الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إبراهيم سلطان المدرس .. القابس اليابس

12 مارس 2014 22:32
إبراهيم سلطان.. أنت في القرطاس والقلم، الحارس والنابس والقابس. أنت المدرس والدارس. من صومعة العلم أسرجت القلم جواداً، وأفضيت إلى السماوات العلا ما جاش من وعي فلسطين الحبيبة، وما دار في خلد الرجال الذين طرسوا الحكمة لغة يعربية، كان حبرها من أرض كنعان وفوحها من زقاق معيريض، المحتفلة دوماً بوجوه أشرق من شعاع الشمس، وأبهى من خد القمر، وأزهى من عيون العصافير، وأرق من ماء الخليج. من مدرسة معيريض المشتركة، سيدي، نسجت خيوط الأمل في عيون أبنائك الصغار، وأسقيت سنابلهم من عرقك وكدك، وكدحك. كبر الصغار، وتفرعت أغصانهم ولما أورقت الفروع، فإذا بطائر النورس يزف الخبر الأليم .. من كان هنا من غرد وتغرد، ونجَّد وعبَّد، ومهد، من كان هنا وأفرد أجنحة الود، والسرد، والعهد، قد نفض الجناحين تاركاً تلك الجدر، وأرملة ومحبين، يلملمون شتات المشاعر ويغسلون العيون بملح الفراق. إبراهيم سلطان.. في الزمن مسافة ما بين وعيك ولا وعينا وفاصلة تخيط قماشة الحلم بانتباهة الفلسفة.. أو لغة الضاد، التي كنت أنت نصلها وفصلها وأصلها. كنت أنت الموجة البيضاء تحرك مكامن السواحل، وترسم صورة الطفل الذي سيكون رجلاً على رمل الذاكرة. كنت أنت النورس المحدق في وجه الغيمة، مستذكراً حيفا ويافا ونابلس، والخليل.. متذكراً (1948) الوعد والوغد وما ساور البطش من مخلب ومثلب، كي يطغى ويثير الوغى.. اليوم وهنا في مقبرة النخيل لا يبدو للطائر المغرد من صوت سوى رقرقة الماء بين أصابع تلك الأحجار المتشظية، وأنت في العتمة تغوص في ثناياك، قناديل عطائك، ومحسناتك البديعيّة، تغفو كأنها الندى، كأنها القطرات المنحدرة من عل، وكأنك سيدي في الخلود تسأل عن وجود غير وجود الأرض، المغتصبة، كأنك في الذروة القصوى، ترفع الأسئلة بحرية متناهية وتشير بالبنان لتلاميذ ك الصغار، هنا تقطن الحقيقة عند هذا اللحد، عند الحد الأقصى للوجود لا تبدو الأشياء شائهة، ولا ملوثة، إنها مثل الكافور المعتق، يتصبب عرقاً منثالاً باتجاه الأرض، ومنك وإليك سيدي تبدو رائحة العطر زكية كأنها لغتك الشفيفة، وأنت تلقي دروسك لصغار حدقوا، وأطلقوا الفكرة بعفوية، وبراءة الملائكة. دفتر الحضور.. سبورة الغياب إبراهيم سلطان.. من ذا لا يذكر دفتر الحضور، وأنت في غيابك تسجل حضوراً بائناً ومدوياً، وتكتب على سبورة الحياة أنك في المكان شجرة لا تعجف ولا تسف، أنت في المكان وعي الناس بالكلمة واستدراجهم حلماً لم يعد بالإمكان إقصاؤه طالما كان النهل من دفتر سيد الكلمات، وبلغة شعرية جسورة كنت تخاطب الفلذات وبمشاعر أدفأ من خيمة العشاق، كنت تستدعي الطفولي بوعيك، وقدرتك وعنفوان الحب الذي كان شامة على جبينك. كنت سيدي تنجز مشروعك الإنساني، بحصافة وفصاحة، ولياقة ولباقة وأناقة منهمراً بعداً أممياً، لا يخضه خضيض، ولا يرضه رضيض. كنت محارباً وفياً في ميدان مدرستك المبجلة، كنت القاموس المحيط تطوق صغارك بالجملة المفصلة، والعبارة الذاهبة في معنى التنجيد. إبراهيم سلطان.. في الغياب تبدو كالشمس إنك لا تذهب إلى العدم، بل تستدير حول أعناقنا ومشاعرنا ثم تخصب الذاكرة بالمشهد الأنيق وأنت تتحدى نفسك، لتضيء قنديلاً رشيقاً في عتمة الذين جاؤوا من تحت سقف خيمة ومن فوق حصير، تغدقهم بأشعة المنطق وشفافية ما تبوح به الشفتين. كنت سيدي من خلف زجاج سيارتك الـ «الفولكس ويجين» تودع، رفاقك الصغار بابتسامة تتسرب كأنها الماء الرقراق، وهم بشغب الطفولة يتبعون ضجيج المركبة العتيدة، ويلحقهم صراخهم اللذيذ حتى تغيب. في صباح يوم مدرسي طوقت عنق أحد الصغار، بذراعك وبلطف الفيلسوف المعلم، قلت بلغة كالحفيف لِمَ لا تحل الواجب يا بني.؟ هذه مسؤولية والوطن بحاجة إلى رجال ملتزمين بحقيقة الواجب والانتماء.. كبر الصغير ولم تزل الكلمات تشدو في أذنيه، ولم يزل يبارك لطفك، ويطلب الرحمة لمن حمل قلباً يتسع رحمة السماوات والأرض. كبر الصغير، ومنديله الصباحي معطر برائحة الحبر، وأنفاس من نشف العرق، عن جبين صغير أصابه التأنيب في مقتل، ولم يزل يذكر كيف تجري الكلمات كالسيوف عندما تكون بأنصال الود والحب، وخفة أجنحة الطير. ناصية المعاني إبراهيم سلطان.. مثل نبوءة، وصفتها في رسالة أرضية نسجت حروفها بالمعنى العميق، وطرحت فكراً أشف من موال بحري على لسان نادل أتعبه السفر، فاستراح عند ناصية المعاني مكتسباً معه الوجود من زهرة نبتت على لسانه لتهدي العالم فوح الحياة تمنح البشرية، إكسير الوجود، وأنت في الغياب تمضي حقباً وتتسارع في صياغة الوجدان، من نقش ثوب امرأة في رام الله، تخيط حلمها بإبرة الحزم، وخيط الصرامة، وتعتق زيتونها لأجل موسم جديد تبلل به شفاه الذين غرقوا في العوز والحاجة المريرة. إبراهيم سلطان.. لم تكن تعرف رام الله أو غزة، بل فلسطين التي جاءت منها رائحة العبق، والنور الرباني، وصوت امرأة تصيح وامعتصماه، وطفل غرير، يمسك من التراب بقبضة اليد ويصرخ: بالعلم يتسلّق وعينا فضاء العالم، ونبني مجدنا من تراب لا تدنسه حوافر غاصب أو معتد. إبراهيم سلطان.. قلت ذات حديث ودي: المجد للذين يعشقون أوطانهم والذين لا يساومون ولا يبيعون بالرخيص، قلت وأنت في القول، مثل ناسك يرتل أفكاره، ويتلو الحياة باعتكاف فريد .. أنت سيدي في وحشة الغياب تطرح حضورك باعتناء وتؤده، وتمضي في الذاكرة مجللاً ببهاء الفلاسفة والمطوقين بفرائد المعنى، وقصائد المغزى، وقلائد الحلم الذي لا يبلى، وتطور في القلب أسباب التهدج وتجدل في الرأس ضفائر التذكر كي لا ينتهي العالم إلى مجرد حكايات خرافية، أو أساطير لساسة يعبثون في خلجان الوعي، وينكبون الحياة، بإحباكات هي من وحي إسقاطات قديمة قِدَم الفكر العدمي. الذاهب في الوعي إبراهيم سلطان.. ذهبت عن الحياة، وذهبت في الوعي، نسخت من روحك طيوراً بأجنحة كالأشرعة، وسفينة الحياة لم تزل، تترجرج في وعاء الذاكرة، وتفضي إلى الزلزلة. ذهبت والقماشة البيضاء لم تزل قميصك الناصع يهفهف على ذراعك، ويعد صغارك بأن الغد أبيض مهما اكفهرت الجهات، لأن من خلف الغيمة الداكنة يسكن المطر، لأن من بعد النجمة الراهنة يسطع القمر، لأنك من بعد كل ذلك تسطو على الوجدان كحلم شفيف، يسترق السمع من خلف جدران الغياب، ويهدي لعشاقك سيدي أجمل الأمل. إبراهيم سلطان.. وأنت في الـ هناك تنام مستريحاً بعد رحلة لقافلة مرّت في شعاب صحارينا، وغاصت في رمال الوعي حتى ابتهلت الكثبان مبتهجة بوجه أجج في تلافيفها معاني الحب وأيقظ في تجاويفها أسباب الوعي، ثم سار متلاشياً في وجوده الجديد، متماشياً لظى أيامنا المتشظية، ماشياً على سجادة نقائه وصفائه، مستبسلاً من أجل وجود قد يكون أصدق من وجودنا.. وأنت الغارف من من معاني الشوق تشتاق إليك، الكلمات كأنها الطير المستقصي جذور بقائه. أنت سيدي الجسور في الفصل المدرسي الحازم بلطف الأنقياء بين تلاميذك لا يباغتك الموت، كون اليقين سر انتمائك إلى حوزة العلم، ومنازل الكلم، ومناهل الفهم. إبراهيم سلطان.. هل غادرت باكراً.. أم متأخراً.. لا يهم، المهم أنك، سيدي، فتحت نافذة طليقة في الذاكرة، والمح في عينيك، لمعة الألم اللذيذ وأنت تهجي تلاميذك الدرس الأول في الفصل الأول، ثم تبتسم مغادراً مكانك، والسبورة لم تزل معشوشبة بخربشة الصغار الذين جاشوا ولعاً بأهمية أن يكون القلب صفحة من صفحات التحديق في الكلمات.. إبراهيم سلطان تذهب، سيدي، ولكن لن يذهب صدى الكلمات... لن تذهب تلك الخطوات... لن تذهب المعاني في تجاويف المكان وأزقة معيريض، والمدرسة التي فاضت بالأحلام، كما فضت أنت بالحِلْم ونقاء السريرة... قم للعلم وفهِ التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©