السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرجل المناسب.. الغائب

الرجل المناسب.. الغائب
6 مارس 2013 20:06
مجموعة فتحي غانم القصصية «الرجل المناسب» تكاد تكون مجهولة، فقد صدرت لأول مرة عام 1984 ولم يلتفت إليها كثيرون، وكانت سلسلة مختارات فصول قد افتتحت إصداراتها بها، وقدم لها الناقد د. عز الدين إسماعيل رئيس هيئة الكتاب وقتها. والاهتمام بأدب فتحي غانم انصب على رواياته، وهي بالتأكيد روايات متميزة وتحول معظمها إلى مسلسلات تليفزيونية أو أفلام، ولم يجد إنتاجه في القصة القصيرة ذلك الاهتمام، أما بعد وفاته فقد تحول الرجل وأدبه إلى مجرد ذكرى، اللهم إلا روايته «تلك الأيام» التي اهتم بها د. جابر عصفور منذ سنوات عديدة واعد دراسة نقدية مطولة حولها وأعيد نشرها، ولعل التفات هيئة الكتاب ـ الآن ـ إلى مجموعته «الرجل المناسب» فرصة لإعادة الاهتمام بأعماله المتميزة التي تعد إضافة حقيقية إلى الرواية العربية. نشرت المجموعة عام 1984، ولكن يبدو أن بعض قصصها كتبت في السبعينيات من القرن الماضي مع بداية الانفتاح الاقتصادي في مصر، ومع ذلك فإن القضايا التي تتناولها المجموعة لا تزال مطروحة إلى اليوم، ومن ثم فإننا يمكن أن نعدها مكتوبة الآن، خاصة القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، وهي عن الرجل المناسب في الإدارة والمناصب الرفيعة، بطلها مدير عام بإحدى المؤسسات يجيد السيطرة على كل رئيس يأتي إلى المؤسسة بالخضوع والتملق المبالغ فيه، بالإضافة إلى عملية الاحتواء، ورغم أن المؤسسة مليئة بالأزمات والمشكلات، خاصة المالية، فإنه يخفي التفاصيل عن كل رئيس ويكتفي بالقول له إن كل شيء تمام، وكل ما يفعله هذا المدير ان يقوم بترحيل الأزمات والمشاكل، فإن كانت المؤسسة مدينة لبنك فإنه ينجح بطريقته البيروقراطية في تأجيل المطالبة وهكذا.. ثم جاء رئيس صمم على أن يتابع ويطلع بنفسه على كل التفاصيل، وصدم ذلك الرئيس في البداية ولما وجد أن المشكلات كبيرة وأدرك أن المدير العام وراء معظمها وكان على وشك أن ينحيه عن العمل ويحيله إلى التحقيق اضطر في النهاية إلى ترك إدارة الأزمة له. ويروي الكاتب في نهاية هذه القصة على لسان البطل «شوكت» المدير العام للمؤسسة انه ذهب للوزير المسؤول والتقاه شارحا له الأزمة واستعداده للاستقالة، لكن الوزير سانده ويقول: «.. وخرجت من عنده، وقد تأكد لي أن المشكلات سوف تتضاعف وتتفاقم ما دام هذا الرجل هو رئيس شركتنا. الآن سوف اخرج للمديرين المجتمعين في الحجرة، وسوف أطلب منهم أن يمتنعوا عن إعطاء أي بيان أو إحصاء لاحد مهما كان، بغير إذن مني، حتى لو طلب البيان رئيس الشركة بنفسه». المهم في هذه القصة أحداثها ورسالتها التهكمية حول العقلية البيروقراطية والتكنوقراطية في مصر، التي تؤدي إلى تفاقم الأزمات، وان البيروقراط يقوم في النهاية بتطويع رجال التكنوقراط له، المهم كذلك في أسلوب السرد وأسلوب القص انك لن تشعر بأن هناك كلمة واحدة زائدا، ويمكن الاستغناء عنها، اقتصاد تام في الكلمات والأسلوب، رصانة وسلاسة في التعبير، وقد استفاد كثيرا من لغة الصحافة، مهنته الأولى طيلة حياته. أما أول قصص المجموعة وأطولها ـ 34 صفحة ـ وتحمل عنوان «أتت تجرجر أذيالها» فهو يرصد فيها ما يمكن أن نسميه أزمة النخبة، حضارياً وثقافياً، من خلال أستاذ فلسفة، درس في السوربون بفرنسا وعاد ليدرس بالجامعة، وإصابة الاستعلاء الشديد على أبناء بلدته وعموم الناس، متصوراً أنه أفضل منهم حضارياً وثقافياً، حتى أنه لم يتزوج بدعوى أنه لا توجد من تستحقه ومع ذلك كان يحلو له أن يروى حكايات لطلابه وكذلك في البرامج التليفزيونية عن مدى الانحلال في الغرب وأنه رأى ذلك بعينيه، من خلال زميل له فرنسي وحدث أن زار هذا الزميل مصر والتقاه مع أحد الفلاحين مصادفة، ويتبين لنا أن كل ما رواه الأستاذ كان مجرد أوهام وبمعنى أدق أكاذيب، ويتضح كذلك أن تصوراته السلبية عن المواطنين الفقراء وغير المتعلمين قائمة على الوهم، تثبت لنا القصة أنهم أكثر صدقا وأنهم كذلك أكثر اتساقا مع أنفسهم منه هو الذي لم يستفد ـ فعلاً ـ من حياته في أوروبا ولا احتفظ بنقاء الحياة المصرية البسيطة، عاش حياته يسعى إلى أن يكون وزيراً وفي اللحظة المناسبة يقع له حادث سير يدمره صحياً. الواقع أن كل قصة تقدم لنا نموذجا إنسانياً خاصاً فضلا عن رمزيته الاجتماعية مثل قصة «قضت المحكمة بإحالة الأوراق إلى المفتي» ويرصد فيها نفسية القاضي حين يكون في المحكمة، يواجه المحامين والمتهمين والمجرمين، ثم لحظة أن يصدر حكماً بالإعدام لينهي حياة إنسان، وهو قرار أو حكم بالغ الصعوبة نفسياً وإنسانياً، من خلال قاض كان يرفض أن يصدر حكماً بالإعدام، لذا كان المحامون يتهافتون للوصول إلى جلساته وهم متأكدون من أن موكليهم من عتاة الإجرام سوف يفلتون من الإعدام، ولكن في إحدى القضايا، وكان المحامي فيها زميل عمره ولم يكن أمام القاضي بد من إصدار الحكم بالإعدام فالمجرم اعترف بجريمة القتل، هذه التجربة وذلك التحول الإنساني يرصده هو بدقة وشفافية. الأمر نفسه نجده في قصة «تأملات كاتب مشهور في آخر أيامه» ويعود فيها إلى عالمه المفضل، عالم الصحافة والصحفيين، وقد استلهمه في رواياته الكبرى من قبل لكنه هذه المرة يرصد قصة احدهم وهو يتأمل حياته وتحولاته السياسية والمهنية. تستحق قصص المجموعة أن تقرأ الآن، حيث يضع الكاتب يده على كثير من الأوجاع، وهي تأتي من زمن ليس بعيدا، لكنه ابتعد بحجم التحولات، أنه هنا يتحدث عن قمة الفساد حين كان الموظف يحصل على راتب 150 جنيهاً مصرياً في الشهر وكان قمة البذخ أن تنفق أسرة مصرية 400 جنيه شهرياً. عاش فتحي غانم بين عامي 1924 و1999 وتولى عدة مناصب صحفية منها رئاسة تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط ومجلة صباح الخير وغيرها، ومن أبرز رواياته «زينب والعرش»، «بنت من شبراً»، «الأفيال» وغيرها. إعادة نشر هذه المجموعة هي إعادة تذكير وتذكر له وربما تلفت الانتباه إلى بقية أعماله فتعاد طباعتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©