الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجال من ذاك الزمان اكتشفوا المستقبل

رجال من ذاك الزمان اكتشفوا المستقبل
21 ابريل 2010 20:26
“لا تصدقوا من يقول لكم إن الماضي كان بشعاً، عذاباً صرفاً، فلكل أيام حلاوتها، وإن كان الخير هذه الأيام وفيراً، فإن لأيام الماضي خيرها وكل وقت له مميزاته، أهل البحر عندهم اللؤلؤ، وعندهم سمك وأهل تجارة وأهل سفر، وأهل الحضر، منهم من عنده نخيل يبيع التمر ويزرع الأرض وحياته حلوة ومرتاح فيها”. بتلك الكلمات يلخص الشيخ سالم بن حم حياة أهل الإمارات قبل الاتحاد واكتشاف النفط، فيصفها بالهدوء والعذوبة والفطرية الأخاذة حتى يصل بوصف الواقع متنقلاً بين أهل البحر وأهل الزراعة إلى أهل الصحراء التي يقول فيهم: “وأهل البادية عندهم الجمال، وعندهم الغنم، ويبيعون من الجمال والغنم، مرتاحين، إذا جاءهم الضيف اللي عنده غنم ذبح الغنم أو ذبح ولد ناقة، ويتاجرون بالركان ويشترون التمر والكساء”. ويعبر سالم بن حم ملخصاً كل ذلك بالقول “يعني حياتنا السابقة كانت حلوة، والكلام اللي نسمعه يقول إن أهل أبوظبي كانت شاه تغذيهم كلام ما له معنى، واللي يقول الماضي كله شين “موبصحيح” كل زمان له ميزاته”. ذلك هو الشيخ سالم بن حم عندما يتعامل مع الحقيقة الاجتماعية بمنظار من عايشها وخرج من رحمها وتوضأ بربوعها، وخبر كل مفاصلها وخباياها. الحقيقة التي تقول إن الحياة بفطرتها آنذاك كانت أكثر حميمية، وبهاء وصافية كصفاء يوم صباحي يشرق على أبوظبي في الأيام الخوالي حيث يذهب الناس ليتأملوا البحر، عسى أن يجدوا فيه مبتغاهم الذي يوعدهم كل يوم أن يمنحهم إياه. ذلك ما جاء في كتاب “سالم بن حم.. ذاكرة تاريخ وتجربة حياة” لمؤلفه الدكتور علاء نورس وبتقديم سمو الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان ممثل الحاكم في المنطقة الشرقية. سيرة في الشعر سالم بن حمد وفي منطقة الصفا جنوبي الوجن في المنطقة الشرقية لإمارة أبوظبي ولد عام 1925، وهو ابن مسلم حم العامري الذي كانت لمواقفه دورها الكبير في استتباب الأمن والاستقرار في العين وأبوظبي خلال العقود الأولى من القرن الماضي، كما كانت علاقاته متميزة وقوية بشيوخ آل نهيان حتى وفاته عام 1927. عرف عن محمد بن حم، وهو عم الشيخ سالم بن حم شاعريته المشهودة، ومن الذين كانت لهم رفقة بالمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمه الله)، وقصائده تشكل ديواناً يؤرخ حقبة من تاريخ الإمارات حيث توفي عام 1940، وهو الذي يقول في الشيخ زايد الذي لم يتجاوز آنذاك الخامسة عشرة من عمره حيث تبدو عليه الزعامة المبكرة: هزري على زايد يشابه جده رغيب لي سد العرب ماسده يسلم زبينه والطليب يرده ولي معّاصي يبشره بالشده وزايد عليهم بالكرم والمده ويقصد بمشابهة الشيخ زايد لجده زايد بن خليفة (رحمهما الله). مدرسة الحياة تيتم سالم بن حم منذ طفولته بوفاة والده وهو لم يزل طفلاً، غير أن والدته أحسنت تربيته ونشأته فغرست فيه مفاهيم الصبر والجلد والقدرة على تحمل الصعاب وقسوة الحياة، وبرغم ما وصفت على لسان سالم بن حم الحياة من جمالية أيامها آنذاك، لا بد أن نقرر أن ذلك لم يأت إلا من إيمان أهلها بوحدتهم وتعايشهم الحميمي مع بعضهم وإلا فإنها حياة شابها شيء من القسوة والفقر. ويصف الشيخ سالم بن حم، كيف عاش ما قبل نهضة الدولة، وكيف تقبلت طفولته أسرار الدنيا ومآسيها وأفراحها فيقول: “طفولتي لم تكن تختلف عن طفولة أقراني الذين نشأوا وترعرعوا في ظل تلك الظروف البيئية والمعيشية الصعبة التي كانت تسود المنطقة آنذاك، لم تكن هناك طفولة بالمعنى الصحيح، فظروف الحياة بمعطياتها في ذلك الحين أضفت علينا منذ نعومة أظفارنا نوعاً من الخشونة والقدرة على التكيف والمثابرة والتحلي بقدر من الإرادة والعزيمة القوية وروح المبادرة والتحدي”. ويضيف سالم بن حم واصفاً تربيته “أما بالنسبة لتربيتي بين أفراد الأسرة، فقد كنت الثاني وتكبرني شقيقتي موزة (رحمها الله) وقد توفيت عام 2006، كنت شغوفاً إلى درجة كبيرة بقصص الشجاعة والبطولة التي كنت أسمعها وأنا طفل عن أولئك الرجال الذين كانوا يدفعون حياتهم ثمناً للذود عن ديارهم وأهلهم”. ولابد أن يقر سالم بن حم بأن الحياة التي عايشها في مرحلتي الطفولة والشباب كان لها أثر بالغ في تكوين شخصيته. تزوج سالم بن حم في سنوات الشباب، حيث طبيعة العادات والتقاليد البدوية، إذ كان الزواج تقليدياً ضمن طقوس في غاية البساطة، فرزق بأبناء هم: مسلم ومحمد وحمد ومبارك وسهل وعبدالله وسعيد، فورث هؤلاء الأبناء قيم الأصالة وعمق التقاليد والنزعة الوطنية بحب الأرض والبلد والأهل عن أبيهم الذي امتلك خزيناً من الذكريات العبقة عن تاريخ هذا البلد وخصوصيته، حيث الأصالة تتجلى في ربطه بين الماضي والحاضر والمستقبل في أحاديثه التي سردها في هذا الكتاب الذي حمل اسمه. الآمال العريضة وحين يتحدث الشيخ سالم بن حم مع الدكتور علاء نورس عن أعز أصدقائه والمقرب إليهم في ذلك الزمان يقول: “إذا كان قدري أن أكون من أصحاب الحظ العظيم الذي ربطني برفقة فقيد الوطن والأمة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمه الله) منذ أيام الشباب، وتلك رفقة طويلة تخللها الكثير من الأحداث والمنعطفات التاريخية والذكريات والآمال العريضة والطموحات التي حققها هذا القائد الملهم بما تحلى به من رؤية ثابتة وعزيمة وإرادة صلبة وحكمة بالغة، فكيف لي وقد خصني الله سبحانه وتعالى بهذه الرفقة العظيمة التي سأظل أعتز وأفخر بها، أن أذكر سواه من أصدقاء زمان، وهم كثر وأكن لهم كل التقدير والاحترام”. وكان هذا الحديث واقعيا فعلاً لأن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمه الله) كان يحب البدو ويحبونه، يعرف تقاليدهم ويعشقها، وهذا الحب لحياة البدو والصحراء جاء من خلال حكمه لمدينة العين والمنطقة الشرقية ما يقرب من عشرين عاماً، هناك عاش مع البدو كواحد أصيل منهم، يكاد يعرف كل الأفراد في كل قبيلة، يحب حياتهم، وأشعارهم وأمسياتهم، وكان يستعين بالقبائل في بناء المشروعات التي أقامها في العين، وأهم تلك المشروعات التي أقامها بمساعدة قبيلة العوامر، الفلج الذي أقامه بالعين، في هذه الواحة تعيش قبيلة العوامر التي يحبها الشيخ زايد (رحمه الله) ويهوي أشعارها وعاش معها سنوات.. هذا ما ذكره راشد عبدالله في كتابه “زايد من مدينة العين إلى رئاسة الاتحاد”. تلك صورة قلمية وتاريخية تحمل في طياتها عمق أصالة واندماج الشيخ زايد (رحمه الله) بشعبه وحبه لهم وما يبادلونه من حب حين يتجلى في “فزعتهم” لندائه أيام الشباب التي يفخر سالم بن حم أنه عاشها مع الشيخ زايد (رحمه الله) وكيف توضأ بنور الإنسان الذي صنع دولة، بل أرسى قيماً وأصالة قل نظيرهما في هذا العالم الحديث. فلج الصاروج وظل “فلج العين” هذا والمسمى “فلج الصاروج” لأن كل قناته بنيت من مادة الصاروج وهي مادة كلسية محروقة أقوى من الجص وأقل صلابة من النورة، ظل هذا الفلج نبراساً على صلة الشيخ زايد (رحمه الله) بشعبه وشاهداً على حميمية النداء وتلبيته في كل لحظة، هذا الفلج الذي ينبع من منطقة مراغ شرقي العين، وهو من الأفلاج الكبيرة ويسير تحت الأرض ضمن قنوات كبيرة عليها عدد من الفتحات لتسهيل عملية تنظيف ومراقبة المياه، ثم تتفرع ضمن عوامد إسمنتية بعرض قدمين وارتفاع قدم لتقوم بسقاية النخيل والمزارع بمنطقة العين”، وهذا عن كتاب حمدي تمام في موسوعته القيمة “موسوعة زايد..” ولقد قام المغفور له الشيخ زايد (رحمه الله) بتطويره منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي حين كان ممثلاً للحاكم في المنطقة الشرقية. ويقال إن أعمال التطوير هذه دامت ثمانية عشر عاماً، وبأمر من المغفور له الشيخ زايد (رحمه الله) أصبحت مياه هذا الفلج وكذلك مياه الأفلاج الأخرى مشاعة لعامة الناس. ذلك ما يستند إليه الدكتور علاء نورس في توثيق الخبر حيث يعتمد المراجع الأخرى التي كتبت عن حياة المغفور له الشيخ زايد (رحمه الله) وما أسرده الشيخ سالم بن حم من وقائع وأحداث كي يخرج هذا الكتاب “ذاكرة تاريخ وتجربة حياة” موثقاً دقيقاً في معلومته، واضحاً في رؤيته، متمكناً من مصداقيته. تاريخ العوامر جاء في دراسة علمية بعنوان “العوامر: قبيلة متخصصة بحفر الآبار والأفلاج” أعدها جي إس بيركس وسالي إي ليتس وجرى ترجمتها إلى العربية ونشرت عام 1982 ما يأتي: “إن حفر الآبار والأفلاج حرفة شاقة يكاد يحتكرها العوامر الذين يمتازون بمهارة خاصة، الكثير من العوامر مشهورون بأنهم “باصرون”، أي لديهم دراية بمعرفة مواقع الماء تحت الأرض”. وتكمل الدراسة “يتمتع العوامر بكفاءة في معرفة إمارات الينابيع تحت الأرض وفي توسيع واكتشاف مجاري الماء المعروفة تحت الأرض ليزيدوا جريان الماء إلى الفلج إلى الحد الأقصى، إن للعوامر كنوزاً من الخبرات بهذا الشأن”. العوامر قبيلة كبيرة، امتداداتها كثيرة، تتميز ببنيتها البدوية، ولذلك فهي قبيلة متماسكة في القربى بفروعها المتعددة “بحسب شاكر خصباك وكتابه “دولة الإمارات العربية المتحدة.. دراسة في الجغرافية الاجتماعية”. في هذه القبيلة نشأ الشيخ سالم بن حم فتعلم خبرتها وصبرها ومعرفتها، ويمتد العوامر من عمان حين نزوى وفي مناطق من مسقط والباطنة. وتعد العوامر من القبائل الرئيسة في إمارة أبوظبي، مكانتها معروفة لدى شيوخ آل نهيان، وشجاعتها ومواقفها في تاريخ الإمارات مشهودة ومؤرخة، وهم بحسب الكاتب تايلر وكيل المقيم البريطاني في العراق خلال القرن التاسع عشر، ومارتن بكماستر الذي كان مسؤولاً سياسياً في أبوظبي وقام برحلة أوائل عام 1952 في بادية أبوظبي بصحبة المغفور له الشيخ زايد (رحمه الله)”إن العوامر من جند البو فلاح المتميزين بصدق الولاء والإخلاص”، وإن “سالم بن حم أحد أصدقاء زايد الشخصيين والقريبين منه”. وتسكن قبيلة العوامر المنطقة الجنوبية لأبوظبي وخاصة منطقة أم الزمول وزرارة والربع الخالي، كما تسكن أكثر جماعات العوامر في إمارة أبوظبي في أرض الختم والكدن والحمرة. في هذه القبيلة نشأ الشيخ سالم بن حم الذي يقول “تعلمت من مدرسة المغفور له الشيخ زايد وهي مدرسة حياة بشتى صورها ودلالاتها وميادينها العملية”. الماضي القريب عاصر الشيخ سالم بن حم الصعاب وخبرها وتحداها وشهد قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي كلا الزمنين كانت ذكرياته تاريخاً وثائقياً لها أهميتها ليس بحكم المعاصرة والمعايشة من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر، وإنما لأنها نابعة من شخص امتلك بصيرة، من شخص يعد من الرجال القلائل الذين صنعتهم الحياة الصعبة وتغلبوا عليها وأسهموا في مواجهتها. لقد رافق الشيخ سالم بن حم كل إنجازات الشيخ زايد (رحمه الله) وتعلم من هذه الرفقة التي سماها بـ “مدرسة الشيخ زايد” التي هيأت له مساحة واسعة من خبرة وفراسة وحكمة المغفور له الشيخ زايد (رحمه الله)، حيث كان ينهل من هذه المدرسة. يعرض الكتاب الذي جاء في 3 فصول، الأول عن “الجذور وسنوات النشأة”، والثاني “سالم بن حم وذكريات الماضي القريب”، والثالث “الشيخ زايد والتحول في حياة سالم بن حم” كل هذا التاريخ الحديث. ويروي سالم بن حم ما حصل له في الصحراء مع الرجال الثمانية الذين جاءوا ليقتلوه فيأسرهم ويأتي بهم مقيدين، وكيف احترقت الشجرة التي كان يختفي وراءها بنار الرصاص. يسرد سالم بن حمد عن زمن الجوع وزمن الهناء في عهد زايد الخير، ويحكي سالم بن حمد عن تأسيس “المدرسة النهيانية” عام 1959 وكيف أسسها الشيخ زايد (رحمه الله)، وعن مستشفى الكندي (الواحة الآن) حيث قرر زايد الخير بناءه. ونترك الفصل الأخير عن “الشيخ زايد والتحول في حياة سالم بن حم” ليقرأه المتلقي داخل الكتاب لما فيه من جمالية الأحداث وغرابتها وعمق تناولها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©