السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سعد جمعة في مجموعته الشعرية سراط نقي·· قربك

22 مايو 2008 02:49
البنية شكل لعلاقات عناصر مختلفة تجمعها خصائص تتمركز حول التركيب والدلالة، ومن تحديدات البنية أن هذه العناصر محكومة بوسط حاضن يؤثر ويتأثر بها· مثال ذلك أن تشكل مجموعة من العناصر لا يكفي لكي تتكون البنية إلا بتسيد عنصر من المجموعة في حقبة ما، أو عمل ما، ثم لا يلبث هذا العنصر أن يضمر ويتضاءل ليتسيد آخر بفعل الوسط الحاضن لتتولد بنية جديدة مغايرة·· هذه الأدوار المتبادلة بين مؤثر ومتأثر، هي التي تخلق فاعلية الأثر من جهة وجماليته من جهة ثانية· العلاقة بين البنية والعناصر ليست اكتشافاً جديداً، بل من الجديد أن نعود إليه كي نستخدمه في قراءة نصوص شعرية نجد فيها تغيرات في ظواهرها بما لا يقبل الشك أيضاً أنها نتاج لتغيرات في بواطنها· في مجموعة سعد جمعة الشعرية ''سراط نقي·· قربك'' الصادرة عن مشروع (قلم) الذي أطلقته هيئة أبوظبي للثقافة والتراث نجد 3 تقسيمات للديوان معنونة بـ ''أنفاس أولى'' وتضم 19 قصيدة و''في القرب'' وتضم 16 قصيدة وفي البعد'' وتضم 26 قصيدة·· ولعدد القصائد هنا أثر أو دلالة إيحائية تدخل في صلب جوهر التقسيم الثلاثي للديوان نفسه· واستكمالاً لقراءتي للديوان فإنني يمكن أن أضع توصيفاً للأقسام الثلاثة تلك وفق تداخل عناصر كل قسم حتى تشكل بنيتها الخاصة بها، ولذا أقترح ثلاث تسميات لها وهي: أولاً البنية السردية لـ ''أنفاس أولى'' وثانياً البنية التكثيفية لـ ''في القرب'' وثالثاً البنية الخطابية لـ ''في البعد''· ولم تأت هذه البنى وتسمياتها اعتباطاً، بل افترضناها مطابقة مع سياقها الموصوف بالذات والمسافة مع الذات· الذات في ''أنفاس أولى'' ملتصقة بهواجس الشاعر الذي يطغى على مكوناته الدلالية في القسم الأول حيث نجد نظاماً سردياً لا يلبث أن يتحول الى الآخر القريب ضمن انثيالات لغوية قصيرة، إشارات إيحائية وتصويرية مكثفة أسماها الشاعر ـ لا شعورياً ـ ''في القرب''، غير أن هذا القرب ما لبث أن تحول الى مسافات طويلة ضمن وضع نفسي حتى أصبح نظاماً خطابياً ''في البعد''· البعد المكاني يطغى على عنوان المجموعة ''سراط نقي·· قربك''· ثم يتحول مهيمناً على مفاصل المجموعة الشعرية التي تكون المتن الشعري أنفاس، قرب، بعد· وهذه جميعاً لم تأت قصدياً بل هي نتاج لا شعوري استدعى استخدام العناصر المكانية وإلغاء عناصر الزمان· أما أعداد القصائد في هذه الأقسام الثلاثة فنقرأ منها أن أنفاس أولى حفل بعدد واصف لذات الشاعر ونظرته للآخر 19 قصيدة سردية ثم تقلص النظام السردي ليصل الى 16 قصيدة ''في القرب'' مع تقلص حجم القصائد ثم تحول ''في البعد'' الى أكبر عدد من القصائد 26 قصيدة في النظام الخطابي الذي يعني ''فقدان الآخر'' مما استدعى النظام الخطابي أسلوبياً· البنية السردية في قصيدة ''كان وحيداً'' نقرأ: كان وحيداً·· لا تلمه الأشواق يمارس حياته باليومي يصطدم بالحسرات يسير مع الثانية، الدقيقة، الساعة، النهار، الليل اليوم كله وفي الصباح التالي يكر اليوم من جديد نلحظ البعد السردي، والتوصيف المشبع بأفعال مضارعة ترتبط كلها بالفعل الماضي ''كان''·· وهو مقطع واصف يقدم فيه الشاعر حالة ما·· إلا أن هذا المقطع ما لبث أن تحول فجأة الى: اقتربتِ منه كثيراً تفتشين عن غيابه·· وتعلنين لهفتك عليه فمن الغياب المبدوء في ''كان'' عند المقطع لأول مستهل القصيدة، صار الحضور بديلاً في ''اقتربتِ''· وكأن الفراغ يقابل الامتلاء، ليبدأ النظام السردي يأخذ شكله من هذين العنصرين اللذين تسيدا في معظم قصائد القسم الأول من المجموعة الشعرية· أي أن الأنفاس الأولى حكاية طويلة ذات إطار نفسي حاول الشاعر أن يقدمها توصيفاً ثم سرداً· كذلك في قصيدته الطويلة ''أخرج من النار··لا إنني أغتسل بها'': الظلام يحدق في أصابعك المتوترة مع القلم ومن دونه إنك تذهب ولا ترى من الماضي شيئاً الماضي الذي لطخك بالأسى·· وها أنت تعود تسمع الكلمات ذاتها، وتعتقد أنها لك نجد وصفاً استهلالياً لا يلبث أن يتحول الى نمط سردي يطول ويطول كأنه يروي حكاية تقود الشاعر الى مخاطبة الآخر حتى تصل به الحالة الى أن يستخدم كلمة ''تذكر'' أكثر من 7 مرات في نهاية القصيدة بما يعني أن ثمة حكاية بعد أن تم سردها شعرياً استدعت السارد لأن يخاطب الآخر ليحثه على تذكرها: تذكر أيها المجنون هذا تذكر نار طفولتك وهي تقرب الموت منك تذكر كيف دفعت في أقصى حالات وجدك بحياته ولم يأت ''التكرار'' هنا إلا لدواعي استعادة النص المسرود وكأن ثمة خطاباً ضمنياً بين القائل والآخر تتحكم به شفرات أراد القائل أن يذكره بأحداث لم يقلها· إذاً لنقل إن فعل ''تذكر'' المكرر جاء توظيفاً للمخفي من النص·· ضمن إطار سردي· كذلك في قصائد ''كلامهم'' و''ليس لي'' و''نحو النور'' ترى بناءً سردياً أساسه ''حدث وزمن'' قد يبتدئ بتوصيف ''حدث فقط'' إلا أنه لا يبقى على حالته الحدثية فينهض فجأة زمن يتعانق مع ذلك الحدث ليشكل بنية سردية أهم مميزاتها في قصائد ''أنفاس أولى'' أنها طويلة، بانثيالات نفسية، وجدانية، يغلب عليها البعد الكنائي بما يقربها من النثر شكلاً والبعد الاستعاري بما يجعلها نظاماً شعرياً· البنية التكثيفية في القسم الثاني ''في القرب'' ثمة مسافة قصيرة بين الأنا والآخر استدعت نظاماً اختزالياً في القصيدة بما يمكن أن نسميها بقصائد ''الهايكو''· ولنأخذ ''حكاية في قدميك'' التي تقودنا حتماً الى مسمى ديوان سعد جمعة الأول ''الراقص'': سوف أحدق جيداً في هاتين القدمين حين ستدفعينهما الى الرقص الهائج· ومن الغرابة حقاً أن سعد جمعة نفسه هو الذي يقرر قرب المسافة بين الأنا والآخر حيث يقول في نفس القصيدة: واسكب قطرة من دمي على المسافة التي بيننا· تمتاز قصائد هذا القسم بقصرها بسبب قصر المسافة كما في ''موتك'' و''الورقة البيضاء'' و''غادرت'' و''الجرة'' و''تقترب'' وأغلبها ذات بعد مكاني بحت·· ففي قصيدة ''قولي'' نجده يقول: قولي أحبك ولسوف أكتب لك قصيدة جديدة فيها روحي وقلبي قولي أكرهك ولسوف أكتب لك قصيدة جديدة فيها روحي وقلبي ولا أجد المتغير هنا سوى ''أحبك'' و''أكرهك'' أما العناصر الأخرى فهي ثابتة·· حتى يصل التكثيف الى درجة الاعتماد على ثنائية الحب/ الكره· وهذا قريب من النص التراثي ''القلب واللسان أجمل شيئين في الجسد عندما يعشقان، والقلب واللسان أقبح شيئين في الجسد عندما يكرهان''· البنية الخطابية في قصيدة ''ألم تشف بعد'' نرى الخطابية واضحة في النص والاستفهامية من الآخر في قصيدة ''هل تلعب الريح'' والأمرية في الخطاب في قصيدة ''يصطدم بالقفر'' و''اذهبي أبعد مما تتصورين'' واستخدام الضمائر المنفصلة في ''توجع علك تنجو''، والأمرية ثانية في قصيدة ''أجمعي الكلام''· ومن الغرابة أيضاً أن نجد في ختام 26 قصيدة في القسم الثالث ''في البعد'' قد تحول الشاعر الى التكثيف وبخاصة في قصيدة ''إلى أين'' و''اعتناء''، و''السحر'' وربما نقرأها لا بوصفها تحولاً نحو نمط التكثيف بمعناها الذي وصفنا به القسم الثاني ''في القرب'' وإنما بمعنى اضمحلال وتلاشي الآخر في ذات الأنا الشاعرة التي لا تستدعي سوى اختزال الكلام·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©