الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من يخرجنا من جُحورنا؟

من يخرجنا من جُحورنا؟
25 مايو 2016 21:45
محمد سبيلا نحن غارقون في الحاضر وفي الجزئي وفي الحدث وليس لدينا إمكانية الإفلات من ضغط هذه المحددات الآسرة. من يخرجنا من جحورنا الزمنية والمكانية والحدثية ويسعفنا بخيط ضوء يساعدنا على تبين السمات والملامح الكلية للعصر أو للفترة، خاصة مع تكاثر وتضارب الأوصاف التي تلحق بالعصر إيجاباً أو سلماً: عصر التقدم والحداثة لكن عصر العدمية وأفول المثل العليا، عصر الحروب والكراهيات لكن عصر التواصل، عصر صدام الثقافات أو الحضارات لكن عصر الحوار والتلاقح... عصر الحريات والحقوق لكن بنفس الوقت عصر الضبط والمراقبة للأفراد والجماعات، عصر الشك والريبة والنسبية لكن بنفس الوقت عصر اليقينيات الكبرى والأرثوذوكسيّات التي تفرخ وتوزع العنف والإرهاب، عصر سيادة العقل بمعناه الحسابي والقيمي لكن بنفس الوقت عصر الانفلاتات واللاعقلانية. إنه عصر التناقضات الكبيرة، سواء أخذنا العصر بقياس زمني طويل (العصور الحدثية) أو بمقاس زمني محدود (العصر الحاضر) أو بمنظور أقصر، لكن على إحداثيات الحداثة السمة الأساسية لعصرنا هذا، سواء في المنظور الطويل أو القصير، هي الحداثة وما عداها مشتقات. المقصود بالحداثة هنا مجموع القدرات المعرفية والتنظيمية والتقنية التي راكمتها الشعوب المتقدمة نتيجة الانفصال عن تراثها التقليدي السابق وإعادة تشغيله ضمن رؤى وتصورات فكرية جديدة قوامها مركزية الإنسان والذات الإنسانية وأولوية العقل والعقلنة، الفصل بين مجالي الخصوصية والعمومية، نزع الغطاء القدسي عن الدولة والممارسة السياسية، حلول التشريع والقانون محل الضمير، تمجيد العلم والرؤية العلمية للظواهر والإيمان بفضائل العلم والتقنية لأنهما سيحرران الإنسان من التبعية للطبيعة بل سيذللانها للخدمة الطوعية للإنسان. السمة الأساسية الكبيرة للعصور الحدثية إذن هي ازدهار الحداثة وختمها للعالم وإحداث تحولات نوعية في نمط حياة وفكر الإنسان بما يجعلها سمة أساسية لما بعدها وما عداها تفاصيل. الحداثة في الأصل حدث غربي زمانا ومكانا لكنها تحولت بعد ما يقارب القرنين إلى حدث كوني: - أولا، لأن هذا الحدث مثل قطيعة كبرى في تاريخ البشرية ووسمها وطبعها بحيث أصبح علامة يؤرخ لها به: ما قبله وما بعده. - ثانيا، لأنه لم يبق سجين حدوده بل انتشر تدريجيا عبر العالم كله عبر إنجازاته التقنية وربما كان الاستعمار هو الشكل الذي اتخذت عبره الحداثة بكل مستوياتها طابعا كونيا أي طابع سيطرة خارجية. ثم تلته الامبريالية والعولمة - ثالثا، لأن هذا الحدث النوعي قد أحدث تفاوتا كبيرا بين الثقافات، وتفاوتا بين القارات وكذا بين» الحضارات «وبين الشعوب... - رابعا، لأننا كعرب أو كمسلمين أو كعرب ومسلمين معاً لم نكن في مأمن من هذه التأثيرات الكونية العميقة فنتائجها السياسية والثقافية طالت كل ثنايا وجودنا بل إنها أحدثت فينا جروحا نرجسية عميقة، جروحا في وعينا ولاوعينا لأنها خدشت صورتنا عن أنفسنا، تلك الصورة الجميلة المؤمثلة المبلسمة، ودعتنا إلى إعادة طرح أسئلة حادة على أنفسنا وعلى هذه الصورة المؤمثلة لذاتنا وخلق لنا وعيا شقيا أفرز تأويلا سياسيا للدين قدم نفسه كموئل وحل. لكن هذا الحل تولدت عنه حركات عنف سياسي اندلع محليا ثم تمدد ليبلغ حدودا دموية في العالم. وقد تحايلنا على هذا الفيضان الكاسح للحداثة بالقول مرة إننا ساهمنا فيه سابقا، وبالقول مرة إننا يمكن أن نميز فيه بين التقنية والثقافة فنستخدم الأولى ونلفظ الثانية على أنها مجرد «غزو فكري»...إلخ. كلما ضاعفت الحداثة سيرها وكلما أحكمت سيطرتها على العالم تقنيا وثقافيا وكلما تزايدت سرعتها تزايد تثاقلنا عن استدراك وتيرتها، وضاعفنا ضخ كميات أكبر من الوعي الشقي المبلسم لجروحنا عبر المناداة بالتميز والتفوق اللغوي/ الثقافي/ الروحي، وتغنينا بالأسبقية والريادة، وبأن لدينا سر إصلاح العالم، وأن سبب «تخلفنا» ليس الارتباط بالتراث بل التخلي عنه... هذه المشاعر تختلط فيها بشكل مبهم عناصر الوعي الشقي بالوعي التاريخي، والتشخيص بالاعتداد، والاستشراف بالبلسمة والحلم، في مراوحة بيّنة بين اليقظة والحلم مما يؤجج عنف وعمق الصدمات التي تلقيناها من العصر الحديث. أليست بكائياتنا الكثيرة النثرية والشعرية والحدثية... أكبر شاهد على ذلك؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©