الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المحبَّة.. تشربُني حين أشربُها*

المحبَّة.. تشربُني حين أشربُها*
9 مارس 2015 17:41
في كتابه «دمعة وابتسامة»، يقول جبران: «أنت أخي، وأنا أحبّك، أحبّك ساجدًا في جامعك، وراكعًا في هيكلك، ومصليًا في كنيستك، فأنت وأنا دين واحد هو الروح. وزعماء فروع هذا الدِّين أصابع ملتصقة في يد الألوهية المشيرة إلى كمال النفس». هكذا ظل جبران، في جميع كتاباته وحياته المضطربة والمغتربة، وبصوته الرسولي القلق والمتمرِّد والمجدِّد والمحب والنافر في البرِّية، ينحت في صخر اللغات ويتهجى الشوارد النورانيّة، ليؤسس شريعة كونية وخاصة بالحبّ والمحبَّة. هذه الشريعة التي نشهد اليوم، مقتلها وتفتتها وسقوطها الفاجع على مذبح غلاة الأحقاد والتعصب والجرائم والكراهية. لقد اغتال هؤلاء الأوغاد المحبَّة، كما اغتالوا روح الأديان وألطافها، ولم يتركوا لنا سوى الجفاف والبؤس والتمرغ في أوحال الدَّم ومشاهدة مذابحهم ومحارقهم البشعة. لهذا كله، وعلى الضدّ من هذه الجحائم المفتوحة ضدّنا، علينا أن نمجد المحبَّة، وأن نعدِّل من قوانيننا وشرائعنا وتعليمنا وثقافاتنا كي تسود شمس المحبّة. لأن المحبَّة قيام ومقاومة وقيامة بيضاء، لا تستقيم الحياة بدونها ولا يكون للإنسان من وجود ومن معنى بغيابها. فما أحوجنا اليوم لجبران، ولجميع رسل الحبّ والمحبّة. لم يَعُد لي غيرُ نَظْرَة حُبٍّ واحدة ألقيها على ما كان، ثم أنتظم في صفوفكم ملاّحًا بين ملاّحين. *** هكذا الحبُّ أبدًا لا يعرفُ ما له من غَوْر إلا ساعة الفِراق. *** إذا أوْمَأ الحبُّ إليكم فاتبعوه، وإن كان وَعِرَ المسالك، زَلِقَ المُنْحَدَر. وإذا بَسَطَ عليكم جناحيه فأسلموا له القِياد، وإن جرحكم سيفُه المستور بين قَوادِمه. وإذا حَدَّثكم فصَدِّقوه، وإن كان لصوته أن يَعْصِفَ بأحلامكم كما تعصفُ ريح الشَّمال بالبُسْتان. *** إن الحبَّ إذْ يُكلِّل هاماتكم، فكذلك يشدُّكم على الصَّليب. وهو كما يشدُّ من عودكم، كذلك يُشَذِّبُ منكم الأغصان. وكما يَرتقي إلى قُنن هاماتكم ويداعب أغصانكم الغَضَّة تَميسُ في ضوء الشمس، كذلك يهبط إلى جذوركم العالِقَة بالأرض فيهزُّها هزّا. *** ويضمُّكم إلى أحضانه كما يضمُّ حُزْمَة قمح، فَيدْرُسُكم لكي يُعَرِّيكُم، ثم يُغَرْبِلُكم فيخلِّصكم من القشور، ثم يطحنكم فيحيلكم دقيقًا أبيضَ، ثم يَعْجنكم ليَسْلسَ قيادكُم، ثم يُسْلمكم إلى نار هَيْكَله المقدّسة، علَّ أن تصيروا الخبزَ المقدَّس لمائدة الرَّبِّ المقدَّسة. *** كل هذا يفعله الحبُّ بكُم كي تعرفوا أسرار قلوبكم، وبهذه المعرفة تصبحون فِلْذَةً من قلب الوجود. أمَّا إذا دَبَّ فيكم الخوفُ فلم تَنْشُدوا في الحبِّ إلا الدَّعَة والمتعة. فأوْلى بكم أن تستروا عُرْيكم، وتغادروا بَيْدَر المحبَّة إلى عالم لا تَتَعاقَبُ فيه فصول، حيث تضحكون ولكن دون استغراق، وتبكون ولا تَنْهَمِرُ كلُّ الدُّموع. *** فالحبُّ لا يُعطي إلا ذاته، ولا يأخذ إلاّ من ذاته. والحبُّ لا يَمْلِك، ولا يَمْلِكه أحد، فالحبُّ حسبُه أنه الحبُّ. *** إذا أحببت، فلا تقلْ: «لقد وسَعَ قلبي الله». بل قلْ: «وَسعَني قلبُ الله». ولا تَظُنَّن أنك قادر على توجيه مَسْرى الحبِّ، فإنما الحبُّ يَقودك إن وجدك خليقًا به. *** الحبُّ لا يَنْشُدُ إلا تحقيق ذاته. *** وحين تمضون في العمل تُمارِسون في الحقِّ حبَّ الحياة، وحبُّ الحياة عن طريق العمل يَتَوَغَّل بكم إلى أعمق أسرار الحياة. *** ولَعَمري إن الحياة ظلامٌ إلاّ إذا صاحبها الحافز، وكل حافز ضرير إلاّ إذا اقترن بالمعرفة، وكل معرفة هَباء، إلاّ إذا رافقها العمل، وكل عمل خَواء، إلاّ إذا امتزج بالحبِّ، فإذا امتزج عملُك بالحب فقد وصلتَ نفسَك بنفسِك، وبالناس وبالله. *** وما يكون العمل الممزوج بالحبِّ؟ هو أن تَنْسجَ الثَّوب بخيوط مَسْلولةٍ من قلبك، كما لو كان هذا الثوب سيرتديه مَنْ تُحِبُّ. هو أن تبني دارًا والمحبَّةُ رائدك، كما لو كانت هذه الدّار ستَضمُّ مَنْ تُحِبُّ. هو أن تنثرَ البذورَ في حنان، وتجمعَ حَصادَك مبتهجًا، كما لو كانت الثِّمارُ سيأكلها مَنْ تُحِبُّ. *** إنما العظيم مَنْ يَردُّ صوتَ الرّياح أغنية، يَزِيدُها حبُّه عُذوبة. *** العمل حبٌّ تَجسَّمَ للعيون. *** فإذا كنت تعمل كارهًا وحَليفُك النُّفورُ لا الحبُّ، فخَيرٌ لك أن تهجُرَ العمل، فتقعدَ على باب المعبد تتلقّى الصَّدقات ممّن يعملون مبتهجين، لأنك إذا خبزت العيش سادرًا فأنت إذن تهيِّئ خبزًا مرا، لا يَسندُّ من جوع الإنسان إلاّ بعضه. وإذا شَدَوْتَ – ولو شَدْو الملائكة – دون أن تحبَّ ما تَشْدو، فأنت إذن تصدُّ صوت النهار وصوت الليل عن آذان البشر، بما تصبُّه فيها من وَقْرٍ. *** إن الحبّ الذي لا يَنْشُد إلاّ الكشف عن أسراره ليس حبا، وإنما هو شبكةٌ تُطرحُ، فلا تَلْقُطُ إلا الغَثَّ الذي لا نَفْعَ فيه. *** فأيّكم لا يُحِسُّ أن قدرته على الحبِّ لا تَعرفُ الحدود؟ ولكن أيكم لا يشعر أن هذا الحبَّ نفسه، وإنْ أفلَتَ من الحدود، مَضْموم في صدر وجوده، لا يَخرجُ من فِكرة حبٍّ إلى أخرى، ولا من مَسْعَى حبٍّ إلى آخر؟ أليس الزمن كالحبِّ، لا ينقسم ولا يُقاس؟ *** الزَّهرةُ في عيْن النَّحلة ينبوع حياة والنَّحلةُ في عيْن الزَّهرة رسولُ حُبّ. والنَّحلةُ والزَّهرة يجدان في الأخذ والعطاء حاجةً ونَشْوَةً. *** يا أهل أورفاليس، كونوا في مُتْعَتِكم كالزَّهر والنَّحل. *** إن الحياة التي تَحياها كل يوم، هي مَعْبَدُك وهي دينُك، فاحرِص كلَّما وَلَجْتها أن تأخذ معك كل زادِك: خُذِ المِحْراث والكورَ والمِطْرقة والرَّبابَ، والأشياء التي هيَّأتها لتسدَّ حاجتك أو لتُرفِّه عنك. *** إن شئتم حقّا أن ترفعوا الحجابَ عن كُنْه الموت، فافتحوا قلوبكم على مَصاريعها لكيان الحياة، لأن الحياة والموت واحد، كما أن النَّهر والبحر واحد. *** ثقوا بالأحلام، إن في أطوائها بابَ الخلود. *** إن حاجات الإنسان تتغيَّرُ ولا يتغيّرُ حُبُّه، كذلك لا تتغيَّر رغْبتُه في أن يَسُدَّ هذا الحبُّ حاجاتِه. *** وهأنذا قد وجدتُ ما هو أعلى شأنًا من الحكمة: إنها جَذْوةُ الرّوح فيكم تتزوَّد دائمًا من ذاتها وأنتم في غَفْلَة من انتشارها تندبون أيامًا لكم ذَوَتْ. إنها لحياةٌ تَسْتَجدي حياة أجسادٍ تخافُ القبورَ. وليس هُنا من قبور. * هذه المختارات من كتاب» النبي»، لجبران خليل جبران، ترجمة: ثروت عكاشة، دار الشروق، 2000. في كتابه «دمعة وابتسامة»، يقول جبران: «أنت أخي، وأنا أحبّك، أحبّك ساجدًا في جامعك، وراكعًا في هيكلك، ومصليًا في كنيستك، فأنت وأنا دين واحد هو الروح. وزعماء فروع هذا الدِّين أصابع ملتصقة في يد الألوهية المشيرة إلى كمال النفس». هكذا ظل جبران، في جميع كتاباته وحياته المضطربة والمغتربة، وبصوته الرسولي القلق والمتمرِّد والمجدِّد والمحب والنافر في البرِّية، ينحت في صخر اللغات ويتهجى الشوارد النورانيّة، ليؤسس شريعة كونية وخاصة بالحبّ والمحبَّة. هذه الشريعة التي نشهد اليوم، مقتلها وتفتتها وسقوطها الفاجع على مذبح غلاة الأحقاد والتعصب والجرائم والكراهية. لقد اغتال هؤلاء الأوغاد المحبَّة، كما اغتالوا روح الأديان وألطافها، ولم يتركوا لنا سوى الجفاف والبؤس والتمرغ في أوحال الدَّم ومشاهدة مذابحهم ومحارقهم البشعة. لهذا كله، وعلى الضدّ من هذه الجحائم المفتوحة ضدّنا، علينا أن نمجد المحبَّة، وأن نعدِّل من قوانيننا وشرائعنا وتعليمنا وثقافاتنا كي تسود شمس المحبّة. لأن المحبَّة قيام ومقاومة وقيامة بيضاء، لا تستقيم الحياة بدونها ولا يكون للإنسان من وجود ومن معنى بغيابها. فما أحوجنا اليوم لجبران، ولجميع رسل الحبّ والمحبّة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©