الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سـينما أوزو لوحات إنسانية لا يمحوها زمن

سـينما أوزو لوحات إنسانية لا يمحوها زمن
19 ابريل 2017 21:32
أوجز المخرج الياباني/‏ ياسوجيرو أوزو (1903 -1963) على قبره، داخل معبد لطائفة (الزن) البوذية حكمته في الحياة بكلمة واحدة من حرفين أوصى بكتابتها: (Mu) بمعنى (العدم) بالمفهوم الغربي، بالرغم من أن أفلامه تشع بالإيحاء بالعالم العلوي، وبدورة الحياة المتكررة التي تحركها أقدار لا قبل للإنسان بتغييرها، ما يجعلك تشهق مؤمناً من قلبك: (يا الله!!)، مثل المشهد الفاتن في فيلمه (الصيف المبكر- 1951) للأب والأم ينظران بابتسامة لبالون أطفال يطير، ويتهادى عالياً في فضاء السماء، تحت حنان السحاب، وهما يتأملان مرور الزمن كلمح البصر بعد زواج أولادهما، وبقائهما لوحدهما على ضفة بعيدة من نهر الحياة. ومثل الكثير من المشاهد المنسابة عبر أفلامه الأخرى التي يتربع على قمتها فيلمه (قصة طوكيو- 1953) الذي يعتبر أفضل فيلم في العالم عبر تاريخ السينما كله، حسب استفتاء مجلة (سايت أند ساوند) . مع تبصر فلسفة (الزن) البوذية، سندرك أن المقصود من الكلمة المكتوبة على قبره ليس العدم، كما يتعجل الفكر الغربي - أحيانا- في ترجمة المصطلحات، وفقا لثقافته، فطائفة (الزن) تؤمن بممارسة التأمل في نواحي الحياة، وأن كل الموجودات كائنات حية، أو جماد، تسري فيها روح ما، وتتغير من وضع إلى وضع، دون نهاية، ويتجسد فيها معنى من معاني الزمن ذلك الثابت المطلق لديهم، متمثلين وصايا نبيهم/‏ جوتاما سيدهارتا الذي عُرف باسم بودا أو بوذا، وأن (الكل في واحد، والواحد في الكل)، وأن الإنسان خلق ليتوحد مع العالم، كذلك تؤمن تلك الطائفة (الماهايانا) بتناسخ الأرواح، وتنقلها من جسد إنسان ميت، لإنسان أفضل إذا كان الميت صالحاً في حياته، وإلا تحول إلى جسد حيوان، لذا فمخرجنا لا يبحث وجود (إله) من عدمه، لكن يؤمن بقانون علوي للطبيعة يهيمن على حيوات الكائنات، ويحرك أقدارهم، وعند الموت يفنى الفرد في الفراغ، أو اللاوعي، ولا يصبح له وجود، فليست هناك (إجابة عن أي سؤال)، وهي ترجمة أدق لمعنى كلمة (MU)، لكن يظل التناقض في أصل هذه الفلسفة الدينية، كما كشفها/‏ عباس العقاد في كتابه (الله): «هذه الفلسفة تنكر الشخصية الإنسانية، لا تعترف بالذات أو بالروح، ومع هذا تؤمن بتناسخ الأرواح، وثبوت شيء في الإنسان يتنقل بين الأجساد والدورات، وإنها تؤمن بالكل، أو المطلق العمومي الوجودي، ثم تنفي عنه الذات، كما تنفيها عن الإنسان، مع أن الكل بغير ذات، لا يكون كلاً بمعنى من معاني الكلمة، ولكنه شتات من أجزاء متفرقة.» سمات الكتابة لا ينطلق (أوزو) في أفلامه من أرضية درامية مشابهة لدراما/‏ أرسطو بفواجعها، ووحدة أحداثها الزمنية والمكانية، ولا يتأثر كثيرا ًبالدراما الشكسيبرية، بذروة صراعاتها، وانعكاس ذلك على شخصياتها المتمزقة، فتبحث عن» أن تكون أو لا تكون»، وأيضاً لا يتشابه أبطال (أوزو) مع دراما تشيخوف بأبطالها السلبيين، فهو يعمل على دراما الحدث اليومي العادي جداً. يعرف المخرج بلقب (Shomingeki). ولد في بيت من بيوت الطبقة المتوسطة، ويتناول موضوعاته وفق أهم مبادئ (الزن) وهي البساطة، ويبني تركيزه داخل البيت الياباني، مكرراً (ثيمة) زواج أحد أفراد الأسرة. وقد دافع عن نفسه في تكراره لنفس الثيمة، بقوله إنه «كالرسام الذي يستمر في رسم نفس الوردة مراراً، وتكرارا». ومن أهم خصاص السرد الروائي الذي يتعمده مع كاتب سيناريو أفلامه (ك. نودا) هو تجنب تصوير الأحداث القوية دراميا، لصالح الزمن، حيث يتأمل سحر لحظاته، (Le Temps Faible) الدرامي الضعيف التي قد تمر أمام العين المتعجلة. فتقديم أكواب الشاي، والجلوس المستكين على الأرض، وتقديم الطعام بفرحة ونظافة، وغسل الأطباق، وتجهيز معدات المطبخ، والصمت الذي قد يزيد عن الكلام، كل ذلك من أهم ممارسات وتعاليم العبادة عندهم. ونجده - مثلاً - يغفل تصوير مشهد مقابلة الإبنة لعريسها المنتظر في فيلم (الربيع المتأخر-1949)، ونعرف ذلك بعدها في حوارها مع أبيها داخل البيت، ولا نعرف أيضا في فيلم (قصة طوكيو) مغامرة السفر بالقطار للأب والأم، والأحداث المثيرة التي تعرضا لها في سفرهما، إلا عبر حوار عادي بعد وصولهما، فهو هنا يلجأ لطريقة تعرف بـ (Ellipsis)، وهو تكنيك سردي، يجوز أنه استلهمه من مشاهداته لأفلام المخرج الأمريكي/‏ إرنست لوبيتش، ومع ذلك تجنب (أوزو) أغلب عناصر الفرجة، والسرد الهوليوودي المعتاد، ليكرس الإحساس بإيقاع الحياة الظاهرية، والجوانية للمواطن الياباني، ويدفعك للتأمل والصبر لما وراء التفصيلات الصغيرة من جمال، فالحياة جمالها في بساطتها، فلا يجب أن نعقدها، ونعكر مياه نهرها الجاري الذي يفني مع تياره كل شيء، كما تفنى ألوان الطيف في اللون الأبيض الناصع. تقنيات الإخراج سينما أوزو (53 فيلماً روائياً، وفيلماً تسجيلياً واحداً) من نبع شعر الهايكو الياباني، الذي يعتمد على التصوير، وبث الأحاسيس، وتأمل الموجودات، فنراه يثبت كاميراه في كل أفلامه، عدا بعض المشاهد، مثل: النهاية البديعة في (الصيف المبكر)، ولقطات استعراض فصل المدرسة في الفيلم الصامت الرائع (ولدت، ولكن - 1932)؛ فعدم تحريكه (الكاميرا) لا يعني أنها مجرد تقليعة يتمايز بها بين أقرانه، لكن لأنه يريد تثبيت الإحساس بالزمن المطلق الحقيقي عبر تكوين صارم، لتتحرك شخصياته، وتتغير داخل إطاره بعوالمهم، ومشاعرهم، ومرور الزمن النسبي بهم. فهو لا يريد أن يشغلك بحركة كاميراه، بل يدفعك لاشعورياً إلى التخلي تدريجياً عن إيقاع الحياة المكهرب الذي لوث الإنسان المعاصر، لتتأمل معه، وأنت تجلس على الأرض في بساطة وتواضع، أو على (التاتامي)، وهي المرتبة الرفيعة المعتادة للجلوس على الأرض هناك، وبها عُرفت لقطات (أوزو) حيث ارتفاع الكاميرا عنده ثابت أيضاً. وفي مشهد دال من فيلم (الربيع المتأخر) يصور فيه إناء زهور خاليا من الزهور، ويقطع بينه مونتاجياً، ولقطة الابنة التي تتأمله، وهي تفكر في تغير مرحلة من حياتها، ثم يثبت (اللقطة) على الإناء مع ضوء الغرفة الواني (تصوير/‏ أتسوتا)، وهي صورة ومعنى انبرى لها الناقد والفيلسوف الفرنسي/‏ جيل دولوز، وسماها (الصورة – الزمن) في تحليله المستفيض للجديد في سينما (أوزو)، وهو إعطاء دفقة جديدة من الحس السينمائي لمعنى الزمن، فالإناء إحدى علامات البوذية المقدسة، وليس مجرد شيء يوضع فيه الزهور، الإناء هنا كائن له زمن، يستمده من الزمن الأكبر، يحمل بداخله روحاً تملأ جوفه الفارغ، ويبقى راسخاً في علاقة متشابكة بينه، وحال الابنة المنتقلة إلى محطة زمنية جديدة في حياتها نحو الزواج، بعيداً عن أبيها الحبيب. فالفراغ له أعظم اهتمام عنده، ونجده قد جَسّد ببساطة مدهشة سريان الروح في الفراغ، فالروح تحتوي على الفراغ الأكبر، كما يقول أهم الرهبان المؤسسين للزن في اليابان. ومن الطبيعي في هذا السياق أن يستعمل (أوزو) العدسة رقم (50 مم) التي تعبر عن وجهة نظر، وزاوية العين البشرية العادية. وتتعدد السمات الخاصة لفن الفيلم عند مخرجنا، كعدم لجوئه إلى الانتقالات المونتاجية المألوفة بين المشاهد مثل: المسح، أو المزج، أو الطبع المزدوج، بل بـ (PILLOW SHOT ) أي اخترع، وتعني أنه يقطع في نهاية المشهد إلى لقطة ثابتة خارجية، أو داخلية لعنصر من عناصر (الاكسسوار) الموجودة في المشهد نفسه، أو التالي له، وقد بالغ- من وجهة نظري- النقاد المحتفون، مثل (روجر ايبرت)، بهذه التقنية عند (أوزو)، لأنها تنحو إلى النمطية، فضلا عن أنها استخدمت -نوعاً ما- في أفلام من قبل! ومن جماليات فن مخرجنا استعماله اللون، وحسه التشكيلي الباهر باستغلال تكنولوجيا الفيلم الملون من ألمانيا، لبساطة الصبغة اللونية في هذه التكنولوجيا وقتها، ويظل اللون الأحمر بدرجاته، واللون الأبيض مسيطراً تقريباً على كل كادر، كما في فيلم (الأعشاب الطافية 1959)، ولا تنسى الذاكرة البصرية توظيفه للون الأحمر ل (الشمسية) في يد البطلة، في مشهد ساخن يتشاحن فيه البطل والبطلة، تحت انهمار المطر، في تكوين رصين يفوح بالشعر!! كذلك اشتهر (المخرج) بكسر قاعدة (راكور النظر)، أو قاعدة (180 درجة)، وهي باختصار: عندما ينظر الممثل يمين الشاشة، نحو ممثل آخر مقابل له، فالممثل الآخر عليه أن ينظر شمال الكادر، بنفس الزاوية المقابلة، ومستوى وجهة النظر، ولا ريب أن الفنان الحقيقي هو من يشكل القواعد حسب رؤيته، لكن لا نر داعياً إلى عدم استعماله هذه القاعدة في كثير من الأحيان، لأن النظرات جاءت مربكة على نحو ما، بعكس نظرات الممثلين لبعضهم أمام الكاميرا، في مشاهد أخرى، التزم بها باتجاه النظرات، دون تجاوز خط البصر الوهمي. ومن أهم عناصره.. الممثل، فكان يعمل بروفات عديدة للممثلين للوصول إلى الحالة التي ترضيه، في إطار الحفاظ على تعبيرات هادئة دون مبالغة، وأهم بطلاته الموهوبة سيتسكو هارا التي صارت رمزاً لأفلامه !! ولمخرجنا قدرته على استخراج أفضل ما لدى الأطفال في أفلامه، فكأننا لا نشعر أنهم يمثلون بتلقائية أفعالهم، وروحهم المرحة، وبراءة نظراتهم! ويعتبر اليابانيون أفلام (أوزو) لوحات إنسانية لا يمحوها زمن، وتخلق حالة أقرب إلى (النيرفانا)، مما جعل المخرج الألماني الشهير فيم فندرز يسافر إلى طوكيو، ليصور في شغف بعد عشرين سنة من وفاته، فيلماعن أسرار حياته المهنية، وعن طوكيو المعاصرة، فيرصد لنا تفسخ المدينة، وفراغها الوجداني، حتى بدا الفيلم مرثية لأفلام (أوزو)، ولذلك صار هذا الفنان المتسق مع هويته، من أهم فناني العالم بعد تجاهل السينما العالمية له، طوال حياته. ................................. مصادر OZU His LIFE and Films –Donald Richie - Le Image Temps –cinema2-Gille Deleuze - مدخل لدراسة بوذية الزن - موسى ديب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©