الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إدارة الموت

إدارة الموت
19 ابريل 2017 20:36
كلّ من شاهد الفيلم الفرنسيّ الإيطالي «ساكو وفانزاتي»، «Sacco et Vanzetti « للمخرج الإيطاليّ جيوليانو مونتالدو، «Giuliano Montaldo» سيشعر أنّه انغمس في وقائع تلك القضيّة الغريبة الّتي امتدّت جلسات المحاكمة فيها سبعَ سنوات: من 22 حزيران 1920 تاريخ أوّل جلسة، إلى 12 مايو 1927، وهو تاريخ الجلسة الّتي صدر فيها قرار الإعدام، ونفّذ في اللّيلة الفاصلة بين 22 و23 أغسطس 1927 بواسطة الكرسيّ الكهربائيّ في سجن «شارلستاون»، Charlestown، بضاحية من ضواحي بوسطن. تعود أحداث هذه القضيّة إلى المناخ السّياسي المتوتّر منذ 1919 و1920 في الولايات المتّحدة الأميركيّة بسبب التّضخّم المالي، ونهاية اقتصاد الحرب، وتدخّل الدوّلة، وصعود النّقابات القويّ في كامل الولايات، حيث سجّل في سنة 1919 وحدها مشاركة أربعة ملايين ونيف من العمّال المضربين المطالبين بتحسين الأجور وتقليص ساعات العمل. وقد انقلبت الإضرابات إلى شغب وعنف بلغ حدّه الأقصى سنة 1925 لمّا حاول بعض الجماعات الفوضويّة اغتيال شخصيّات سياسيّة كعمدتي سياتل وكليفلند، ومهاجمة مكاتب بنك مورغن Morgan في وال ستريت Wall Street وتفجيرها، مخلّفة ثلاثين قتيلا ومائتي جريح. وكان ردّ السّلطات عنيفا، إذ سرعان ما هاجمت الفوضويّين والشّيوعيّين والاشتراكيّين الأميركيّين، وحتّى العمّال المضربين، ناشرة الذّعر في كلّ الولايات، فسمّيت تلك الفترة بـ «الخوف الأحمر»، لأنّ الخوف من انتشار البلشفيّين في أوروبا وغيرها من البلدان كان يتعاظم يوما بعد يوم. في تلك الفترة المتوتّرة هاجمت عصابة مصنع أحذية في بريدج واتر Bridgewater، يوم 24 ديسمبر 1919، دون نجاح، وتكرّر الأمر في ساوث براينتري South Braintree، لمّا هاجمت عصابة أخرى مصنع أحذية يوم 15 أبريل 1920 مخلّفة قتيلين تمكّن فيها المُعتدون من سرقة مبلغ خمسة عشر ألف دولار، هو كامل أجور العمّال. فاتّجهت شكوك الشّرطة فورا إلى بعض الفوضويّين الإيطاليّين، فقبضت على «نيكولا ساكو» Nicola Sacco و»بارتولوميو فانزاتي»  Bartolomeo Vanzetti  رغم خلوّ سجلّهما القضائيّ من كلّ السّوابق. بيد أنّ السّلطات كانت تعتبرهما من النّشطاء الرّاديكاليّين من الّذين يميلون إلى ممارسة الإرهاب الثّوري بتنفيذ عمليّات السّطو المسلّح لتمويل هجماتهم الثّوريّة. وقد وجدت الشّرطة من الأدلّة والقرائن ما دلّ على مشاركتهما في الهجوم على مصنعي الأحذية، واتّهامهما بجريمة قتل أمين الخزينة فريدريك بارمنتر  Frederic Parmenter وحارسه الشّخصيّ أليسندرو بيراردالي Alessandro Berardelli. وقبيل تنفيذ حكم الإعدام، اعترف سيلستينو ماديروس Celestino Madeiros، وهو في سجنه في نوفمبر 1925، أنّه المسؤول، مع أفراد عصابته، عمّا حدث من جرائم في هجومهم على مصنع ساوث براينتري. ولكنّ القاضي وبستر ثاير Webster Thayer الّذي عرف بكراهيته للإيطاليّين والفوضويّين رفض فتح ملف قضيّة ساكو وفنزاتي من جديد رغم الضّغط الدّوليّ الّذي تسبّب في تأجيل تنفيذ عقوبة الإعدام عدّة مرّات. وفي 23 أغسطس 1977، أي بعد خمسين سنة بالضّبط من تاريخ إعدام ساكو وفنزاتي، يبرّئ حاكم ولاية ماساشويتس Massachusetts مايكل دوكاكيس Michael Dukakis ساحة الرّجلين من كلّ ما ألحق باسميهما من التّهم إلى الأبد. خلود فني أدبي لماذا نستحضر هذه القضيّة الشّهيرة الّتي تقادم عهدها كثيرا، وكان بالإمكان أن يطويها النّسيان كغيرها من القضايا الشّبيهة بها؟ السّبب بسيط، وهو أنّ هذه القضيّة قد خلّدها الفنّ والأدب. فقد كتب الشّاعر الفرنسي لوي آراغون Louis Aragon قصيدة عن ساكو وفنزاتي عنوانها «في مرفأ ديابي» Sur le port de Dieppe، قصّ فيها خيبته من مظاهرة فاشلة في ديابي (مدينة ساحليّة بشمال شرق فرنسا) لم يشارك فيها إلاّ القليل من النّاس. وقد لحّنها الفنّان مارك أوجراي Marc Ogeret في أغنية عنوانها «يوم ساكو – فنزاتي»، Le jour de Sacco-Vanzetti. وفي سنة 1966 ابتدع الفنّان آرمان قاتي Armand Gatti مسرحيّة غنائيّة عنوانها «غناء عامّ أمام مقعديْن كهربائيَّيْن» كان لها الفضل في إضفاء بعد كونيّ على نضال ساكو وفنزاتي. وفي نفس السّياق كتبت الفنّانة الأميركيّة جوان بايز Joan Baez، سنة 1970 أغنية عنوانها «[هذه الأغنية] إليكما»، «Here›s to you» تقول كلماتها: «إليكما يا نيكولا ويا بارت/ فلتبقيا في قلوبنا إلى الأبد/ هذه اللّحظة الأخيرة هي لكما/ هذا الاحتضار هو نصركما». وهي مستوحاة من الكلمات الّتي قالها فانزاتي للقاضي وبستر ثاير: «إن لم يحدث ما حدث لأمضيت حياتي كلّها في زوايا الشّوارع أكلّم أناسا تزدريهم العين. كان يمكن أن أموت نكرة مجهولا فاشلا. هذا دربنا، هذا نصرنا. لم آمل يوما طوال حياتي أن نقدّم للتّسامح والعدالة وتفاهم النّاس ما قدّمناه اليوم بالصّدفة. كلماتنا، حياتنا، آلامنا ليست شيئا يذكر. ولكن متى يقبض على حياتنا، حياة إسكافيّ طيّب، وحياة بائع أسماك، فذاك هو كلّ شيء. هذه اللّحظة هي لحظتنا، هذا الاحتضار هو نصرنا». وقد لحّن هذه الأغنية الموسيقار الإيطالي الشّهير آنيو مورّيكوني Ennio Morricone، وجعلها مقدّمة لفيلم «ساكو وفانزاتي»، الّذي أخرجه جيوليانو مونتالدو. وقد اشتهرت هذه الأغنية كثيرا في الولايات المتّحدة الأميركيّة حتّى صارت نشيدا لحركة الحقوق المدنيّة طوال السّبعينيّات من القرن العشرين. وفي سنة 1971 أعاد الفنّان الفرنسي اليونانيّ الأصل جورج موستاكي Georges Moustaki أداء هذه الأغنية بعنوان آخر «مسيرة ساكو فنزاتي»، La marche de Sacco et Vanzetti. ولم يتخلّف الفنّ التّشكيليّ عن تخليد ذكرى الرّجلين، فقد ابتدع الفنّان الأميركي، الرّوسي الأصل، بان شان Ben Shahn جداريّة من الفسيفساء كان موضوعها «قضيّة ساكو وفنزاتي» نجدها في بعض جدران جامعة ساراكوزا. تلازم الموت والأدب.. فرية لماذا خلّد الأدب والفنّ هذه القضيّة؟ يجيبنا الفيلسوف جاك دريدا في درس من دروس ندوته «عقوبة الموت» (1999-2000، و2000-2001) الّتي قدّمها في المدرسة العليا للعلوم الإنسانيّة بباريس بأنّ عقوبة الموت بدأت مع الأدب. ولا يرجع ذلك إلى أنّنا نجد مواضيع من قبيل «الأدب والموت»، أو «الأدب والحقّ في الموت» (موريس بلانشو)، أو لأنّنا نجد آثارا عديدة تصوّر الجريمة والعقاب كرواية ألبير كامو «الغريب» فحسب، وإنّما يرجع ذلك إلى أنّ تاريخ الأدب وتاريخ عقوبة الموت مترابطان، بل متلازمان بوجه مّا من الوجوه. وقد صاغ دريدا هذه الفرضيّة على نحو آخر لمّا ذهب إلى أنّ إمكان وجود قطاع الأدب، بجميع الأعمال الملحميّة والشّعريّة الّتي تكوّنه، أو «الآداب الجميلة»، قد تلازم مع شرعيّة عقوبة الموت وقانونيتها، إنّما هو معطى خال من الصّحّة. ذلك أنّ تاريخ مؤسّسة الأدب الحديثة في أوروبا قد كانت طيلة القرون الأربعة الأخيرة غير منفصلة عن كلّ مناهضة لعقوبة الموت، ومعاصرة لكلّ صراع يبغي إلغاء هذه العقوبة، وملازمة لـ «لأدب والحقّ» أو «الحقّ والأدب». ولا تحتاج هذه الفرضيّة كثيرا إلى ما يدعّمها لأنّها تجد في الخطابات البليغة المقنعة المنادية بإلغاء عقوبة الموت، تلك الّتي كتبها مؤلّفون وشعراء كبار من قامة بارسي شالي Percy Shelley وفيكتور هيغو، وكامو (الّذي كتب صفحات رهيبة عن عقوبة الموت في مقالة: «تأمّلات في المقصلة»)، وجون جينيه Jean Genet وغيرهم، ما يكوّن حداثة الأدب ويمثّلها، رغم أنّ الشّاعر وردزورث Wordsworth قد كتب من أجل إقرار عقوبة الموت. فجون جينيه على سبيل المثال، هذا الشّاعر والكاتب المسرحيّ، والصّحفيّ، الّذي كتب أروع نصّ «أربع ساعات في شاتيلا» عن مذبحة صبرا وشاتيلا، يظلّ أعظم شاهد على عصره، أو على ما جدّ في مسرح عصره من جرائم، خاصّة تلك الجريمة القانونيّة الّتي تسمّى تنفيذ عقوبة الموت. فالآلة الّتي تنفّذ حكم الإعدام لا تختلف عنده عن آلة الجريمة، معتبرا أنّ تنفيذ عقوبة الموت، إنّما هو نوع آخر من الجرائم. وهذا الموقف مبدئيّ عند جون جينيه، لم يتغيّر منذ كتابته رواية «نوتردام دي فلور»، Notre-Dame-des-Fleurs، الّتي صدرت سنة 1942، وكان بطلُها الخياليُّ رجلا حُكِم عليه بالإعدام، يُدعى «فايدمان». وهي تفتتح بالعبارة التالية: «ظهر لكم «فايدمان» في نشرة السّاعة الخامسة، ملفوف الرّأس بضمائد بيضاء...». وتضفي هذه الضّمائد البيضاء مسحة دينيّة مسيحيّة على وجه «فايدمان» تقرّبه إلى وجوه الشّهداء والأبطال والقدّيسين الّتي تَفْتننا وجوههم المتألّمة بوصفها تكرارا لطراز مقدّس من الآلام هي «آلام المسيح». فهذه الضّمائد الملتفّة برأس «فايدمان» تذكّر فعلا بضمائد يسوع وأكفانه بعد أن أسلم الرّوح وحُمل ليكفّن على عادة اليهود آنذاك. يؤكّد ذلك ما جاء في الإنجيل، حسب البشير يوحنّا، أنّ بِيلاَطُسَ ونِيقُودِيمُوسَ قد جاءا، «فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ الأَطْيَابِ كَمَا لِلْيَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا.» (الإصحاح 19,40). فالأكفان هي قرينة على موت يَسُوع ونهاية آلامه. غير أنّ مريم المجدليّة لمّا جاءت لتبكي سيّدها وجدت القبر مفتوحا، فذهبت «إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ» وأخبرتهما بأنّ السّيّد المسيح قد اختفى من القبر. «فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ. وَكَانَ الاِثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ. وَنْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَلْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الأَكْفَانِ بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ.» (الإصحاح 20,3-7). فانفصال الأكفان عن جسد يَسُوع الّذي اختفى يدلّ على أنّ هذا الميّت الّذي كُفّن ودُفِن إنّما صار في عداد من اختفى، فبات من المفقودين. فالأكفان الموضوعة تدلّ على أنّ الميّت ليس في قبره لأنّه خارج القبر. ولذلك صار ألم فراقه لا يُعزّى ولا يخفّف بالبكاء، فاستحال بذلك عمل الحداد. والحقّ أنّ «فايدمان»، أو «أوجين فايدمان» Eugène Weidmann هذا، ليس شخصيّة خياليّة روائيّة، وإنّما هو في الأصل شخص حقيقيّ قد سجّل التّاريخ أنّه آخر من أعدم بالمقصلة، بقطع الرّأس، على نحو علنيّ عموميّ بفرنسا. فقد نفّذ فيه حكم الإعدام يوم 17 حزيران 1939 بفرساي. وقد ظهرت صورته من غد وهو ملفوف الرّأس بالضّمائد البيضاء في كامل الصّحف الفرنسيّة، وحتّى الجزائريّة منها، كصحيفة «صدى الجزائر»، L’Echo d’Alger. وهو ما يؤكّد أنّ عقوبة الموت كانت مشهدا مبذولا للفرجة العموميّة، قبل أن تختفي وتنفّذ داخل السّجون. فلا وجود لعقوبة الموت دون «ظواهريّة» تُبرزها وتجعلها مرئيّة بادية للعيان حيث يُخرج الموتُ على نحو طقوسيّ مُمَسْرَحٍ. ينبغي أن نقرأ الصّفحات الأولى الطّويلة من كتاب ميشال فوكو «المراقبة والمعاقبة، ولادة السّجن» حيث يصف أبشع أنواع التّعذيب الّتي سلّطت على «داميان» Damiens، الّذي حكم عليه بالموت بتعذيبه وتمزيق أوصاله يوم 2 مارس 1757. إنّ كتاب فوكو لم يُصرف لعقوبة الموت في حدّ ذاتها، وإنّما اعتنى بالتّحوّلات التّاريخيّة المتعلّقة بمشهديّة الموت وعرضها الممسرح لمشاهد التّعذيب والعقاب. فعنوان «المراقبة والمعاقبة» يصبح في هذه الصّفحات المذهلة «مراقبة العقاب»، أو معاينة العقاب، الّتي تعني أيضا الحقّ في رؤية العقاب وهو ينفّذ في مسرح القسوة. وهو مسرح يسحر العين ويأسرها لأنّه يشدّها شدّا بوثاق إلى مشهد لا فكاك لها منه حين يعرض على نحو مُجَلّل بالقداسة الدّينيّة سقوط الرّأس منفصلا عن الجسد المعذّب. عولمة العقاب من «داميان» إلى «فايدمان» مسافة زمنيّة هائلة من التّحوّلات طرأت على مسرح العقاب، الّذي اتّسع لمّا صار عالميّا بعد أن كان عموميّا فحسب. فحين تظهر صورة «فايدمان» المُعاقب بالموت على صفحات الجرائد وتوزّع على نطاق واسع عابر للبلدان فذلك يعني أنّ مسرح العقاب قد صار عالميّا لمّا تضامن الإعلام والمسرح، لجعل عقوبة الموت عالميّة منتشرة، بفضل صورة الميّت، في كلّ الأمكنة، تُرى في كلّ الأصقاع. فعقوبة الموت القانونيّة لا يمكنها أن تكون سرّيّة وغير مرئيّة، لأنّه ينبغي أن تكون مبذولة للعيان في مشهد من الفرجة العموميّة، حتّى تتلقّى هذه العقوبة شهادة الأشهاد (أو المتفرّجين) الّذين رأوا الموت قد نزل. ذلك أنّه من الضّروريّ أن يروا المتّهم وهو يموت. فبواسطة ذلك المشهد تريد الدّولة أن ترى المتّهم يموت، بل يجب أن تراه يموت حتّى تكون شاهدا على تنفيذ العقوبة، وشاهدا في الآن نفسه على نفوذها ونفاذ سلطانها. إنّ «ساكو وفنزاتي» أو «أوجين فايدمان»، أو التّونسيّ حميدة الجندوبي، وهو آخر إنسان نُفّذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة في فرنسا (10 سبتمبر 1977)، أو جوليوس روزنبارغ Julius Rosenberg وزوجته إيثال روزنبارغ Ethel Rosenberg، الأميركيّين المتّهمين بشبهة التّجسّس لفائدة الرّوس، إنّما هي في النّهاية أسماء قد اشتهرت في تاريخ عقوبة الموت، بل هي حالات متشابهة من فيلق الموتى بقرار قانونيّ. وقد اختار منها دريدا في ندوته أربعة أسماء اعتبرها حالات أنموذجيّة هي: سقراط، ويَسُوع، والحلاّج (922م)، وجان دارك (1431). ولعلّ القاسم المشترك بينها هو إضفاؤها على عقوبة الموت دلالةً ذات طابع لاهوتيّ سياسيّ. ولكنّها رغم ذلك تظلّ حالات قضائيّة، لأنّ ما عجّل بعقوبة موتها صلبا أو حرقا أو غير ذلك من تقنيات الموت هو محاكمة تمثّل في النّهاية القانون المطلق الّذي ينهض على عقوبة الموت، والتّهديد بالموت لكلّ من يقتل نفسا دون حقّ على غرار ما جاء في الكتب المقدّسة. فالأصل في عقوبة الموت بوصفها أصلا من أصول العقد الاجتماعيّ هو منع القتل وحظره، كأنّ هذا المنع يستند إلى ما جاء في العهد القديم، في الوصيّة السّادسة «لاَ تَقْتُلْ» (سفر الخروج، الإصحاح 20,13). ولكنّه ليس منعا بصفة مطلقة، وإنّما هو منع لصيغة معيّنة من الموت، ذكرت بوضوح في القرآن الكريم «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» (الإسراء، الآية33). فالصّيغة الأولى تمنع القتل مطلقا «لاَ تَقْتُلْ»، أمّا الصّيغة الثّانية فتبيحه بالقانون «بِالْحَقِّ». فالقانون يعاقب كلّ من انتهك الوصيّة الإلهيّة (السّادسة): «لاَ تَقْتُلْ» بعقوبة الموت قتلا: «مَنْ ضَرَبَ إِنْسَانًا فَمَاتَ يُقْتَلُ قَتْلاً»، (سفر الخروج، الإصحاح21,12). ولكن ماذا يحدث عندما تنتهك بقيّة الوصايا، خاصّة الوصيّة الأولى: «لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي.»، «لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ» (سفر الخروج، الإصحاح 20,3و5)؟ ينبغي أن نذكّر بأنّ سقراط، ويَسُوع، والحلاّج، وجان دارك، لم يتّهموا باقترافهم جرائم قتل، وإنّما بتهمة الهرطقة الدّينيّة، أي امتلاك حقيقة أخرى تخالف الحقيقة الرّسميّة الّتي تفرضها الدّولة وتحميها بمؤسّسات الدّين والسّياسة. فسقراط، على سبيل المثال، قد اُتّهم بإفساد عقول الشّباب وعدم تقديس آلهة المدينة، وتعويضها بآلهة أخرى دونها قيمة. فالاتّهام في جوهره لاهوتيّ لأنّه هرطقة فيها ازدراء كبير لآلهة المدينة، فحكم عليه بشرب السّمّ. وقس على ذلك بقيّة الحالات الأنموذجيّة. فيسوع قد قتله اليهود لأنّه خرج عن دينهم فلم يقدّس يوم السّبت وادّعى أنّه ابن الله: «فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ» (الإنجيل حسب البشير يوحنّا، الإصحاح5,18). أمّا الحلاّج فقد ادّعى الرّبوبيّة وحلول الله فيه، أو حلول اللاّهوت في النّاسوت، في قول شهير ينسب إليه: «أنا الحقّ». وبسبب ذلك أمر الخليفة العباسي المقتدر بالله وزيره حامد بن عبّاس بقتله وضرب عنقه وتقطيع أوصاله وحرق جثّته بعد محاكمته وثبوت تهمة الزّندقة عليه. أمّا جان دارك فقد قتلها الإنقليز حرقا لا بسبب سماعها أصواتا سماويّة ولا بسبب الهرطقة، فهذه التّهمة لا تكفي في نظر المحكمة الإكلوريسيّة لإصدار عقوبة الموت عليها، وإنّما بجرم الرّدّة، أو ما يسمّى « relaps» ويعني نكث العهد الّذي قطعه المتّهم على نفسه بعدم العودة إلى الهرطقة ثانية. فهذا الجرم يعاقب مقترفه بالموت. وبهذه النّهاية الفاجعة تشابهت الحالات الأربع في المصائر، ولكنّها رسمت جميعا مسارا متشابها كان يبدأ دائما بتظلّم بعض الجماعات أو الأفراد ممّا يجري من خروج عن الدّين القويم، ثمّ يتبع باتّهام لشخص (سقراط أو يسوع...)، فتأثيمه بسبب شتمه الآلهة المعبودة، أو تحطيم أوثانها (شأن النّبيّ إبراهيم)، ثمّ تجريمه من قبل هيئة دينيّة، تعضدها سلطة سياسيّة تجسّم بتضامنها ذاك سيادتها على الأرواح والأجساد. وهي سيادة لا تتحقّق في واقع الأمر إلاّ بتحكّمها في حياة رعاياها وموتهم. فجوهر أيّ سلطان سياسيّ، وكنه كلّ سيادة ذات طابع لاهوتيّ سياسيّ، إنّما يتجسّم في تمثيل من يحقّ له أن يصدع، بحكم الإعدام، ومن يقرّر تنفيذ عقوبة الموت، ويحقّ له، في الآن نفسه، أن يعفو (بعفو ملكيّ أو رئاسيّ...)، أو يصفح على نحو اعتباطيّ، ويعطّل كلّ حكم وعقاب. ففي أفق عقوبة الموت يمكن أن نكتب تاريخ السّلطان السّياسيّ وتضامنه التّاريخيّ مع اللاّهوت السّياسيّ. حماية السلطان في هذا الأفق يمكن أن نعتبر عقوبة الموت مساهمة في صنع غيريّات جديدة كلّما قرّر الآخر (الملك أو رئيس الدّولة، أو أمير، أو إمام، أو شيخ، أو قائد، أو طائفة أو حركة دينيّة أو ثوريّة، أو حزب، أو ديوان كديوان الزّندقة أو ديوان التّفتيش، أو محكمة) بحكم أو بفتوى أو بأمر، وضع نهاية لحياة بشريّة. هذه النّهاية الّتي يقرّرها الآخر لا تصدر إلاّ من الآخر لتجعل من إنسان حيّ كائنا مختلفا عنّا هو المحكوم عليه بالإعدام. هذا الإنسان قد أضحى بمجرّد إصدار الحكم كائنا بين الحياة والموت، أو هو يتهيّأ للانتقال إلى دائرة أخرى يسكنها الموتى، يتحكّم في إدارتها من يمتلك حقّ الموت، أي ذاك الّذي يسيطر على قرار الموت، وحقّ إصدار قرار الموت. وهو حقّ تحتكره الدّولة ولا ينازعها في امتلاكه أحد، وتعاقب بالموت (أو بعقوبات أخرى) كلّ من يتمتّع بهذا الحقّ على نحو غير شرعيّ ويمارسه في شكل جريمة مرتّبة التّفاصيل أو اغتيال محكم التّدبير. إنّ أيّ قرار يضع حدّا لحياة بشريّة هو قرار يتمتّع بسيادة مّا، ولكنّه قرار يصدر دائما من الآخر ويسمّى بتسميات كثيرة بلغات شتّى، هي «عقوبة الموت» أو «حكم الإعدام»، «La peine de mort» (بالفرنسيّة)، «Death penality» (بالإنجليزيّة)، «Todesstrafe» (بالألمانيّة)... وتنفّذ بتقنيات مختلفة أكثرها انتشارا وشهرة «ضرب العنق» أو قطع الرّأس بالسّيف أو المقصلة أو أيّ آلة أخرى. وحين يكون تنفيذ عقوبة الإعدام بقطع الرّأس تسمّى هذه العقوبة في اللّسان الفرنسي «La peine capitale»، أي العقوبة الّتي تكلّف المتّهم، المحكوم عليه بالموت، ثمنا باهظا هو: رأسه. فجسد بلا رأس، أو رأس دون جسد إنّما هي عبارة تصف الجسد الحيّ وهو يسقط ليصبح جثّة، ويتهيّأ ليفقد شخصه أو سواد ظلّه إلى الأبد. أليس الشّخص هو «سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد» (لسان العرب)؟ فيلق الموتى إنّ «ساكو وفنزاتي» أو «أوجين فايدمان»، أو التّونسيّ حميدة الجندوبي، وهو آخر إنسان نُفّذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة في فرنسا (10 سبتمبر 1977)، أو جوليوس روزنبارغ وزوجته إيثال روزنبارغ، الأميركيّين المتّهمين بشبهة التّجسّس لفائدة الرّوس، إنّما هي في النّهاية أسماء قد اشتهرت في تاريخ عقوبة الموت، بل هي حالات متشابهة من فيلق الموتى بقرار قانونيّ. وقد اختار منها دريدا في ندوته أربعة أسماء اعتبرها حالات أنموذجيّة هي: سقراط، ويَسُوع، والحلاّج (922م)، وجان دارك (1431). مراقبة العقاب! يصف ميشال فوكو في «المراقبة والمعاقبة، ولادة السّجن» أبشع أنواع التّعذيب الّتي سلّطت على «داميان»، الّذي حكم عليه بالموت بتعذيبه وتمزيق أوصاله يوم 2 مارس 1757. بيد أن كتاب فوكو لم يُصرف لعقوبة الموت في حدّ ذاتها، وإنّما اعتنى بالتّحوّلات التّاريخيّة المتعلّقة بمشهديّة الموت وعرضها الممسرح لمشاهد التّعذيب والعقاب. فعنوان «المراقبة والمعاقبة» يصبح في هذه الصّفحات المذهلة «مراقبة العقاب»، أو معاينة العقاب، الّتي تعني أيضا الحقّ في رؤية العقاب وهو ينفّذ في مسرح القسوة. وهو مسرح يسحر العين ويأسرها لأنّه يشدّها شدّا بوثاق إلى مشهد لا فكاك لها منه حين يعرض على نحو مُجَلّل بالقداسة الدّينيّة سقوط الرّأس منفصلا عن الجسد المعذّب. عقوبة الموت.. جريمة كبار الكتاب والأدباء نادوا بإلغاء عقوبة الموت مثل بارسي شالي وفيكتور هيغو، وكامو (الّذي كتب صفحات رهيبة عن عقوبة الموت في مقالة: «تأمّلات في المقصلة»)، وجون جينيه وغيرهم، ما يكوّن حداثة الأدب ويمثّلها. فجون جينيه على سبيل المثال، هذا الشّاعر والكاتب المسرحيّ، والصّحفيّ، الّذي كتب أروع نصّ: «أربع ساعات في شاتيلا» عن مذبحة صبرا وشاتيلا، يظلّ أعظم شاهد على عصره، أو على ما جدّ في مسرح عصره من جرائم، خاصّة تلك الجريمة القانونيّة الّتي تسمّى تنفيذ عقوبة الموت. فالآلة الّتي تنفّذ حكم الإعدام لا تختلف عنده عن آلة الجريمة، معتبرا أنّ تنفيذ عقوبة الموت، إنّما هو نوع آخر من الجرائم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©