الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القرآن مآزق القراءات الرّاهنة

القرآن مآزق القراءات الرّاهنة
19 ابريل 2017 21:27
لماذا نسمي قراءات القرآن الكريم التي ننوّه بها في هذه الورقة بـ«الرّاهنة»؟ لم لا نسميها بـ«لحديثة»، أو بـ «المعاصرة»، أو حتّى بـ «العصريّة»؟ نسميها بـ«الرّاهنة» تفاديا لأحكام القيمة التي أضحت تزخر بها صفات «الحديثة»، و«المعاصرة» و«العصريّة». بيد أنّ ذلك لا يعني بالضّرورة العزوف عن النّظر في الأحكام الإيديولوجيّة التي تقترن بهذه القراءات، وإنّما يعنينا، أساساً، عدم الانخراط فيها؛ فوصفُها بالقراءات الرّاهنة من شأنه أن يجنّبنا الحكم لها أو عليها إيديولوجيّا، ويوفّر لنا فرصة التّشخيص الموضوعيّ قدر الإمكان. تعدّدت قراءات القرآن الكريم في العقود الأخيرة سواء بالتّركيز عليه مباشرة، أو بعقد قران بينه وبين السّيرة النبويّة. لكنّنا نتخيّر هنا أن نطلّ بضرب من الإيجاز والاجتزاء على قراءة محمّد عابد الجابري التي ضمّها في مؤلّفه الموسوم بـ «مدخل إلى القرآن الكريم» (مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2006)؛ وهي قراءة كان قد نشر، من قبل، بعض فقراتها ومفاصلها في جريدة الاتّحاد. ونأمل أن نعود في مناسبات قريبة إلى غيره من المفكّرين والباحثين سعوا في هذا الاتّجاه قراءة وتأويلا. رُشديّة جديدة قد يردّ بعضهم كتابات محمّد عابد الجابري إلى ما يمكن اعتباره أفق الرّشدية الجديدة؛ لكن لا يتعلّق الأمر في هذه الورقة ببيان أنّه يتّخذ من فلسفة ابن رشد (520 هـ/592 هـ)/ (1126 م/1198م) منهاجاً يقتدي به؛ فكلّ منهما ابن عصره وكلّ منهما تُبسط أمامه معارف ومناهج مختلفة ومحكومة بتأثيرات تاريخيّة وثقافيّة مختلفة. وإنّما قد يجوز الحديث عن هذا النّسب الرّشديّ باعتبار أنّ الرّشديّة تيسّر الاشتغال الفكريّ على الموروث الدّينيّ وعلى بيئته الثّقافيّة؛ فتمثّل عندئذ براديغما (نموذجا تفسيريّا) يمكن أن نقرأ على ضوئه مساهمة محمّد عابد الجابري، وغيره من بعض المفكّرّين والباحثين العرب المعاصرين، في المَباحث الإسلاميّة الحديثة؛ إن تعذّر طبعاً أن نثبت أنّ محمّد عابد الجابري يتّخذ، هو نفسه، من هذه الرّشديّة الجديدة براديغما لما يجريه من تفكير. لكن ما الذي نعنيه بالرّشديّة الجديدة؟ لا نعني، طبعا، الاشتغال على المتن الرّشديّ؛ فذلك ينتسب لا محالة إلى تاريخ الفلسفة؛ ولكن قد يكون من الجائز القول بأنّ الرّشديّة الجديدة هي استئناف النّظر الذي سلّطه ابن رشد على العلاقة بين الشّريعة والحكمة ضمن مشروع فكريّ كان سيفقد الكثير من جدواه لو لم يعمل على فتح طريق أمام الفلسفة حتّى تنفذ إلى الفضاء الثّقافيّ المغربيّ والأندلسيّ؛ وهو ما استوجب منه الاضطلاع بمشروع تصحيحيّ آخر يتولّى تدبّر شأن العقائد من داخلها سعياً إلى مراجعة أحكام المتكّلمين، و»وثوقيّة» أبي حامد الغزالي. ومع ذلك؛ قد سُدّت هذه الطّريق لقرون عقِب ما يعرف بنكبة ابن رشد. ويمكن القول، بشكل تبسيطيّ للتّوضيح ليس إلاّ، بأنّ مشروع محمّد عابد الجابري يظلّ هو أيضاً دونما جدوى ما لم يحرص على إرجاع النّصّ القرآنيّ، المقدَّس، بل مجمل المعتقد الدّينيّ إلى بيئته الثّقافيّة متوسّلا في ذلك بالنّظر التّاريخاني الذي يقدّر، هو نفسه، أنّه تمشٍٍّ عقلانيّ. هذا الرّبط بالرّشديّة ليس من أجل استنساخ ابن رشد جابريّا، وإنّما للقول بأنّ أفق التّفكير في الدّين بمقولات لم تألفها «المؤسّسة التّفسيريّة» ولم يألفها المورث التّفسيريّ والتّأويليّ إنّما هو أفق سبق لابن رشد أن دشّنه منذ تسعة قرون. فالجابري يقرأ النّصّ الدّينيّ أنثروبولوجيّا (على ضوء بيئته الثقافيّة وسياقه التّاريخيّ) لأنّ ما يعنيه ليس إصلاح الدّين، وربّما ليس حتّى إصلاح قراءات الدّين والنّصّ المقدّس، بل تحيين القراءة حتّى تكون متناسبة مع عصره طالما أنّه لا يستطيع، موضوعيّا، أن يكون ابن عصر غير عصره. مآزق جوهريّة لا بدّ، بدءا، من التّذكير بالتّمييز الذي يجريه الجابري بين النّصّ المنزَّل (القرآن المنزّل على النبيّ الكريم) والنّصّ المكتوب (المصحف) حتّى ندرك الزّاوية التي يحاول من خلالها هذا المفكّر/القارئ أن يُحيِّن قراءة القرآن. وهو تمييز يؤاخذه عليه بعض منتقديه بوصفه تمييزاً نادى به بعض المستشرقين ولم ينجحوا في إثبات جدواه لاعتبارات عديدة من بينها خلوّ مدوّنة السّيرة النبويّة من الإلمام بكلّ أسباب النّزول، ومن بينها الأخبار التي تأتي على بعض هذه الأسباب أحاديّة السّرد فلا ترقى إلى مستوى الحجّة الدّامغة (لنا أن نستحضر، هاهنا ردّ د. محمّد عمارة على محمّد عابد الجابري: ردّ على افتراءات الجابري على القرآن الكريم، دار السّلام للطّباعة والنّشر والتّوزيع، 2011). لكن نتصوّر أنّ المعترضين على هذا الإجراء إنّما يتخوّفون في واقع الأمر من أن تؤدّي هذه القراءة إلى «أرخنة» القرآن الكريم؛ أي إرجاعه إلى سياق التّاريخ ومتغيّراته بما ينفي عنه كلّ إطلاقيّة. وبعبارة أخرى، فإنّ شرط الإيمان سابق لديهم على شرط التعقّل. وهذا ما دفعنا إلى ترجيح القول بأنّ الأمر لا يعدو أن يكون غير استئناف للخصومة الرّشديّة/ الغزاليّة. على أنّ ما يجدر، أيضاً، الانتباه إليه هو أنّ هذا التّمييز بين القرآن المنزّل والمصحف العثمانيّ إنّما هو تمييز تثْوي فيه روح المنهج التّفكيكيّ الذي رسّخه الفرنسيّ جاك درّيدا؛ فالجابري يسعى في قراءته هذه إلى مقايسة القرآن «المكتوب» بالقرآن «المشفوه» حيث الصّيغة الشّفويّة للقرآن تكون «زمنيّا» سابقة على الصّيغة المكتوبة؛ أمّا «منطقيّا» فسيبدو القرآن «المكتوب» سابقاً على القرآن «المشفوه» ما دام هذا الأخير هو ما يُعتمَد لتفسير آيات المصحف. وهذا، تقريبا، عين ما تقرّ به تفكيكيّة درّيدا في ما يخصّ الصّلة بين الكتابيّ والشّفويّ. فهي على خلاف السّائد تقدّم الكتابة على الشّفويّة. وعلينا، عندئذ، أن نختبر القرآن على محكّ هذين الأسلوبين. لكن يبدو أنّ قراءة الجابري، بهذه الطّريقة، قراءة تربك النّصّية الكتابيّة للمصحف لأنّ إرجاع الآيات والسّور إلى أسباب تاريخيّة/زمانيّة يخرجها من منطق الكتابة وبنيتها النّسقيّة إلى منطق الأحداث الخارجيّة التي يفترض الجابري، هاهنا، (حتّى وإن لم يستعمل صراحة مثل هذه المصطلحات) أنّها «المرجع» أو «الإحالة» التي يتعيّن أن نقيس بها وعليها القول القرآنيّ. وهو، بمثل هذا الإجراء يعيّن للقرآن مرجعاً من خارجه حتّى وإن كان في أحيان كثيرة يفسّر بعض الآيات على ضوء غيرها من الآيات. وحتّى وإن كان الجابري يسوق مفردات من قبيل «النّصّ»، و»الكتاب» وهو يتحدّث عن القرآن؛ فإنّنا لا نستبعد تفكيره فيه على أنّه أمر آخر غير النّصّ وغير الكتاب طالما يستخدم عبارة «الظّاهرة القرآنيّة» التي تتعدّى معنى انتساب الأثر إلى واحد بعينه، وإنّما تعني تعدّد النّسب أو المصدر. ومن ثمّ، فإنّ الأمر يغدو مسألة «تعريف»؛ ولعلّ هذا من بين المسوّغات التي جعلت الجابري يردف عنوان الجزء الأوّل من كتابه بـ «في التّعريف بالقرآن». فهو يدرك، ولا غرو، أنّ من بين الشّروط المنطقيّة لمقاربة أو لقراءة تروم أن تكون متماسكة هو أن تترسّم تعريفاً مناسباً للموضوع المدروس. فصلاحيّة المقروئيّة المؤمَّلة موكولة إلى التّعريف وإلى ضبط المفهوم. وفي هذا السّياق فإنّ مصطلح «الظّاهرة القرآنيّة» يفيد معنى «الحدث» الذي غيّر المعهود تاريخيّا. وكون هذا الحدث ظاهرة؛ فهذا يعني أنّه منذ أن حصل (منذ أن حدث) إنّما حصل متعدّداً أو سرعان ما تعدّد ليخصّ أكثر من طرف: يخصّ النبيّ الكريم وهو يتقبّل التّنزيل، ولكنّه يخصّ أيضاً بعض الصّحابة، وهم يدوّنونه مصحفاً، كما يخصّ مفسّريه السّابقين واللاّحقين وهم يتدبّرونه تعقّلاً وتأويلًا. قراءة تأويلية إن قراءة الجابري، بالمعنى الذي أوضحناه، هي قراءة معقودة على أكثر من عمليّة التّفكيك والتّركيب المطّرد للوحدات المعنويّة، ثمّ، من بعد ذلك، يجري وصلها مع غيرها من المعاني الثاوية في نفس النّصّ؛ على نحو ما تتكفّل بإنجازه القراءة البنيويّة التي يبدو أنّ الجابري ينتصر لها. لكنّه في واقع الأمر لا يقف عند حدودها ما دام يحتكم إلى أسباب (مرجعيّات) من خارج النّصّ. فواضح، إذن، أنّ الجابري ولئن كان ينتصر في هذا المضمار للقراءة البنيويّة التي تحتكم أساساً إلى البنية الدّاخليّة للنّصّ الذي يُفترض فيه أنّه موجَّه إلى قارئ يتموقع في سياق مخصوص، سياق القراءة الأدبيّة أو العلميّة؛ فإنّه ينتصر للقراءة التّأويليّة، لكن ليس بالمعنى الهيرمينوطيقيّ الخاصّ بتأويل النّصوص الدّينيّة المقدّسة وإنّما التّأويل الذي يتسلّح بمعارف فيلوولجيّة وأنثربولوجيّة وتاريخيّة لأنّ ما يضطلع به الجابري لا يقف فقط عند تأويل منطوق القرآن، وإنّما يتعدّاه إلى تأويل «حدثيّة» القرآن المزدوجة والملتبسة في آن، أي القرآن ملفوظاً منجّماً على لسان محمّد (صلى الله عليه وسلم) والقرآن مصحفا جمّعه عثمان بن عفّان.. ولا يمكن، في تقديره، الاهتداء إلى مضامين هذه الحدثيّة دون إرجاع الحدث إلى سياقه التّاريخيّ وإلى روافده الأنثربولوجيّة، أي الأبعاد والعناصر الثّقافيّة التي تطبع الاجتماع البشريّ في فترة ما وفي بيئة ما. ولنا أن نضيف، هاهنا، أنّ الجابري يتزوّد بمثل هذه القراءة حتّى يبيّن قصور ما يسمّيه بعضهم «آلة التّفسير التّقليديّ» حيث تولّت «مؤسّسة التّفسير» حجب، بل استبعاد بعض المحاولات التي سعت إلى أن تلج الصّدع الذي ما انفكّت مؤسّسة التّفسير ترأبه. هل يعني هذا، إذن، أنّه كلّما ظهر سعى جديد إلى قراءة القرآن إلاّ وتفجّرت إشكالات وإحراجات تتهدّده بالنّسف بحيث يواجه في نهاية المطاف صدّا قد يستحيل إلى نوع من «عطالة للقراءة»؟! الشريعة والحكمة الرّشديّة الجديدة هي استئناف النّظر الذي سلّطه ابن رشد على العلاقة بين الشّريعة والحكمة ضمن مشروع فكريّ كان سيفقد الكثير من جدواه لو لم يعمل على فتح طريق أمام الفلسفة حتّى تنفذ إلى الفضاء الثّقافيّ المغربيّ والأندلسيّ، وهو ما استوجب منه الاضطلاع بمشروع تصحيحيّ آخر يتولّى تدبّر شأن العقائد من داخلها سعياً إلى مراجعة أحكام المتكّلمين، و»وثوقيّة» أبي حامد الغزالي. ومع ذلك، قد سُدّت هذه الطّريق لقرون عقِب ما يعرف بنكبة ابن رشد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©