الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلة الفنان الآمدي من ديار بكر إلى القاهرة

رحلة الفنان الآمدي من ديار بكر إلى القاهرة
14 مارس 2014 22:00
د. أحمد الصاوي (القاهرة) - من آمد بقلب أعالي الفرات، والمعروفة اليوم بديار بكر جاء هذا الفنَّان إلى القاهرة في منتصف القرن الثامن الهجري «14 م» حاملًا معه أحلامه في الشهرة والثروة، وبعضاً من التقاليد الفنية التي لم تكن معروفة، أو مألوفة في تزيين المصاحف الضخمة والتي أقبل المماليك من السلاطين والأمراء على اقتنائها. ورغم أنه لا يوجد سوى مصحف واحد يحمل بوضوح توقيع إبراهيم بن محمد الآمدي، فإن الدراسات الحديثة تنسب له ثلاثة مصاحف أخرى تتوزع بعض من أجزائها بين دار الكتب المصرية بالقاهرة، ومكتبة شيستر بيتي بدبلن، ومكتبة أخرى في مانشيستر بإنجلترا. والعمل الذي يحمل توقيع إبراهيم كمزخرف هو مصحف تم نسخه على يد محمد المكتب الأشرفي في 15 من المحرم عام 774 هـ برسم مكتبة خانقاه الأشرف شعبان بن حسين التي كانت قائمة في مواجهة الطبلخانة المملوكية بقلعة الجبل. زخارف المصاحف وحظي هذا المصحف باهتمام الباحثين، نظراً للاختلاف البين لزخارفه عن نمط زخارف المصاحف المملوكية المعاصرة، ولا سيما من زاوية تخليه عن نمط زخرفة الأطباق النجمية واعتماده خطة زخرفية ولونية جديدة كلياً على الزخارف المملوكية. فمن ناحية اعتمد إبراهيم الآمدي على الزخارف النباتية التي توزعت إما داخل دوائر مفصصة، أو في مناطق تشبه حرف «S» اللاتيني، أما ألوانه، فقد تجاوزت ثنائية اللونين الذهبي والأزرق المعروفة في المصاحف المملوكية لتشمل بجرأة مجموعة واسعة من الألوان، منها الأزرق الداكن، والذهبي، والأسود، والأبيض، والبني، والأزرق الفاتح، والأخضر، والبرتقالي، والأحمر، والوردي الداكن. وبناء على تلك الخصائص، فإنه يمكن الآن نسبة ثلاثة مصاحف لإبراهيم الآمدي رغم أنها لا تحمل توقيعه بناء على أساليب زخرفتها وخططها اللونية. الإطار الخارجي أول هذه المصاحف تبقى منه جزءان من أجزائه الثلاثين بدار الكتب المصرية، وتشير كتابات نهاية أحد الأجزاء إلى أن الخطاط هو محمد المكتب الأشرفي، وأن المصحف نسخ بأمر السلطان الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون برسم مكتبة مدرسة أم السلطان شعبان بالقاهرة في 15 شعبان عام 770 هـ، وتتجلى في زخارف بعض الصفحات روح الزخرفة الخاصة بالآمدي، خاصة في الإطار الخارجي الكبير ذي الأرضية الزرقاء الفيروزية الحافلة بزخارف التوريق، وقد تخللتها مناطق على نمط حرف «إس» اللاتيني رسمت بلون ذهبي، وتبدو خصائص مدرسة إبراهيم الآمدي أيضاً في رسوم الورود والزهور التي تحتل شريطاً عريضاً له أرضية سوداء، بينما رسمت النباتات بألوان متعددة. الأرابيسك المتقن وهناك أيضاً عمل آخر يرجح نسبته لإبراهيم الآمدي، وهو جزء واحد من مصحف شريف نسخ للأمير المملوكـي صرغتمش الأشرفي في شوال من عام 775 هـ بيد نفس الخطاط محمد المكتب، وكما يبدو في صفحة فيها سورة الفلق، كتب الخطاط خمسة أسطر على أرضية من زخارف التوريق أو الأرابيسك المتقن المذهبة تتجلى فيها الشخصية الفنية لإبراهيم الآمدي بوضوح، ويبدو أنه عمل مع هذا الخطاط داخل ورشة خاصة بالأشرف شعبان ولم يكن من الغريب أن يتمتع أمير مثل صرغتمش بامتياز الحصول على مصحف خاص به من عمل هذين الفنانين طالما كان من الأمراء المقربين للسلطان الذي كان ضعيفاً لحد بعيد أمام الأمراء الكبار في مملكته. أما العمل الثالث الذي يعتقد أنه أيضاً من عمل إبراهيم الآمدي، فيكشف عن حوادث تاريخية مهمة أشار إليها المقريزي أشهر مؤرخي عصر المماليك. ذلك أن هذا المصحف يعتبر من الأوقاف الخاصة بالسلطان المملوكي الناصر فرج بن برقوق، والذي تولى عرش السلطنة فيما بين عامي 801 و815 هـ. وأثار نص الوقفية جدلاً واسعاً بين المتخصصين فيما يتعلق بصحة نسبة زخارفه للآمدي الذي ظل يعمل بالقاهرة حتى عام 778 هـ على أقصى تقدير، على الرغم من تطابق زخارف المصحف مع أسلوبه الزخرفي وخططه اللونية بصورة يصعب تجاهلها. باب العبد ولكن هذا الجدل سرعان ما خفت حدته عند تحليل أقوال المقريزي التي تحدثت عن تخريب الخانقاه الأشرفية بالقلعة، وهدمها بأوامر من الناصر فرج لتشيد مكانها منشآت أخرى منها البيمارستان المؤيدي، وقد صادف هدم الأشرفية قيام جمال الدين الأستادار ببناء مدرسته القائمة لليوم في باب العيد بالجمالية، فقام بنقل بعض مكونات الخانقاه الأشرفية لمدرسته تلك وشمل ذلك حسب المقريزي شبابيك من النحاس المكفت بالذهب، وأبواباً مصفحة بالنحاس ومصاحف، وكتباً للحديث والفقه. وزيادة على ذلك، قام جمال الدين الأستادار بشراء كتب عدة من الملك الصالح المنصور حاجي بن الأشرف شعبان بثمن بخس لا يتجاوز 600 دينار، من بينها مصاحف ضخمة يزيد طولها على ستة أشبار، وبعضها بتوقيع ياقوت المستعصمي، وابن البواب أشهر الخطاطين ببغداد. مقتنيات الأشرف شعبان من المصاحف الفاخرة يفهم من النص التاريخي أن مقتنيات الأشرف شعبان من المصاحف الفاخرة قد آلت لمدرسة جمال الدين الأستادار، سواء بالنهب من الخانقاه الأشرفية، أو بالشراء من المنصور حاجي، ولكن ذلك لم يكن خاتمة المطاف في هذا الأمر، إذ غضب الناصر فرج بن برقوق على جمال الدين، بعدما زاد طمعه حتى استولى على الأوقاف وأسخط الفقهاء والرعية عليه فشكوا أمره للسلطان الذي أمر بمصادرة كل أملاكه، بما في ذلك المدرسة التي غير نصها التأسيسي لتصبح المدرسة الناصرية نسبة للناصر فرج بن برقوق. وفي هذا السياق سجل على المصحف الذي نحن بصدده أنه من أوقاف الناصر فرج، وهو ما يفسر التناقض الظاهر بين نسبته لأعمال إبراهيم الآمدي في سبعينيات القرن الثامن الهجري ووقفه في أوائل القرن التاسع للسلطان الناصر فرج، إذ يبدو واضحاً أن المصحف نسخ في الأصل لخانقاه الأشرف شعبان بالقلعة. مازح التقاليد الفنية يبقى إبراهيم الآمدي عنواناً واضحاً على تمازح التقاليد الفنية بين أقاليم دار الإسلام، فبعد نشأته في آمد بإقليم الجزيرة بأعالي الفرات وتشبعه بتقاليد الفن هناك في مطلع القرن الثامن الهجري يبدو أنه انتقل للعمل لفترة من الوقت في بغداد، ثم إيران ومن جولاته الأولى تلك استلهم الآمدي بعضاً من عناصر الزخرفة الصينية، كالسحاب الصيني ورسوم الورود، وكانت شائعة منذ عصر المغول، ثم التيموريين في تلك الأنحاء ومزجها ببراعة بزخارف التوريق أو الأرابيسك الإسلامية، وهو ما نرى أمثلة له في بعض المصاحف التي أنتجت في شيراز بجنوب فارس في تلك الفترة. وكما اجتذب ثراء دولة المماليك العديد من الفنانين المسلمين جاء إبراهيم الآمدي حاملاً معه كل هذه التقاليد الغريبة على الفن المملوكي، ومعه الحلم بحيازة ثروة معتبرة من خلال الالتحاق بخدمة البلاط المملوكي، وهو ما تحقق بالفعل خلال عصر السلطان الأشرف شعبان بن حسين الذي شهدت فترة حكمه إنشاء أكبر مكتبتين حشدتا بنفائس المصاحف وكتب الفقه والحديث وهما الخانقاه الأشرفية ومدرسة أم السلطان شعبان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©