الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحضور والغياب في مرآة واحدة

الحضور والغياب في مرآة واحدة
21 ابريل 2010 20:27
لا يوجد سارد مسيطر ومهيمن على أحداث رواية أحمد الدويحي الجديدة “وحي الآخرة”، بل عدد من الشخوص الذين يتفاوت ظهورهم حسب دائرية الحدث بين التخيلي والواقعي، وحسب ثيمات الرواية وأسئلتها ماعدا الرائي غالبا.. شخوص يظهرون ويختفون ثم يعاودون الظهور مرة أخرى حسب واقع مختلف، حيث الرواية تطرح عوالم وحي الآخرة وماقبلها أيا كان زمنه. الزمن هنا ليس مادة للاسترجاع كما يحدث في روايات كثيرة، بل هو زمن تخيلي يتصل بكينونة وثيقة العهد به في الواقعي ويقدم ثيمات أخرى مثل الموروث والجهات والمرأة في مزيج من الأحلام والحياة والموت ضمن هذا الزمن المفتوح والمغلق في آن. وهذا ماجعل الرواية محتشدة بالشخصيات وهو الأمر الطبيعي الذي يحتمه موضوع رواية كهذه وتجريب مختلف في كتابة سردية. ومن خلال بوابة “وحي الآخرة” التي هي ملتقى الاسئلة والتحولات يضعنا الدويحي في مفارقات الحياة وما يتقاطع معها في النهايات والبعد الميتافزيقي، وفي صورة متحركة ومتغيرة من شخص إلى آخر أو من عوالم إلى عوالم أخرى. من تلك البوابة يكون مدار الحدث وتحليله ومحاولة ايجاد إجابات لما يتشابه مع ذلك المتخيل في واقعنا، حيث ماهو بديهي وعادي يخلق المقاربة أو صادم ومفاجئ ولا متوقع دائما، خصوصا وأن هذا الطرح يتناول الاجتماعي في ثنايا الاحداث والموروث في تناقضاته مع معطيات جديدة للحياة أو في اشكالات استيعابه الحديث: “ارتفعت أصوات الواقفين على بوابة الآخرة، محتدين ومحتجين على تناقض الحال والظرف والمكان...”. ومايضمره شخوص الرواية أو يصرحون به كعوالم الحنين أو عالم الأحلام الذي يتداخل مع الواقعي ويأوله، يفضي إلى مزيد من التناقض: “يمضي الزمن ليصبح العمر لحظة، ووجه القادم من بوابة الريح، عربد به الزمن وخذلته اللحظات، فيطل بعين الرائي في الحلم”. الرواية هي رواية المصير وأسئلة الوجود، رواية المصائر الفردية التي تلتقي في هموم مشتركة ولحظات حاسمة برغم تناقضها واختلافها وجراحات الأمكنة وسكونها وجهاتها في عالم من الرحيل التراجيدي والفلسفي. ينمي الدويحي كل هذا عبر تضافر خيوط السردية وملامح الشخوص وحضورهم بشخصيات حيوية وأخرى ثانوية أو هامشية وبلغة قديرة عرف بها الدويحي في اعماله السابقة أيضا حيث الاشتغال على اللغة لديه ملفت في قدرته على تطويع التوصيف الشعري أو الحواري وفي علاقة اللغة العضوية مع الحدث، وفي معارف النص المختلفة من آيات القران أو الشعر العربي أو حكايات الاسطورة العربية أو الشعبية، وليس لأن هذه هي مادة رحبة للرواية بل نعثر على كل هذا ضمن سياق متصل يحاول أن يتماس مع الواقع بكل خرائبه وأمكنته تماما كما هو ينقلنا إلى الحياة الأخرى والعالم المتخيل أو عالم الأحلام، وهنا تكمن دهشة الرواية وتميزها بل وجرأتها المختلفة في الطرح عن الكثير مما نقرأ اليوم، إذ ليست الجرأة هنا هي المكاشفة الفجة أو سلسلة ما ندرك وما لا ندرك أو مستوى مانستطيع كتابته فهذا قد يصل إليه أي كاتب فيما بعد، لكنها تلك الجرأة الخلاقة والحقيقية التي تتعامل مع التاريخ برمزية عالية ومع الرواية كفن وإبداع أولا ً قبل أن تكون مساحة للكتابة الاستخباراتية والفضائحية، وهذا ما يتأتى للدويحي في “وحي الآخرة” خصوصا، فهو يكتب تجريبا جاءت به مفاهيم مابعد الحداثة في الرواية الجديدة حيث الزمن متشظي ومايعرف بالحبكة متفتت وعائم وحيث التورية ليست قيمة بلاغية صرفة بل انزياح يمنح أفقا ينتج قارئا فاعلا مع روح السرد هناك، حيث نلتقي مع أجناس أخرى ضمن هذه الرواية، فالشعر مثلا والحكاية الشعبية أو تعطيل الحكاية نفسها كلها تأتي في سياق واحد: “أخاف ان يبتلع التابوت الكلمات لكن ماذا لو لم يخترق حجاب الروح سوى هذيان لغة واحدة؟ ترقص ملامحي، غرقت بعيدا في مكان بين الآن والماضي في كلماتك ـ في شفافيتك ـ حتى في تمرد نبضك، وعصا أسطورية حملتها كف ّ مايسترو ما ارتويت أبدا من تقبيلها، فهل يتاح لجبيني تحت تلك الكف في بقية عمري، ماذا أفعل؟”. هذه الرواية تحتاج إلى تأمل خاص بعيدا عن تشويش مقروءات سابقة قد تكون تقليدية أو غير متقنة.. رواية الانسان في مواجهة مصيره التخيلي على الأقل، ورواية الأفق الرحب أسلوبا في مضمراتها الفنية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©