الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شرفة على الماضي

شرفة على الماضي
25 مايو 2016 21:41
نديم غورسيل ترجمة - أحمد عثمان لماذا استعادة هذه الرحلة بعد أربعين عاماً؟ لماذا العودة إلى بالق أسير(1)، مدينة طفولتي؟ أبسبب بعض الصور المصفرة – البسمة التي ترتسم على وجه أمي، الوحدة التي تحوم على نظرة جدتي الجالسة بردائها كاملاً على كليم الفناء؟ أو بالأحرى أهو مسعى للإمساك بالذكريات التي – تحت رحمة السنوات وذاكرتي المخدرة – تتبدى ثم تتلاشى كسفن في الضباب؟ رائحة الصباح الممطر ذكرى نافذة مفتوحة سحابة قلقة، تحليق عصفور هكذا تكلم ديراناس (2) في «أنسى». تنفتح نافذتي على برج حجري ذي ساعة، برج غريب يطارد عقربه الكبير عقربه الصغير. كنيسة ذات قبة بصيلية ومينا ساعة بيضاء اللون، مدورة كشمس الشتاء في بالق أسير. من الممكن أن أقوم بهذه الرحلة من دون أن أتحرك، على طريقة مارسيل بروست. من الممكن أن أنسج على قماشة الزمن برج الساعة الذي يواصل ملاحقتي كما جرى من قبل في مدرسة «6 سبتمبر» الابتدائية، التي يحتفي اسمها بنهاية الاحتلال اليوناني. عصر ذاك، لم أعرف أن كل دوران للعقربين ينتزع يوماً من حياتي. ألفيت نفسي في طرف الطريق. الطريق تفضي إلى ما لانهاية، وكذا النهارات والليالي. هذه الليالي، ليالي السهاد العميقة، التي تدور «كسينماسكوب» بالألوان، مصاحبة بترجمة تركية، كما الأفلام الأميركية المعروضة في الهواء الطلق. فصل أوراق الشجر الميتة لن يأتي قريباً. لا أحد في حاجة إلى دفتر للقراءة والكتابة والحب. نمضي أيامنا في اللعب في الشارع من دون الاهتمام بالوقت. العالم، الأشياء التي تفر منه. ضامناً ذاتي الخالدة، الزمن ملكي. ويا للسعادة التي تناتبني حينما أبدأ الكتابة في كراس جديد ابتعته من البقال! هذه السعادة تسكنني دوماً. على مقاعد مدرسة «6 سبتمبر»، أتعلم أيضاً القراءة قبل أن أعرف قص ولصق الأشياء لكي أشكل منها أشجاراً، حيوانات، جبالًا، سماء مرصعة بالنجوم وأقماراً. تحت نظرة معلمتي الحنون عفت، ذات الأيدي الناعمة كالقطن، والتي نسيت وجهها. ربما دفعني سحر الطفولة، «الحديقة الخضراء للحب الطفولي» التي تحدث بودلير عنها، إلى متاهة هذه الرحلة. نداء الأيام حينما اكتشفت العالم في البداية تحسساً، ثم على أربع وأخيراً على ساقين أو بالأحرى مرخي العنان، كما في أفلام الوسترن التي كنت من مشاهديها المتحمسين في سينما ملك التي تقع في حينا. نداء الأماكن المطمورة في أعماق الزمن التي اختفت منذ زمن طويل واحتفظت بوجود سري في آن واحد. مثل رابية ليسيه بالق أسير. تحت الثلج، منفعلاً، أرتقي المنحدر لكي أخبر والدي، أستاذ الفرنسية: أعرف القراءة! ما زلت أعاني الحروف الصغيرة ولكن لا يهم! العالم ينتظرني، ينفتح أمامي مثل صفحات الكتاب. مكتبة والدي من الآن فصاعداً في متناول يدي. باستثناء الأعمال الفرنسية، بطبيعة الحال. تلك الكتب، سأقرأها فيما بعد في باريس، في غرفة بنزل سيلكت الذي قطنه والدي طويلاً في عام 1958. كانت المناسبة أن أكتب «ميدان السوربون» وأحيا كما يجري في الحلم مغامرة والدي الباريسية. نعم، من الآن فصاعداً، أصبحت كل الكتب، حتى الكتب التي لا تحتوي على صور، مألوفة لديّ. لست في حاجة لمساعدة من أي شخص. أستطيع فك شفراتها، فهمها وأمضي معها كل أوقات فراغي. الحروف المكتوبة على الصفحات البيضاء لا تنزلق أبداً من بين أصابعي. أتذوق اللغة التركية، ألمس لون الكلمات. أصعد المنحدر بكل قواي. يرفعني والدي بيديه المعبقتين برائحة التبغ، ويهديني مكافأتي، «عالم المكتشفين العظام»، الذي سيظل كنز مكتبتي النفيس، ثم أنطلق، ولكن هذه المرة من أعلى المنحدر إلى برج الساعة وأتوقف لاهثاً أمام نبع المياه المتجمدة على الأرجح. زقزقة العصافير الخفيفة تصلني من حديقة «أيغورن». إذن، لم تمتها البرودة. تحت الثلج، يلتحف أقدم أحياء بالق أسير بالصمت والحزن. إذا استعدت هذه الرحلة لكي أجد الأماكن المطمورة في أعماق الزمن، من اللازم أن أشير إلى المحطة. هذه المحطة التي نذهب إليها مرتين خلال العام في عربة مكشوفة لكي نستقل القطار الأسود الذي يقودنا إلى أخيصار لدى جدي لأمي. لم يزل الصرح حاضراً في ذاكرتي بحجارته الرمادية، خزان مياهه الذي يغذي المركبات الساخنة، مشربه الذي يعج بالناس وصالة انتظاره الخالية، عارفاً أن رفاق حيي سيتعلقون بالعربة المكشوفة، أصيح في الخوذي «كرباج للخلف!». كنا خمسة. والدي، والدتي، جدتي، أخي الأكبر وأنا. «كرباج للخلف!». وضع والدي الحقيبة الخشبية بين ساقيه. إلى جانبه، جدتي تدخن سيجارة باستمتاع كالعادة. أخي أخذ مكانه إلى جانب والدي، وأنا إلى جانب والدتي. فجأة، بنظرة واحدة، كأننا متفقون، صحت وأخي بأعلى صوت: «كرباج للخلف! هيا!». يهجر سوط الحوذي مكانه على ظهر الأحصنة لكي يجلد مؤخرة العربة. حتى شتائم الصبية تبدت مداعبات. كنا منفعلين، فرحين، متحمسين للقيام بالرحلة! وهكذا انبجست أمامنا السكة الحديدية التي لم تزل تستحوذ على أحلامي من دون «سينما سكوب بترجمة تركية» تحولها، ولا أعرف السبب، إلى كوابيس. نواصل طريقنا. وفي ذهني تدور القطع المعدنية المثقوبة من فئة المائة مليم التي وضعتها على قضبان السكة الحديدية. تحت العجلات الكبيرة للقطار، ستتمدد وتعرض، وبالتالي أستطيع أن أمنح نفسي زجاجة مياه غازية بخمسة عشر قرشاً بما أن القطع المعدنية من فئة المائة مليم لا تساوي إلا قرشين ونصفاً. في ليسيه غالاتاسراي كتبت أولى قصصي: «الرحلة»، التي نشرت يوم بلوغي السابعة عشرة من العمر في مجلة أدبية مهمة يديرها وداد غونيول، تدعى «الآفاق الجديدة». ولكن في مدرسة «6 سبتمبر» الابتدائية ببالق أسير، بدأت أكتب القصص. كنت أرسلها إلى «أسبوع الطفل»، ثم أنتظر بصبر نافد نشرها في زاوية «لكم الكلمة» التي كان يحررها «أوغوز أوزدش». لم ينسني العم أوغوز أبداً، رغماً عن سني الصغيرة ساندني وأرشدني دوماً. قام بنشر كل قصصي. كنت فرحاً إلى حد الجنون. من بين هذه الكتابات الأولى، هناك قصة «وداعاً إلى إسطنبول»، تلك المدينة التي لم أكن أعرفها وقتذاك، وإنما حلمت بزيارتها – هي نفس المدينة التي سوف تصيبني النوستالجيا إليها – بعد سنوات طويلة – بجرح شبيه بطعنة خنجر صدئ، وأيضاً هذه القصائد المتكلفة، هذه النزوات الطفولية التي اعتبرتها تحفاً أدبية... غالبيتها كانت عن «محمد، الجندي المجهول» أو عن «أتاتوركنا»، نموذجي الشجاعة الوطنية. حسبما التربية القومية التي رسخوها لدى جيلي، هل من الممكن أن نكون شيئاً آخر؟ في الوقت الحاضر، بعد أربعين عاماً، لا أرغب في تذكر هذه القصائد التي تروي انتصارنا على أعدائنا الراقدين في خليج أزمير، «رايتنا القرمزية التي تنبسط في الفجر القرمزي»، وطننا الفردوسي الذي تسيل عليه دماء الشهداء، تحيتنا لأتاتورك كل 10 نوفمبر (3) وغيره. بالمقابل، أدون قصيدة نشرت في «أسبوع الطفل»، خلال عام 1960 أو 1962، تصور البوسفور في نور القمر، وقتما كنت موجوداً في المقاطعة. قصيدة مبشرة بكل تأكيد. بطاقة بريدية عن منظر طبيعي خلاب، منظر طبيعي يخصني وحدي، وقد أصبح إحدى لازماتي، هذا البوسفور الأسطوري الذي سوف نسكن على ضفتيه أو بالأحرى «سنلقي مرساتنا» فيه، كما في الأغنية المأساوية لهذه الخطيبة الغاضبة: «يا حبي الجميل، هل ألقيت إذن مرساتك في إسطنبول؟». في الغابات طلاوة حية لمعان الموج، هواء حزين يعلو من الضفة الأخرى بخار على جسر غالاتا سكوتاري ينشط البوسفور في نور القمر يكتسي باللون الأرجواني والذهب الأمواج تداعب النباتات الخضراء بسمة القمر على البوسفور برج الفتاة الأبيض ينتصب وسط البحر وهو ذا بيبيك، أميرغان وايشتيني، يرسمون كل على حدة، في نور القمر، الجمال الإلهي. في العتمة عرائس البحر تخلق الأصداء والأنوار تلمع على زبد الأمواج إسطنبول، أيتها الجوهرة الخالدة في هذا العالم. حينما كتبت هذه الأبيات، كنت موجوداً في بالق أسير. وكما قلت من قبل، لم أكن عرفت بعد البوسفور. فضلاً عن ذلك، ما الذي علي عمله في إسطنبول بما أنني في الجنة ما دمت في بالق أسير؟ جنة الطفولة التي لم تضع أبداً». «بنسيان أشجار اللوز المورقة/‏‏ لا يمكننا الاحتفاظ بمواكب النهار»، كما كتب ناظم حكمت في زنزانته. بعد ذاك، أمضيت حياتي في الترحال. في كتبي، استعدت بصورة من الصور البلاد التي زرتها. بيد أنني لم أتكلم أبداً عن بالق أسير. ربما أزف الوقت لكي أسدد ما عليّ من دين تجاهها. في الواقع، ما الذي يجذبني، بعد أربعين عاماً، إلى مدينة طفولتي؟ الشعور بالذنب أو أطياف الماضي؟ «للحياة نهاية وليس الطريق»، تلك كانت الجملة المكتوبة على مقدمة القطار الأسود الذي يقلنا إلى بالق أسير. كيف أتوقع أن هذه المقولة سوف تصبح ذات يوم حملي الثقيل، وأن الرحلات التي قمت بها طوال منفاي سوف تحدد مصيري، وتؤسس العالم الحقيقي لوجودي؟ من بدؤوا الرحلة معي هبطوا، وكل واحد منهم هبط في محطة مختلفة. في البداية، والدي، ثم جدتي وبعد فترة والدتي. تلاشوا في الضبابة، من دون أمل في الرجوع. بقينا بمفردنا، أخي وأنا، ننتظر الوصول إلى محطة النهاية. نواصل بمفردنا الرحلة التي بدأناها من محطة بالق أسير. كل هذا لكي أقول لكم أن العالم يضيق كلما كبرت، وأن الترحال نمط حياة، ولكن، في قصتي الأولى، هناك قطار أسود يتقدم لاهثاً ويحملني إلى باندرمة حيث اكتشفت البحر. .هوامش المترجم: (*) ولد نديم غورسيل في مدينة غازي عنتاب، الجنوب الشرقي للأناضول، في العام 1951. درس في الليسيه الفرنسية في إسطنبول، حيث تحصل منها على شهادة البكالوريا في العام 1970، قبل أن يتجه إلى باريس لدراسة الآداب الحديثة في السوربون، ويحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن عن أطروحته حول لوي آراغون وناظم حكمت. يحيا في باريس منذ منعه انقلاب كنعان أروين العسكري الذي جرى في العام 1980 من العودة إلى بلاده. يقوم بتدريس الأدب التركي في السوربون، المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية ومؤخراً في جامعة إسطنبول. يعتبر نديم غورسيل أحد كبار الكتاب الأتراك المعاصرين. كتب يشار كمال، عملاق الأدب التركي، عنه: «نديم غورسيل أحد أندر الكتاب الذين جددوا أدبنا». من رواياته: «المرأة الأولى» (1986، جائزة إيبكشي للتقارب بين الشعبين التركي واليوناني)، «رواية الغازي» (1996)، «عمامات البندقية». من قصصه: «أرانب القائد» (1985)، «الترام الأخير» (1991)، «موت النوارس» (1997)، «شرفة على البحر المتوسط» (2003). وقام مترجم النص بترجمة ثلاثة أعمال له: «المرأة الأولى» (دار أزمنة، 2008)، «سبعة دراويش» (دار أزمنة، 2012) و«الملاك الأحمر» (دار الكتب خان، 2015). مع الإشارة إلى أن ترجمة الكتاب، وبالتالي فصله الأول تتم بموافقة كتابية من المؤلف. (**) الفصل الأول من كتاب: -Nedim Gürsel، Au pays des poissons captifs: une enfance turque، Bleu autour، Paris، 2004. (1) بالق أسير تعني بالتركية «الأسماك الأسيرة». (2) أحمد مهيب ديراناس (1909-1980)، شاعر تركي معاصر. (3) تاريخ وفاة مصطفى كمال آتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، في 10 نوفمبر 1938.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©