الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المستقبل على كفّ عفريت العولمة!

المستقبل على كفّ عفريت العولمة!
20 ابريل 2017 16:04
«حتى المستقبل لم يعد كما كان»؛ هذه القولة لفاليري اختطفتها ألسن كثيرة وسافرت في قلوب الكتّاب والمفكّرين بعيداً. ولأنّ المستقبل لم يعد كما كان، ولأنّه لم يكن يوماً كما كان، يحذّرنا بول فاليري، الكاتب والشاعر الفرنسي المعاصر (1871-1945)، من الدخول في المستقبل بخطوات تمشي نحو الوراء. بحيث يعترف هذا الشاعر بأنّه ليس من عشّاق الماضي ولا من محبّي الذكريات ولا من الباحثين عن الزمن الضائع. ربّما لأنّ الإدمان على الماضي يعطّل إمكانية المستقبل، أو لأنّ المستقبل لا يأتي أبداً من الماضي، أو لأنّه لا ينبغي أن يتواصل الماضي بأيّ شكل، وذلك لفظاعته. فالماضي الذي يقصده فاليري هو واقع الحربين العالميتين بكلّ الفظاعات والآلام المخزّنة في تلك القطعة الدموية من تاريخ الإنسانية. لذلك كان يصعب عليه تخيّل وجه المستقبل وهو ما عبّر عنه في أسف شديد بقوله «واأسفاه..لم يحدث أبداً أن كان المستقبل صعب التخيّل كما هو اليوم». وذلك لأنّ الإنسانية الحاليّة قد دخلت حقبة تاريخيّة حيث يحتدّ «الصراع بلا أفق بين أشياء لا تتقن الموت وأخرى لا تستطيع الحياة». ما هو وقع هذا التشخيص لفكرة المستقبل علينا اليوم، نحن أبناء العولمة الذين يتأرجحون بين الموت والحياة كلّ يوم، حيث أصيب العالم بضرب من الوهن الايكولوجي والإنسان بضرب من الهشاشة الميتافيزيقية، وصارت بعض شعوب العالم هائمة على وجهها تبحث عن أرض هادئة وعن سماء رحيمة..؟ ومن أيّة جهة سيأتي المستقبل إلى ديارنا كأكثر مساكن الكينونة ضرراً في العالم؟ أم أنّ ليس ثمّة مستقبل في انتظارنا؟ وماذا نفعل بالماضي؟ هل بوسعنا أن نلقي به في سلّة مهملات التاريخ أم علينا تأويله بما يجعله قادراً على معاصرة أحلامنا؟ نيغري المفكّر الإيطالي المعاصر يقول «نحن نعاني من المستقبل» وكاتب فرنسي آخر يقول «إنّ المستقبل ملك لمن هو جدير به». فهل نحن نعاني من المستقبل من هول ما يعد به، أم أنّنا لسنا جديرين به ؟ وربّما يكون برغسون على حقّ أيضاً حينما قال «إنّ فكرة المستقبل أكثر خصوبة من المستقبل نفسه». وفي الحقيقة، بوسعنا القول العقل البشري المعاصر قد تفنّن في نسج سرديات مختلفة عن المستقبل، تراوحت بين فكرة التقدّم وفكرة الكارثة، وهو ما نلتقطه في كتاب للمفكّر الفرنسي إدغار موران تحت عنوان «التفكير بالمعولم» (1) سنحاول عرضها في هذا المقال في ستّ لحظات عاجلة : المستقبل هو التقدّم هذه الفكرة سادت منذ القرن الثامن عشر مع فلسفة التنوير الفرنسية والألمانية وصلب حركة فكرية واسعة النطاق بعامّة شملت الفنون والفلسفة والعلوم وازدهرت بأوروبّا ما بين 1715 و1789 على وجه الخصوص. ولقد وجدت هذه الحركة التنويرية في مفهوم التقدّم الأخلاقي الذي صاغه الفيلسوف الألماني المشهور إيمانويل كانط براديغما عامّا وفي مقالة «ما هو التنوير» لنفس الفيلسوف (1784) شعارها الدقيق وهو «تجرّأ على استعمال عقلك». ومن ثمّة انتشر مفهوم التقدّم في المجال العلمي والتكنولوجي وصار هو التعريف الجوهري لمفهوم المستقبل مثلما استبشر به العقل الحديث الذي نجح في تحرير الإنسانية من عصور الظلام وغطرسة الكنائس واستبداد الأباطرة، لكنّ هذا التعريف لمفهوم المستقبل قد عرف انتكاسات عديدة مع الحربين العالميّتين وتحوّل التقدّم التكنولوجيّ في مجال صناعة الأسلحة بخاصّة إلى كوارث مدمّرة للإنسانية. مما جعل التفكير بالمستقبل في ستّينيات القرن الماضي يقترن بمفهوم الكارثة مع ثلّة من المفكّرين الكبار من جنس فالتر بنيامين وليفيناس ودريدا الذين دقّوا نواقيس الخطر وأعلنوا أنّ العالم ينحدر نحو ضرب من الحداد على المستقبل نفسه. أطروحة نهاية التاريخ وهي أطروحة نعثر عليها في كتاب فرنسيس فوكوياما (2) «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، الذي يقترح فيه تحليلاً مثيراً للسياسة العالمية الحالية انطلاقا من مفهوم أساسي التقطه لدى الفيلسوف الألماني هيغل، هو مفهوم نهاية التاريخ. والمقصود بهكذا مفهوم هو انتصار الديمقراطية الليبيرالية والنموذج الليبيرالي الاقتصادي الحالي بوصفه الأفق الوحيد للإنسانية الحالية والمعنى النهائي للمستقبل معا. ونهاية التاريخ عنده تقترن بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، بما أدّى إلى انتصار الليبيرالية نهائيا على كلّ أشكال الإيديولوجيا السياسيّة الأخرى. ويرى إدغار موران في أطروحة نهاية التاريخ خطراً حقيقاً على فكرة المستقبل نفسها. وذلك أنّ «نهاية التاريخ» تغلّق باب التفكير بالمستقبل نفسه، لأنّها تفيد بأنّه لم يعد بوسع الجنس البشريّ أن يخترع أيّ شيء جديد، ولن يكون لنا إذن أيّ شكل من الحقيقة المغايرة لليبيرالية، سواء تعلّق الأمر بحقيقة سوسيولوجية أو اقتصاديّة أو بشريّة. وبالرغم من أنّه قد تحدث لنا صراعات عرضية أو حروب أو حتى ثورات، لكن لن يكون بوسع النوع البشري أن ينتظر ما هو أفضل من الوضع الليبيرالي الراهن، بوصفه قد صار ضرباً من القدر. صراع الحضارات وهي طريقة أخرى في حكي تاريخ المستقبل نعثر عليها في كتاب صموئيل هنتنغتون «صدام الحضارات وإعادة تأسيس النظام العالمي» (3 ) وهو كتاب يقترح فيه هنتنغتون ترسانة مفهوميّة جديدة من أجل تفسير العلاقات الدولية الحاليّة بعد انهيار الاتحاد السوفييتيّ في نهاية ثمانينات القرن العشرين. وتقوم أطروحته على القول بضرب من الصدام الديني بين الحضارات ضمن نوع من التأويل الجيوسياسي للمشهد العالمي. وذلك أنّ العالم قد صار ينقسم عنده إلى حضارات كبرى دخلت في حقبة جديدة للسياسة المعولمة. وقد اعتبرت فكرة صدام الحضارات براديغما سياسياً جديداً لكل ما يحدث وما سيحدث في المستقبل وكأنّما الإنسانية لن تنجو من هذا الصدام بين الديانات والهويات والحضارات، ممّ أثار العديد من السجالات والنقاشات الحادّة لهذه الفكرة. وقد ذهب ادغار موران إلى اعتبار هذه الطريقة في سرد المستقبل طريقة مشطّة وخطيرة أيضاً مثل فكرة نهاية التاريخ تماماً. وفي هذا المعنى كتب في كتابه المذكور أعلاه ما يلي: «إنّه بقدر ما نعتقد في صدام الحضارات بقدر ما نتّخذ إجراءات سياسية وعسكرية من أجل مواجهة هذا الصراع الحاسم. وبالمثل بقدر ما نعتقد في نهاية التاريخ، بقدر ما نعتقد أنّه لن يكون بوسعنا أن نجد أيّ شيء خارج الديمقراطية البرلمانية والاقتصاد الليبيرالي، وبالتالي لن نذهب للبحث عن حلول من نمط مغاير. وهكذا سوف يرهن الحاضر المستقبل». (ص.93). الأزمة الأيكولوجيّة تتمثّل هذه الأزمة في الضرر الذي أصاب الطبيعة وكوكب الأرض عموماً من جرّاء التلوّث والتجارب النوويّة والتضخّم السكّاني والحروب المتتالية والاحتباس الحراريّ ...كلّ هذه العوامل جعلت فكرة المستقبل تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى فكرة هشّة ومقلقة إلى حدّ اقترنت فيه بمفهوم الكارثة والقيامة ونهاية العالم..ولقد وجدت هذه الأزمة الإيكولوجية صياغتها الفلسفية العميقة ضمن كتاب للفيلسوف الألماني المعاصر هانس جوناس تحت عنوان «مبدأ المسؤوليّة» 4 . وهو كتاب يشخّص فيه صاحبه الملامح الأساسيّة للأزمة الأيكولوجية ومخاطرها على إمكانية الحياة على الأرض في المستقبل. وهو ما جعله يقترح ضرورة التفكير بإتيقا كفيلة بتوجيه الإنسانية الحالية الوجهة الكفيلة بضمان شروط إمكان مستقبل الأرض بما هي مسكن الكينونة بالنسبة للإنسانية برمّتها. وتقوم هذه الإتيقا على المسؤوليّة الأخلاقية تجاه العالم، وتجد في المبدأ التالي رهانها الرئيس:» أنّ إنسانيّة ما ينبغي أن تكون» وهو مطلب لا يستقيم إلاّ متى كانت كلّ أفعال البشر قائمة على الأمر القطعي التالي: « أعمل على نحو تكون فيه نتائج عملك متلائمة مع استمرارية حياة بشرية أصيلة على الأرض». حلم الخلود يكمن هذا الحلم بالخلود في كلّ أشكال التكنولوجيا الطبية والبيولوجيّة التي تهدف إلى تأجيل الشيخوخة ومقاومتها، وارتفاع الأمل في الحياة، وذلك من خلال زرع الأعضاء أو استبدالها أو خلقها، أو عمليات التجميل بأنواعها. وهو ما تقوم به العلوم البيولوجية من خلال أشكال التقدّم المذهل الذي تحققه كل يوم إلى حدّ لا أحد بوسعه توقّع نتائجه الإتيقية على مفهوم الحياة نفسها، وعلى مستقبل الجهاز العضوي في ظلّ إمكانية التغييرات الجينيّة، ومستقبل مناعة أجسادنا الحالية في ظلّ ظهور فيروسات وبكتيريات تستعصي أحيانا على وسائل الطبّ وعلاجاته. ورغم جمال حلم الخلود فإنّه لن يكون بوسعنا أن نفلت من الموت. وهو ما عبّر عنه ادغار موران قائلًا :» إنّ الوجود البشري سوف يبقى دوماً وجوداً هشّاً..وإنّه لن يكون بوسعنا أبدا التخلّص من كلّ المخاطر القاتلة، وإنّي أقول بالأحرى أنّ الخوف من الموت سوف يكون أكثر شدّة..»(ص.105) تكنولوجيا الربوتات يتعلّق الأمر بتكنولوجيا الآلات الذكيّة والشقق الذكيّة والمدن الذكيّة التي تسيّرها الربوتات. وإزاء التقدّم المذهل لهذه التكنولوجيا التي تعدنا بمستقبل مغاير، نجد أنفسنا أمام المفارقة التالية: من جهة تصلح هذه التكنولوجيا لتحرير البشر من الكثير من الأعمال الشاقة والمضنية، لكنّها من جهة أخرى تثير الكثير من الأسئلة خاصة على المستوى الإتيقي. وفي هذا العصر الذي تدخل فيه الإنسانية حقبة الذكاء الصناعي، يبقى السؤال الكبير هو التالي: هل يمكن للآلة أن تفكّر؟ وهو سؤال اشتغلت عليه الكثير من أفلام الخيال العلمي، من قبيل فيلم ماتريكس، الذي يقوم على فكرة آلة كبيرة تسيّر البشر، في حين أنّهم يتخيّلون أنّهم أحرارا. وإنّ هذا النوع من أفلام المستقبل إنّما ينذر الإنسانيّة بخطر تكنولوجيات الآلات الذكيّة الفائقة التي نعتقد أنّنا نسيطر عليها في حين أنّ العكس قد يكون هو الصحيح. هكذا تحدث سرديات المستقبل اليوم وهكذا يقع كتابة تاريخ هذا المستقبل: منذ التقدّم التنويري إلى الكارثة ما بعد الحديثة، مروراً باستعارة هيدغر الرومنسيّة «وحده إله بوسعه أن يسعفنا». لكن رغم ذلك، ربّما لا أحد بوسعه التنبّؤ بما سيكون عليه هذا المستقبل، لأنّه إنّما يأتي دوما من الجهة التي قد لا نتوقّعها. فقد تظهر عقائد جديدة أو حتى أديان جديدة، وقد تظهر أيضاً إبداعات ثوريّة أفضل. وفي كلّ الحالات يبدو أنّ الإنسانية الحالية قد دخلت بعدُ فيما يسمّيه الخبراء بمجتمعات المخاطرة (5) والمغامرة المجهولة التي تجد في قولة أحد الشعراء المعاصرين استعارتها العميقة « حيثما تبحث عن الهند، تعثر على أمريكا». وصفوة القول، إنّ هذه التحوّلات البيولوجيّة والتكنولوجيّة والرقميّة التي تعيشها الإنسانيّة الحاليّة تقتضي أن تصاحبها تحوّلات ثقافية واجتماعية عميقة. بحيث لا ينبغي إيداع ما تبقى من الإنساني فينا بين أيادي التكنولوجيا والآلات والعلوم بعامّة، لأنّ العلم لا يفكّر. وربّما يتوجّب على الإنسانية الحاليّة السيطرة على أحلامها بحيث بوسعها أن تقترف أخطاء أقلّ فظاعة، وأن تمتلك أوهاماً أقلّ تكاليف. * جامعة تونس خطر روبوتي إزاء التقدّم المذهل لتكنولوجيا الآلات الذكيّة والشقق الذكيّة والمدن الذكيّة التي تسيّرها الربوتات التي تعدنا بمستقبل مغاير، نجد أنفسنا أمام المفارقة التالية: من جهة تصلح هذه التكنولوجيا لتحرير البشر من الكثير من الأعمال الشاقة والمضنية، لكنّها من جهة أخرى تثير الكثير من الأسئلة خاصة على المستوى الإتيقي. وفي هذا العصر الذي تدخل فيه الإنسانية حقبة الذكاء الصناعي، يبقى السؤال الكبير هو التالي: هل يمكن للآلة أن تفكّر؟ وهو سؤال اشتغلت عليه الكثير من أفلام الخيال العلمي، من قبيل فيلم ماتريكس، الذي يقوم على فكرة آلة كبيرة تسيّر البشر، في حين أنّهم يتخيّلون أنّهم أحرار. وإنّ هذا النوع من أفلام المستقبل إنّما ينذر الإنسانيّة بخطر تكنولوجيات الآلات الذكيّة الفائقة التي نعتقد أنّنا نسيطر عليها، في حين أنّ العكس قد يكون هو الصحيح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©