الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زهو الثمانينيات في الإمارات

18 مارس 2014 10:49
دبي (الاتحاد) ـ كتاب شوقي رافع الصادر عن سلسلة «أعلام من الإمارات2» بعنوان «غانم غباش – نفرح ونغير العالم»، يمكن اعتباره بحق إشراقة وهاجة، تضيء على فترة تمتد ما بين منتصف السبعينيات ونهاية الثمانينيات الماضية، وهي فترة من أخصب وأجمل وأبهى ما في التاريخ الإماراتي الحديث، كما صورها الكتاب. لأنها تكشف عن الوجه الآخر لما يحلو للبعض أن يسميه (الدولة النفطية الصغيرة على الساحل الشرقي للخليج العربي)، وهو اسم يحيل ضمناً، إلى نظرة قاصرة لهذا المجتمع وثقافته. إلا أن شوقي رافع يتحدر من عَلٍ، بكتابه المتدفق بالصور الناطقة، والشهادات الحارقة لكل تزييف أو تسويفٍ يجور على وهج الأعلام اللامعة والحقيقة الساطعة في تلك المرحلة، فيزيح الغشاوة عن العيون، ويكشط الغبش عن الأذهان، ليتلألأ مجدداً ذلك الجانب الإنساني النضر في المجتمع الإماراتي، الذي كادت الحداثة الإسمنتية والثقافة الاستهلاكية تطمس معالمه، فيستعيد وجهه الثقافي برونقه الفتيّ، ونقائه الحر العفيّ، المتفاعل مع زمنه ومحيطه بزخم وحيوية إيجابية، لا تقل إدهاشاً عن مرحلة فورة الأحلام الرومانسية في الحواضر العربية العريقة خلال فترة الأربعينيات وحتى منتصف الستينيات الماضية. ويليق بتلك المرحلة الزاهية أن نسميها مرحلة النهضة الإماراتية الحقيقية بامتياز، بكل ما تعنيه هذه التسمية من معاني التنوير والإشعاع على جميع المستويات الثقافية عموماً. كونها مرحلة شَكَّلَ ملامحها كوكبة من المثقفين المستنيرين بأحسن ألوان المعرفة، وفي مقدمتها الإعلام الشفاف الكَشَّاف لكل السوءات الاجتماعية، وكل الحقائق المغيبة أو المطموسة بقصد أو من دون قصد. فالأعلام رافعة التنوير الأولى، عندما يكون بقيادة إعلاميين من طراز الرعيل العربي الأول، حملة مشاعل النور والحقيقة، فرسان الكلمة والقلم، من أمثال غانم غباش وصحبه الطيبين، الممسوسين بلوثة العِزّة والكرامة، الممهورين بضربة لازب العدالة والحقيقة، المرصودين للسيف والمواجهة، رجال لا يعرفون النكوص أو المهادنة، ولا يعرفون المناورة أو أي شكل من أشكال المداورة. نوّارة الزمن الكتاب يتألف من مائتين وستين صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن ستة فصول، ومقدمتين، الأولى هي قصيدة شعرية، تنطوي على قدر كبير من الشفافية والصدق والحزن النبيل، مُدَوزَنَةٌ على وتر الروح وإيقاع القلب وسخاء العاطفة، التي تجمع العشرة الطيبة بالصداقة الصدوقة، والإخوانيات في الأدب والفن والحياة، كتبها عارف الخاجة رثاءً لصديق عمره غانم غباش (أبو مروان) يقول فيها: أكبرت سعيك يا نوارة الزمن بين البروق وبين الشدو والشجن أكبرت أنك في الترحال مفتتح نار الحياة التي شبَّت من الكفن حسدتُكَ اليوم أني لم أجد رجلاً إلا ويبحث في عينيك عن سكن حسدتك اليوم أن الأرض دامية تبكي عليَّ لأن الدمع يغلبني يكفي فؤادي أبا مروان أن دمي يمس صوتك كي يلقى به وطني. تقصيرنا يفضحنا المقدمة الثانية طويلة وتتألف من نحو خمس وعشرين صفحة، كتبها سعيد حمدان من جيل الإعلاميين الثاني، الذي عاش بفيض جيل العطاء والكبرياء، جيل الرواد الكبار، الذين حملوا الصحافة المحلية، بولاداتها ومخاضاتها العسيرة، وطموحاتها الفوارة على أكتافهم، وشقوا دروبها إلى الإقليمية والعربية (وهناً على وهن). فكان حمدان وجيله من الشهود، على الإرث الإعلامي المرموق، الذي نهلوا من فيضه، حتى اكتمل عودهم، لذلك جاءت مقدمته، أشبه بشهادة نحلة جنت من زهرة، فطارت بالرحيق، وتباهت بما حملت، وتاهت عنها بزحمة الأفنان وتداعيات الزمان، فتباعدت الخطى، وطال الغياب، وعندما عادت للجنى مرة أخرى وجدت الزهرة قد ذبُلت وماتت، فكانت الحسرة المشفوعة بالملامة والعتب على الذات والآخرين. «تقصيرنا يفضحنا اليوم! اسألوا أبناء الحاضر طلاب الإمارات، الذين يدرسون الإعلام في الجامعات هنا، هل تعرفون غانم غباش؟ هل سمعتم به؟ (...) أخشى أن الإجابة سوف تفضحنا!». يستفز حمدان ذاكرته، وينقب في أرشيفه، فيجمع شهادات وحوارات ومواقف إنسانية جمعته مع غانم غباش، وآخرين ممن عايشوه في تجربته ومسيرته الإعلامية، وصاروا اليوم ملء السمع والبصر، فكانت الشهادات على تكثيفها وتنوع إضاءاتها، تتميز بالتفرد في التقاط المختلف الذي يدعو للدهشة والاستغراب، لأن شخصية الراحل متعددة في اهتماماتها الاجتماعية وإبداعاتها الفكرية والسياسية وخصالها الثقافية بالمعنى الإنساني الواسع. أما الكاتب الإعلامي شوقي رافع فيُحيك كتابه بمقاربات متعددة الوجوه، تليق بغنى شخصية غانم غباش، التي تجمع السمات الإصلاحية حيناً، والملامح الثورية أحياناً، والنزعة الرومانسية الحالمة بأفق إنساني وأخلاقي جديد معظم الأحيان. فيطرز حكايات غباش الواقعية، سواء مع مجلة «الأزمنة»، أو مسرح الحياة بصخبها، ونجوم زمنها من أمثال: ناجي العلي ومحمد الماغوط و مارسيل خليفة وآخرين، من رفاق دربه في الحراك الإعلامي التنويري، وهم كثر، ويطول الكلام عن دورهم، الذي استلهموا ملامحه وأفكاره من وحي شخصية غباش. التسامي والتعالي الحكايات السيرية الغباشية، التي قدمها رافع، تجمع عمارة اللغة الأنيقة، مع غواية السرد الرشيقة، فتصور غباش في حالة من التسامي الإنساني النبيل، المتعالي على الجروح الذاتية، والعسف والقباحات، فيحيلها إلى من حوله أفراحاً ومسرات، أو أحلاماً وطموحات تغني الوجود بالجمال والآمال. فمن أين كان يأتي غانم غباش بكل هذه الطاقة وهذا الصبر والاحتمال، ليكون الركن الموثوق، أو الملاذ الآمن للناس عموماً وقرائه خصوصاً، الذين قَرّ بوعيهم ووجدانهم أنه حصنهم، بل درعهم أينما كانوا، وأن مجلة «الأزمنة»، التي أصدرها سراً وعلانية، على مدى عشر سنين في الداخل والخارج، هي صوتهم، بل ضميرهم وجوهر حقيقتهم. هذا فضلاً عن سحره «الفرايحي» الطاغي على الزملاء والأهل والأصحاب، فيحيل إحباطاتهم وخيباتهم إلى يقين لا يفتر أو يلين، بأن الآتي أجمل ويستحق التضحية من أجله براحة البال والراتب والمدخرات، وربما أكثر من ذلك. وفي الوقت عينه من أين له القدرة الجسدية والمادية والمعنوية كي ينهض بمؤسسة إعلامية، من وزن مجلة «الأزمنة»، التي خَضّت ليس الإمارات فحسب وإنما الخليج والعالم العربي برمته على مدى عقد من الزمان، وهو قعيد كرسي متحرك؟. «الفرح مهنتي ونص» ربما يكمن جزء مهم من الإجابة على التساؤل المتعلق بسرّ الطاقة والأمل المتفجرين أبداً من شخصية غباش، في معادلة إشراقية لا يحوزها، إلا من تجاوز ذاته إلى ما هو أسمى وأرقى من الماديات، فتفيض روحه على الدوام بالفرح والصفاء. وهذا ما يؤشر عليه السؤال والإجابة التي فاض بها غباش على الشاعر الراحل الكبير محمد الماغوط، حسب حكاية شوقي رافع (ص40)، حيث يقول غباش للماغوط: أحب قصائدك، ولكني لا أطيق، العنوان الذي اخترته لأحد دواوينك، وهو «الفرح ليس مهنتي». وقبل أن يجيب الماغوط يضيف غباش: «يا أخي الفرح مهنتي ونص، ليس لأن العالم صار خالياً من الآلام والمعذبين، بل لأن ذرة واحدة من المحبة، وهي موجودة في كل واحد فينا.. قادرة أن تطلق ينابيع من الفرح، والفرح هو عنوان التغيير، فتعال نفرح ونغّير العالم». من دون شك أن الكاتب شوقي رافع، هو صديق ورفيق غانم غباش في المشاكسة والأحلام والأفكار، والمعارك في ساحات الكلام والإعلام، على مدى خمسة عشر عاماً، هي الأعوام الأخيرة من حياة غباش، لذلك تجده عندما يكتب تجربته ومشاهداته العديدة والفريدة مع الراحل، يهجم على الكتابة، بفرح طفولي مباغت، وكأنه يتعرف على الحكي أو الكلام لأول مرة. فيأتي السرد من طينة مشتعلة، مجبول بعشق إنساني مختلف، يتميز بالحرارة والدفء الحميمي، الذي يمس شغاف القلب بدفقاته الجياشة، المغسولة بالعفوية والانسيابية السلسة، التي تمتح صدقها وجذلها من طبيعةٍ إنسانيةٍ مرهفةٍ وشفافةٍ إلى أبعد حدود الرومانسية، كما هو حال شخصية غباش. هذا فضلا عن محاكاتها العقلية اللمَّاحة، ما يجعل المتلقي يلهث في إثر الوقائع والأحداث أو الحكايات المفعمة بالتشويق والإثارة ـ بالمعنى الثقافي الراقي ـ لعله يُلَملِم أطراف صورة غير محددة بسمة ما، بل مُتمددة ومتعددة، بأبعادها المعرفية والإنسانية الجذابة بكل المقاييس، وعلى كل المستويات. «دينمو» تنوير وتحرير غانم غباش لم يكن خلال مسيرته الإعلامية والفكرية، مجرد صحفي عادي يدير مؤسسة إعلامية، وإنما كان أديبا بقلبه مؤسسة إعلامية فحولها إلى «دينمو»، للتنوير وتحرير العقول من الخوف والتخلف والجمود. وهو بذلك لا يقل إشراقاً عن عمالقة الصحافة العربية في زمنها الزاهي، من أمثال الأخوين علي ومصطفى أمين في «الجمهورية»، أو سليم تقلا في «الأهرام»، أو مي زيادة في «روز اليوسف»، وغيرهم. لقد كان غانم غباش حالة تنويرية لا تعرف السكون أو الكمون، حالة متفجرة فرحاً وحلماً، فجال وصال مع نخبة تكوكبت حوله، على صهوة الكلمة الحرة، كما يليق بالفرسان النبلاء، وغادر المسرح دونهم بتواضع الكبار، المجبول بأنفة الأقوياء، فكان جبينه بالفطرة العفوية، وبغفلة منه، ومن الدنيا بحالها، مطرزاً بأكاليل من الإباء والكبرياء وبعض الطُمأنينة والسكينة، والقليل.. القليل من الخيلاء. الكتاب يستحق القراءة، ويستحق الاهتمام والتقدير، والتعريف به على الدوام، لكي تتطلع الأجيال الجديدة من الإماراتيين والعرب عموماً، إلى مرحلة غنية وثرية بتجربتها الإنسانية، في «الدولة النفطية الخليجية»، كانت مهمشة، وصارت شبه مغيبة حالياً. إن قراءة «غانم غباش ـ نفرح ونغير العالم» ضرورة تتجاوز التاريخ أو الماضي، إلى حاجات الحاضر الملحة، لأن الكتاب يسلط الضوء ليس على قامات إعلامية فحسب، وإنما يضيء على مجمل القضايا التي تشغل الوعي الإماراتي في اللحظة الراهنة، ويقدم لها حلولاً إبداعية خلاقة، لا مناص من تفعيلها، في الطريق إلى المستقبل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©