الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الحداثة.. عاقّة

الحداثة.. عاقّة
26 مايو 2016 15:21
شذريات عبد السلام بنعبد العالي موقفان متعارضان من الحداثة: موقف بارد واصف ينشغل بتعيين الأحقاب، وتحديد الملامح وحصر السمات، وموقف مضاد ينظر إلى الحداثة في كونها استراتيجية. يتعارض هذان الموقفان تعارضَ الهدنة مع التوتّر. فبينما يتميز الموقف المهادن بهوَسه التأريخي، وبرودته الوصْفية، وسمته التقريرية التي تكتفي بالتحقيب ورصد المحددات، يعتبر الموقف الثاني أن الحداثة «عصر» بالمعنى الذي يعطيه هايدغر للكلمة، أي لا من حيث إن العصر فترة زمنية تمتد بين تاريخين، وإنما من حيث هو علاقة متفجرة للماضي بالمستقبل. فعند كل عصر ينفجر بالنسبة للإنسان عالم جديد، و تنكشف علاقة جديدة للماضي بالمستقبل. أن تكون «إنسانَ الحداثة» ليس هو أن تتعرف على سير التاريخ وتقف عند حركته الدؤوبة، وإنما أن تتخذ موقفا منها. ليس أن «تقف على»، وإنما أن «تقف من». *** من المفكرين من يجعل الحداثة مقابِلة للتحديث مقابَلة السكون للحركة، والسانكروني للدياكروني، ومنهم من يجعلها تقابله كما يقابل المثالُ النموذجيُّ المتحقّقَ الفعليَّ، مع ما يشوب المتحققَ من نقص وعدم اكتمال، ومنهم أخيرا من يجعلها تقابله تقابلَ المرمى والغاية مع سيرورة التحوّل، أو تقابلَ المجرّد مع العيني، ومنهم من يقيمها على النحو الذي تمّت به في إطار «سوسيولوجية التنمية» التي ازدهرت في العالم الأنجلوساكسوني الذي نحَت مفهوم التحديث خلال خمسينات القرن العشرين حيث فُهم التحديث على أنه الحداثة مجردة من خلفياتها الفكرية، معزولة عن روحها الفلسفية. *** إذا أخذنا هذه الروح بعين الاعتبار، تغدو الحداثة علاقة متوترة مع الراهن، ونمطا من التفكير والإحساس، وطريقة في التفكير والسلوك ينبغي الاضطلاع بها. إنها استراتيجية مناضلة تقوم أمام استراتيجية مضادة تبديها قوة التقليد، من حيث إن التقليد مقاومات مستمرة، وتكيّف ماكر يتلبس ألف قناع لامتصاص الحديث وإفراغه من محتواه، تشبثا بما هو كائن، ومقاومة لكل انفصال. *** مفهومان عن الحداثة: مفهوم يعتبر أن الانفصال ليس محدِّدا للحداثة، وأن هاته سرعان ما تصبح تقليدا بالنظر إلى ما بعدها، ومفهوم مخالف لهذا أشد المخالفة، يجعل الحداثة دائما «ما بعد». *** لا تقابل الحداثة ما قبلها ولا ما بعدها وإنما تقابل ما ليس إياها، أي تقابل التقليد. *** لا تُقطّعُ الحداثةُ إلى «ما قبل» و«ما بعد» لأنها هي نفسها حركة قطْع وانفصال. وهي ليست حقبة تبدأ عند نقطة وتنتهي عند أخرى، لأنها بداية متجددة، ونشأة مستأنفة، وانفصال لامتناه. *** الحداثة ما بعدية في جوهرها وعلى الدوام. «المابعد» لا يشكّل لحظة تأتي بعد، وهو ليس مقولة زمانية، وإنما حال تطبع الحداثة بما هي حداثة. إنه مكوّن من مكونات الحداثة ومحدّد من محدداتها، وليس حقبة تعقبها ولا مرحلة تليها. فنحن لا يمكننا الذهاب أبعد من الحداثة ما دامت الحداثة تجعل المابعدية صميم حركتها. *** الحداثة هجرة متواصلة وانفصال موصول، وكل «مابعد» ليس إلا «حداثة الحداثة». *** الحداثة موقف نضالي ينبني على وعي بالحركة المتقطعة لا للزمن فحسب، بل للكائن أيضا، بحيث لا يعود الكائن مترابط العناصر سواء أكان ذلك على مستوى المعرفة أو المجتمع، وتظهر الانشطارات داخل ما يُعتبر مواقع انسجام، ويتبخّر كل ما هو صلب. *** إن كان هناك «مابعد» فيما يخص الحداثة، فلن يعني إلا كون الحداثة البعدية حداثة أكثر عمقا ورسوخا، لأنها أكثر مرونة، أكثر قدرة على احتواء نقائضها، ولن يكون ذلك إلا تجاوبا عميقا مع ماهية الحداثة نفسها من حيث إنها تجاوز مستمر، وقطيعة متواصلة، وتنكّر دؤوب لذاتها. *** الحداثة حركة تاريخية غير راضية عن نفسها، غير راضية عن مؤسّساتها السياسية، ومنجزاتها التقنية وغزواتها الفلكية، واكتساحاتها المعرفية. إنها لا ترتاح للمفهوم الذي أرسته عن الفرد، ولا للمعنى الذي أعطته للحرية، ولا للدلالة التي رسّختها عن العقل، ولا للكيفية التي بنت عليها الديموقراطية، ولا للشكل الذي أرست عليه الحقوق. فهي حركة لا تركن إلى سكون، ولا تخلد إلى راحة ولا تقنع ولا تقتنع، إنها مابعدية على الدوام. *** ما يميّز الحداثة في مختلف أبعادها هو هذا التنكّر للذات، هذا «العقوق»، وهذا السّعي نحو التضادّ والميل إلى عدم الرضا والانفصال اللامتناهي. *** لا عجب أن توحّد الحداثةُ بين الفكر والنقد، فتجعل من التوجّس والارتياب بنية معرفة، بل سمات وجود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©