الحضور المبكر للمؤسسة الدينية وتداخلها العضوي والوظيفي مع الدولة. عبر التاريخ، وبسبب الدور الذي لعبته المؤسسة، كانت الممارسات التي أنتجها التدين، وهي ممارسات اجتماعية خالصة تنضم الى منطوق البنية الدينية الملزم (الديانة)، أي تكتسب صلاحيات السلطة المقدسة (المؤبدة) للمطلق. هنا أدى التدين إلى تضخيم الدين، بحيث صار ما هو اجتماعي أكبر مما هو مطلق (إلهي) في منطوق هذه البنية. إذن المشكل ليس في حدوث التدين، بل في تحوله إلى دين، أي في اكتسابه صلاحية السلطة المؤبدة للمطلق، وهو ما يعني تثبيت كتلة من الثقافة التاريخية هي بطبيعتها غير قابلة للتثبيت، الأمر الذي يفضي في لحظة ما إلى صدام ضروري مع حركة الاجتماع الخام، بما أنها بطبيعتها متغيرة لا تقبل الثبات. هذه الكتلة من الثقافة أيديولوجيا، من حيث هي مجموعة قيم تعمل على النظام الاجتماعي، ومن حيث هي من صنع التاريخ الاجتماعي، ولكن فيما هي محصنة ضد التغيير بسبب تنسيبها إلى المطلق المقدس، سيتعين عليها أن تتغير بسبب الحركة الضرورية للاجتماع، وهنا مكمن التوتر الذي ينشأ من تناقض الضرورة الدينية مع الضرورة الطبيعية، حيث يجد الإنسان ذاته، إما آثمًا أو ملزمًا بغير الممكن، في حين أنه هو تاريخيًا، مصدر الإلزام. يسمي فورباخ هذه الحالة «بالاغتراب»، فالإنسان يعيش في عالم لا يستطيع حكمه بنفسه بسبب نظام قيمي هو الذي صنعه بنفسه. ونقل ماركس عنه هذه الفكرة، دون أن يفرق بين الدين والتدين، فالنظام القيمي الذي اخترعه الإنسان لا يقتصر على التشريع الاجتماعي الطقوسي، بل يشتمل على الأخلاق وعلى فكرة المطلق ذاتها، لقد صنع الإنسان القيم التي أسندها إلى قوة عليا مفارقة هي بدورها من صنعه. وهذا ما انتهى بماركس إلى اعتبار التاريخ الديني في مجملة تاريخًا للمخاتلة والخداع سمح بتكريس وضعية الخضوع والاستغلال، وهذا مما يمكن ترجمته بأن الدين بكليته ضرب من الأيديولوجيا، صورة معكوسة على مستوى الأفكار والاتجاهات للبنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية (راجع نتائج هذه الرؤية التي هيمنت على الفكر الاجتماعي في بحوث إميل دوركايم عن الطقوس، كتعبيرات عن أشكال وحاجات اجتماعية (جماعية مجتمعية). صنع الإنسان بالنسبة لي ثمة بالفعل منطقة اجتماعية من (من صنع الإنسان) داخل الديانة، ولكنها لا تستغرق بنيتها الكلية التي تقوم أساسًا على الإيمان بالمطلق اللا اجتماعي هذه المنطقة الاجتماعية (الشق التشريعي السياسي الذي ألحقه التدين بالدين) هي سبب المشكل الذي يعاني منه الدين داخل الاجتماع (الاقتصادي والسياسي). وفي الواقع التاريخي الذي شهد فيورباخ وماركس طرفًا منه، كان هذا الشق التشريعي السياسي هو الشق الذي انكسر من الديانة أمام هجوم الحداثة (التطور الجذري في هياكل الاجتماع الكلية)، في حين أبدى الشق المطلق من الديانة ثباتًا لافتًا يشير إلى صلابة بنيوية واضحة تستدعي النقاش حول شيء في الدين قادر على مقاومة التغيير، شيء يمثل نواته العصية على الانكسار، ويعطي سندًا قويًا لمقولة أنه من طبيعة غير زمانية. هذا المعنى العقلاني، المبني على المشاهدة الحسية، يقدم، بدوره، إسنادًا يصعب تجاهله لمبدأ الإيمان. من الناحية النظرية لا يكون المطلق (الدين في ذاته) مسؤولاً عن الاغتراب، لأنه لا «يفرض» نظاماً اجتماعياً معرضًا للاصطدام بالتطور (الذي فعل ذلك هو التدين)، بل «يوحي» بإطار فوق اجتماعي يؤكد الاستقراء على تناغمه مع الشق الثابت (الفطري) من الذات الإنسانية بحيث يبدو صادراً عنها. الوعي الأخلاقي بالصواب والخطأ إحساس فطري مباشر ينبع من ذات الذات قبل حدوس العقل، وهو لذلك إحساس اجتماعي، أو جزء من فطرة الذات الاجتماعية. صدام ما من مشكلة في حدوث التدين، بل في تحوله إلى دين، أي في اكتسابه صلاحية السلطة المؤبدة للمطلق، وهو ما يعني تثبيت كتلة من الثقافة التاريخية هي بطبيعتها غير قابلة للتثبيت، الأمر الذي يفضي في لحظة ما إلى صدام ضروري مع حركة الاجتماع الخام، بما إنها متغيرة بطبيعتها، ولا تقبل الثبات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©