الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مراودات الشيطان.. الضوئية

مراودات الشيطان.. الضوئية
21 ابريل 2010 20:30
تاريخ الصورة الفوتوغرافية في مصر به الكثير من الأهمية والطرافة، فقد دخلتها عام 1839 وهو نفس توقيت ظهور هذا الفن في فرنسا، وآنذاك كان الوالي محمد علي يسعى الى تأسيس الدولة الحديثة في مصر. ويرصد د. محمد رفعت الإمام استاذ التاريخ في كتابه الجديد “عصر الصورة في مصر الحديثة” قصة الفوتوغرافيا ودخولها مصر وفي البداية أطلق عليها التصوير الشمسي. وكان الرعيل الاول من المصورين في مصر أوروبيين، وتعرضوا لمشاكل عديدة منها صعوبة نقل أدواتهم الى مصر واختلاف المناخ بين أوروبا ومصر، مما كان يؤثر على قدرة العدسات على الالتقاط مع زيادة الأتربة، وندرة الخامات والمواد الكيميائية اللازمة للصورة، ومع ذلك أمكن للمصورين بجهود فردية أن يتجاوزوا هذه العقبات وتكيفوا مع الواقع وطوروا آلات التصوير لتناسب مناخ مصر الحار. وجذبت مصر المصورين الأوروبيين وانطلقوا الى الصعيد والى الريف، فضلا عن المواقع الأثرية ومن أبرزها الهرم الأكبر وأبو الهول وبعض المعابد، كما شغلهم نهر النيل بامتداده من النوبة جنوبا وحتى البحر المتوسط شمالا وراحوا يلتقطون الصور للمواقع المهمة والمناظر الطبيعية فضلا عن الأشخاص والأحداث المتباينة التي تقع في طريقهم. أول صورة وكانت أول صورة فوتوغرافية يتم التقاطها على أرض مصر وربما افريقيا كلها وفي الشرق الأدنى للوالي محمد علي باشا وكانت في الاسكندرية بآلة “داجير” والتقطها فريد ريك جوبيل وهوراس فيرنيه وقد دون جوبيل في أحد كتبه قصة هذه الصورة والفزع الذي انتاب الوالي لحظتها، ويبدو انه تصور أو شك في أن تكون هناك محاولة لاغتياله، خاصة انه تم إظلام الغرفة بالكامل التي جرى فيها التصوير، وكان مستعدا بسيفه للدفاع عن نفسه، وعيناه ترقبان المحيطين به من طاقم التصوير. ويقول جوبيل “وجه محمد علي مشحون بالاهتمام، وعيناه تكشفان حالة من الاضطراب ازدادت عندما غرقت الغرفة في الظلام استعدادا لوضع الألواح فوق الزئبق وخيم صمت مقلق ومخيف علينا ولم يجرؤ أحد منا على الحركة ابدا، وأخيرا انكسرت حدة السكون باشتعال عود ثقاب أضاء الأوجه البرونزية الشاخصة وكان محمد علي الواقف قرب آلة التصوير يقفز ويقطب حاجبيه وقد تحول نفاد صبر الوالي الى تعبير محبب للاستغراب والإعجاب. وصاح: “هذا من عمل الشيطان. ثم استدار على عقبيه وهو لا يزال ممسكا بمقبض سيفه الذي لم يتخل عنه لحظة، وكأنه يخشى مؤامرة أو تأثيرا غامضا، وأسرع مغادرا الغرفة بلا تردد”. وهكذا بدأ التصوير مع مؤسس الأسرة العلوية وكان نجله محمد سعيد والي مصر اول من التقطت صورته بطريقة اللصق على الزجاج، وقام المصور لوجراي بتصوير الوالي محمد سعيد عام 1861 أثناء عودته من رحلة الحج، وبدءا من عام 1865 صار لوجراي هو المصور الخاص للخديو اسماعيل ولم يكن التصوير من نصيب الوالي أو الخديو وحده، بل امتد الى أمراء وأميرات الاسرة جميعا. أول “ألبوم” بين عامي 1867 ـ 1868 استطاع لوجراي أن يكون ألبوما من 50 صورة تحت عنوان “رحلة في صعيد مصر” وثق فيه رحلة أبناء الخديو اسماعيل وقتها الى الصعيد، وقام المصور ارميه ديزيه بتصوير الأميرة تفيدة ابنة اسماعيل مرتدية ثوب زفافها في عام 1873 وفي عام 1891 تم توثيق رحلة الأميرات الى الصعيد بالصورة وبعد الأمراء والأميرات تأتي صور كبار الموظفين والأعيان والنخبة. ويرصد المؤلف أنه بدءا من عام 1877 اتجهت نظارة الداخلية في مصر وأجهزة الأمن الى الاستعانة بالصور الفوتوغرافية للمساجين والمجرمين، فقد قررت الداخلية التقاط الصور الفوتوغرافية لجميع المساجين في مصر وكان عددهم وقتها خمسة آلاف سجين، وشملت هذه العملية “أرباب الجنايات المحكوم عليهم بالحبس والليمان والإعدام من قومسيونات الجنايات والمحاكم الأهلية وغيرهم بأحكام انتهائية ابتداء سنة واحدة فصاعدا”. وأعلنت الداخلية ان الغرض من ذلك هو تسهيلا للبحث عن كل من يتمكن من الفرار من المسجونين ومعرفة سوابق من يقع منهم في جريمة ثانية. وشمل التصوير مساجين آخرين على وشك الإفراج عنهم بالإضافة الى “الأشخاص الأوروبيين الجاري نفيهم من الديار المصرية لمراقبة عدم عودتهم”. وبدأت العملية من سجن المنصورة ثم سجون الوجه البحري ومن بعده الوجه القبلي وأصبحت الصورة الفوتوغرافية واحدة من أدوات الضبط والربط، ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر، صارت الفوتوغرافيا وسيلة لكشف المحتالين والنصابين، فقد وضعت آلة تصوير في المحال الكبرى والبنوك والمؤسسات التجارية لعرض وتسجيل أي تجاوز، وتسجل الملفات بدار الوثائق المصرية ان “الفوتوغرافيا” كانت سببا في اكتشاف الغاز بعض الجرائم الكبرى والمجرمين العتاة. أول تعليق ولم تنطلق عبارة محمد علي حين التقطت له أولى صورة “هذا من عمل الشيطان” من فراغ، فهي لها دلالتها، خاصة انها صدرت عن حاكم مستنير والواقع ان التصوير واجه مشكلة مع بعض المفاهيم الدينية التي تحرم التماثيل والصور في الثقافة الاسلامية ففي عام 1865 حاول المصور الألماني هامر شيمون التقاط بعض الصور لموكب الحج المصري وهو يتحرك من القاهرة نحو مكة المكرمة، فتعرض لمضايقات شديدة من الأهالي، وصارت المشكلة كبيرة بدءا من عام 1893 حين أرسل مسلمو سيلان الى شيخ الجامع الأزهر، الشيخ الانبابي يستفتونه بخصوص التصوير الشمسي من حيث “التحريم والكراهية وإمكان الإباحة وما يتفرع عن ذلك”. وقالوا لفضيلة الشيخ إنهم” افترقوا فرقتين بين مائل الى الاستعمال وبين جانج الى نقيض حتى خيف الشقاق”. وقالوا ايضا انهم من الأمم التي لم تغلب عليها عادات التفرنج ولم يسهل عندها أمر الدين والشعائر الاسلامية ومضت سبعة أشهر دون أن يرد عليهم فضيلة الشيخ، فتفاقمت المشكلة واتسع نطاقها بين المسلمين في مختلف البلدان من تركيا الى مكة المكرمة والقاهرة ايضا، وتدخل الشيخ رشيد رضا بفتوى أو دراسة على صفحات “المنار” ربط التصوير من حيث التحريم والإباحة بمدى النتائج التي تترتب عليه، أي انه ليس مباحا في ذاته ولا محرما كذلك بذاته وضرب رشيد رضا عدة امثلة على الحالتين فالتصوير قد يساعد على اكتشاف مجرم مما يعيد الحق الى إصحابه وهنا يكون مباحا وحلالا ثم تدخل الأستاذ الامام محمد عبده بفتواه الشهيرة التي أجازت التصوير الفوتوغرافي. الغريب أن هذا الجدل الديني والفقهي حول التصوير عاد الى الظهور والتجدد بيننا في السنوات الاخيرة. لكن مع مطلع القرن العشرين كان الأمر حسم نهائيا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©