الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لوحة ضد الاكتئاب

لوحة ضد الاكتئاب
4 مارس 2015 21:20
هذه صورة صادمة حقاً.. بالنسبة لك، أنت إنسان القرن الواحد والعشرين، الذي تعيش متنقلاً بين أعوام وأيام تقطر سماً ودماً.. وتنام بعيون مفتوحة خوفاً من كوابيس تلاحقك حتى في أحلام اليقظة، وتعصف بمخيلتك لتستحضر الأفظع دوماً.. سيصدمك – دون شك – رؤية أزهار متفتحة باللون الوردي، غيوم ملونة بتدرجات الفرح، وطبيعة ساحرة، جاذبة، تمتد على مساحة واسعة أمامك.. لكن من حسن الحظ أن الجمال (يَعْدي) بالمعنى الإيجابي للكلمة، ولهذا سرعان ما يسرقك المشهد من فضائك وتمضي معه طائعاً، وراكضاً نحو أفق بعيد بكل ما للكلمة من معنى. وبينما لا يزال بصرك منتشياً بهذا الفرح كله، تتلفت يميناً وشمالاً، تبحث عن أحد ليقول لك شيئاً ما، أو ليجيبك عن سؤال أو أكثر: من رسم هذه اللوحة؟ ما اسمها؟ هي لوحة «وصول سفينة الزهور» للفنان الروسي المعاصر فلاديمير كوش، والتي استوحى فكرتها من حادثة تاريخية قديمة تروي قصة سفر السفينة البريطانية «باونتي» إلى «تاهيتي» في مطلع القرن التاسع عشر بغرض الحصول على أشجار كانت تستخدم ثمارها كغذاء للعبيد، إلا أن التمرد الذي انتشر بين أفراد الطاقم على قائدهم، حوّلها إلى موكب للنصر بطريقة أو بأخرى، حيث أشعلت هذه الجزيرة على البحر الكاريبي، وبسحرها اللامتناهي، روحاً جديدة في داخلهم. في اللوحة، تلتحم عناصر الطبيعة وسط منظر أقل ما يقال عنه بأنه مدهش. سماء، بحر، جبال، ضفة يابسة، ورود وتفاصيل غيرها كثيرة. كذلك تجتاح الألوان الساعية وراء الأمل كامل المنظر، مظهرةً الأخضر، الوردي، الأبيض، الأزرق وما بينها من تدرجات توسع الرؤية وتطيل الأفق، وسط تناغمات وتوليفات آخذة بالامتداد إلى ما هو خارج الإطار ذي الشكل المستطيل المحدد للوحة. تتجاهل، ولو قليلاً، الأشخاص الواقفين على الضفة - على الرغم من جمالية تشكيلاتهم - وتمعن في جمالية السفينة وحدها وما يحيط بها من تضاريس مبهرة. مأخوذاً بطقس يمزج بين أطياف مختلفة من المشاعر ذات الصدى الإيجابي الذي يترك أثراً رومانسياً، يزورك فجأة بعد غياب سنوات. وبتدقيق بسيط في توضعاتهم وحركاتهم، ودون حاجة الرجوع إلى أصول الحادثة قديماً، تلمح انتظاراً وترقباً بمنتهى اللهفة والشغف، إنهم ينتظرون السفينة وكأنها الفرج حتى تكاد تراهم يبحرون على أوراق الزهور لاستقبالها، مثلما فعلت أنت باللاشعور. الغريب، أنك وعند النظر إلى الصورة أمامك، تفتح عينيك على وسعهما، وتلغي في ذاكرتك الحاضرة أي مشهد خارج هذا الإطار. وتنسى تفاصيل كثيرة تتعلق بالأسى، بالحزن، بمشاعر أخرى تؤلمك. المهم فقط في دقائقك الراهنة أن تعيش الحب وتقرأه، وتتخذ من الأمل روحاً تحل مكان تلك المتعبة والمتآكلة في داخلك. للحظة واحدة، أو لعدة لحظات تليها، تشعر وكأن شخصاً ما مجهول الهوية، أخذك وألقى بك في عالم من الأحلام الحلوة والجميلة. في عالمٍ لا مكان فيه إلا للحب، للفرح، للسعادة، هذه المفردات والمفاهيم التي صارت منفية من عالمنا الواقعي وذلك الافتراضي الذي نعيشه منساقين ومرغمين، باحثين فيه بالصوت والكلمة والصورة عن أخبار القتل، النحر، القصف ومؤخراً عن أخبار الحرق. لكن، هل أصبحت صور الحب بكل أشكاله وأنواعه صادمة إلى هذه الدرجة؟ هل فقدنا القدرة على الفرح حتى تحولنا إلى مجرد كائنات مشوهة تخاف من روعة اللون الوردي ومن نقاء وصفاء الأبيض؟ ربما نعم، وربما لا.. فلا وجود لجواب مطلق يروي ظمأ تلك الأسئلة المتخبطة في أدمغتنا، تماماً مثلما نحن فاقدون الآن وهنا، لشعور واضح يمكننا وصفه بكلمة أو اثنتين. قد يصلح أن تتحول لوحة «وصول سفينة الزهور» إلى أيقونة مضادة للاكتئاب وداعية للفرح والتفاؤل. ليس فقط بألوانها المشعة فرحاً، إنما أيضاً، بتشكيلاتها المنافية لأي شيء غير إنساني، وبعناصرها الموظفة لصالح الحياة، لأجل أن تحيا أنت ونحيا نحن، بأمل، ولكي نستطيع أن تناول الحب كوجبة رئيسية بديلة عن وجباتنا المعاصرة. وأن نضمّن معانيه في تفاصيل عيشنا اليومي بكافة أنواعها وأنماطها، فمن يزرع الورد سيحصده حتماً ولو بعد حين. ونعود إلى سفينتنا، سفينة الزهور، ننتقل من زهرة لأخرى، نستنشقها إلى الأقصى ونخزن في ذاكرتنا رائحة الحياة لأيام قادمة نجهل ما فيها. ثم ننحني قليلاً ونلامس بأيدينا صفحة الماء، وتنقلب موجاتها في خجل يداعب أصابعنا وينعشها. بعدها نعود ونتسلق الأغصان الخضراء في علو نحو السماء، نصل، نبحر بين الغيوم حتى نكاد نقطف بعضاً من أجزائها، في مشهد مقتطع من الحلم، فتوقظنا صيحات الأشخاص على الضفة، تحيّي و (تهنّي). ثمة موسيقى ترافق هذا السيناريو انطلاقاً من ثانيته الأولى، تسمعها بأذنيك محملةً بروعة الكاريبي كله، وبأمطار تاهيتي الضاربة على مسامات جلدك الراغبة بالتفتح بعد سنوات من الانغلاق والانكماش. فتعتق روحك من مكامنها وتطلقها نحو فضاءات من حب، ومن شغف. وأما أصوات الطبول، طبول النصر التي تصب في أذنيك بكل عنفوان، فلا بد وأنها جعلت قلبك يرقص وينتفض من مكانه، وكم أنت بحاجة لذلك، في زمن لم يعد فيه للنصر من مكان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©