الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن الإنسان والخسران

عن الإنسان والخسران
9 مارس 2011 19:28
عندما تتعدد وجوه العمل الفني يصبح الخيار في التذوق واسعاً، فقد يقدم لك عمل إبداعي شكلاً رائعاً ومضموناً وبالعكس، وربما تقدم الأعمال الخطابية لك بناء تركيبياً، عضوياً، ولغوياً جميلاً، غير أن المضمون يبقى متدنياً، وتلك هي كما يبدو إشكالية المبنى والمعنى، إذ حال توفر هذين في مستوى راق ترى العمل قد أصبح في مصاف الأعمال الكبرى. قديماً قال العرب عن الشعر “هناك 4 أنواع للشعر منها ما حسن لفظه وساء معناه، وما ساء لفظه وحسن معناه، وما ساء لفظه ومعناه، ومنه ما حسن لفظه ومعناه” وهذا الأخير هو المنتخبات من شعر العرب، الجميل المظهر، الجميل المخبر. في الفنون الحديثة ولنأخذ المسرح نرى وجوه الإبداع متعددة وكل وجه من هذه الوجوه التي تدخل في إطار العمل المسرحي لها قوانينها ومعرفتها ورموزها وتجليات تمظهرها. هذه الفنون كثيرة منها نص المسرحية، خطابها، إخراجها، ديكورها، إكسسواراتها، إضاءتها، تقنياتها الخارجية والداخلية، استغلال فضاءات المسرح، حركة الشخوص، لغتهم، حركة الجسد، الحركة الفردية والجماعية، خطابها مع الجمهور. كل هذه العناصر، فنون، أصبحت المسرحية فيها علماً يرقى إلى مستوى واحد في الإبداع، متساوٍ في الجمالية، تسند هذه العناصر بعضها البعض، ولها متخصصوها، الذين يبتكرون كل يوم شيئاً جديداً. أقول هنا.. إن العرض المسرحي إذا نجح في تصعيد هذه العناصر إلى مستويات الإبداع المتكافئ نجد النجاح واضحاً في أعلى تجلياته، وأن هذا العرض إذ نجح فيه عنصر دون آخر لابد لنا هنا أن نتساءل لماذا؟ كانت تلك المقدمة لكي أدخل في موضوعة ما عرض من عمل مسرحي جديد في أبوظبي الأسبوع الماضي على خشبة المسرح الوطني وهي مسرحية “برودكاست من المريخ” من إعداد حميد فارس عن مسرحية “رسالة من المريخ” من تأليف السوري خير الدين عبيد بن عبدالقادر وأخرجها للمسرح المخرج مبارك ماشي بإشراف فضل التميمي وبإنتاج مسرح زايد للطفولة. شارك في التمثيل سالم طاهر بدور (جهاز BB) والممثلة «في» في دور كوكب زحل وزكريا الصريمي في دور كوكب المريخ وعامر الكثيري بدور كوكب اورانوس وريحان العريمي بدور كوكب نبتون ومنى سلطان بدور كوكب بلوتو ومروة سلطان بدور كوكب الزهرة وسعيد مبارك بدور كوكب عطارد وعلي عدنان بدور كوكب المشتري وأخيراً ريم عدنان بدور كوكب الأرض. تخلل النص المسرحي مجموعة من الأغاني من تلحين وتوزيع ميرزا المازم وساعد في الإخراج عامر الكثيري وصمم المؤثرات الصوتية جاسم محمد وصمم الإضاءة والسينوغرافيا والديكور مبارك ماشي والأزياء وتنفيذها لروز ماري. الإنسان والأرض ولكي نتعرض إلى فكرة المسرحية ورموزها وكيفية تنفيذها على المسرح ودلالاتها لابد لنا أن نقرأ أسباب توجه المعد (حميد فارس) إلى هذا النص حيث يقول: “لكي يبقى كوكبنا الأرض جنة جميلة، علينا المحافظة على الهواء من التلوث، وعلى خصوبة الأرض من الأسمدة الصناعية، ومياه الأنهار والبحار من النفايات الضارة التي تؤثر على الكائنات الحية”. حسناً وماذا قال المخرج مبارك ماشي: “نعم التلوث وباء خطير ينتشر بسرعة النيازك ليقضي على كوكب الأرض، ولكن لماذا يضع الإنسان التلوث، ليؤذي نفسه وغيره من البشر”. تلك هي فكرة المسرحية كما يفهمها المعد والمخرج، وهذا لا يخرج من فهم فضل التميمي المشرف العام عن المسرحية كونها لا تخرج إلا للارشاد والتوعية في المحافظة على البيئة الجميلة والخلابة في الكوكب الذي أصبح يوماً بعد يوم يتعرض للتخريب والدمار”. هذا ما وجدناه من رؤى المشتغلين بالمسرحية، إذ أنهم ينظرون لأهداف النص ومساعيه من أجل الوصول إلى اليقظة والحذر، ولكن نتساءل كيف تجلت تلك الأهداف في عناصر المسرحية الأخرى. في البدء يرى الجمهور ستارة حمراء شفافة، تشاكل إلى حد بعيد لون المريخ الأحمر وعلى جهتي المسرح نجد تلالاً صغيرة مضاءة باللون الأحمر وثمة برج بطول مترين يبث في أعلاه إضاءة تحذير، وهناك قوس في عمق المسرح مضاء بأضوية ملونة وثمة دائرة ضوئية ملونة على جهة المسرح اليسرى فوق الأرض كلها عناصر ديكورية تحمل دلالات. فضاء خيالي المسرح عبارة عن منظر فضائي خيالي بحيث تتكون جميع المناظر الداخلية للمسرحية وكأنها تريد التحدث عن كوكب ونجوم وبرج عبارة عن صحن طائر، يبدأ العرض بموسيقى تنفتح معها ستارة المسرح الشفافة، موسيقى يتميز فيها “الفلوت” ويظهر سارد بلباس أحمر يتحدث عن الكوكب “المريخ”. دخان يتصاعد ويدخل سارد آخر. الفكرة كما يبدو أن هناك اجتماعاً للكواكب التسعة على أرض المريخ وهي “الأرض، المشتري، عطارد، الزهرة، بلوتو، نيبتون، أورانوس وزحل والمريخ”، وكما يبدو أيضاً أن الأرض قد تأخرت ولم يعرف الجميع سبب تأخرها، ودواعيه، ومبرراته، يتحاور ممثل كوكب المريخ مع (جهاز BB) الذي يقوم بدوره سالم طاهر، وكان لحوار منصباً على دعوة الكواكب وما سيطرح فيه من قضايا تخص كواكب درب التبانة. ما يسجل لمصممة الأزياء روز ماري أنها جانست بين لون الكوكب والملابس التي يرتديها ممثل الكوكب في الاجتماع، إذ لبست ريم عدنان ممثلة الأرض الملابس الخضراء وممثل المريخ الملابس الحمراء وينطبق الأمر على باقي الكواكب وهذا تمثل جميل يحسب لعنصر الأزياء في المسرحية. وثانياً: انطباق مساحة الكوكب مع حجم الممثل الذي يؤدي دوره كممثل له في الاجتماع، فما بين صغر عمر بلوتو نرى الطفلة منى سلطان ممثلة له وكبر حجم المشتري نرى علي عدنان ممثلاً له، تلك مفارقة جميلة، والتفاتة بارعة. الأم الحنون ويبقى هناك صوت الأم الحنون، الأم الحاضنة للجميع، الأم التي تمنح الحياة وتطفئ الأمراض، وتعيد النشوة لمظاهر الأشياء، تحرك الكون إضاءة وعتمة تتغلغل في كل شيء وتكون كل شيء “أنها الشمس”. يأتي صوت الشمس بعد كل معضلة تقع بين هذه الكواكب، يأتي صوت الشمس حينما تقترب يشع ضوؤها على ملابس الكواكب “قرباً وبعداً” من الشمس، فتنحني الكواكب جميعها لظهور الأم. كوكب الأرض لا اتصال معه، وممثلو الكواكب يفدون إلى الاجتماع تباعاً وثمة صوت يغني: سنلتقي جميعنا بكل حب وأمل. يستغل مبارك ماشي قدراته الإخراجية بأن يتحول إلى التكنيك في إطار من التقنية البارعة حين ينقل الحدث الذي صار معروفاً على خشبة المسرح، بل لنقل ليس مغرياً ولا مشوقاً إلى خارج الخشبة حيث تنطلق فوق رؤوس الجمهور مراكب فضائية آتية من أعماق القاعة خلف الجمهور. يأتي كوكب عطارد.. بمركبة فضائية ويحول نظر الجمهور من نظامها الأفقي باتجاه ما يدور في المسرح إلى اتجاه عمودي إلى الأعلى باتجاه حركة المركبة الهابطة من السماء إلى المسرح وهي تضيء شعاعاً تدلل على أنها تحمل ممثل كوكب عطارد. الاتصال لايزال مقطوعاً مع الأرض، هكذا يقول (ممثل جهاز BB). أنا الأكبر ويأتي المشتري.. الكوكب الأكبر بعربته من فوق الرؤوس، ويستقبل استقبالاً حافلاً ولابد لكل كوكب يأتي أن يصف نفسه في أغنية هنا يقول المشتري: أنا الأكبر احب اللوز والسكر أنا العملاق سموني أرش العطر والعنبر ويتساءل بعد أن ينتهي من تقديم نفسه أنه لم ير أحداً فهل اجتمعت الكواكب بدونه ورحلت، إنه مبعوث الكوكب الأكبر “المشتري” يقدم نفسه شارحاً وزنه ويقارن جسده بأجساد الكواكب الأخرى ورتبته. وقبله يأتي “عطارد” الكوكب الساخن، وقد شكا سخونته كونه الأقرب إلى الشمس وبالرغم من ذلك يتباهى بأنه صغير وفعله كبير. هنا نرى الاتجاه التعليمي في المسرح وهذا حق مشروع لمنتجي مسرح الطفل والمهتمين بتقديمه للطفل، حيث يلعب المنتجون على وتر التعليمية والارشادية، لكن هذا لا يعني إهمال الجانب الفني الذي هو وسيلة لتقريب هذه المعلومات للطفل، الوسيلة الأكثر جمالية والأسهل واسطة. الأشقاء الثلاثة يأتي كوكب زحل التي مثلت دوره الممثلة “في” بلونه المزوق وهي تغني: زحل اسمي حلو جسمي وخماري بدا شيء رسمي وتلبس مندوبة زحل حول خصرها حلقات مضيئة (لزحل 7 حلقات تدور حوله ولديه 21 قمراً). فجأة يأتي 3 مبعوثين، يطلق عليهم بالأشقاء الثلاثة وهم مندوب اورانوس (عامر الكثيري) ومندوب نيبتون (ريحان العريمي) الذي يغني: نيبتون أنا نبع المسرة والهنا ويأتي ثالثهم مندوب بلوتو “منى سلطان” ببياضها الذي يدلل على برودة وجمود هذا الكوكب الذي اكتشف عام 1930 والذي يملك قمراً واحداً. عشرة كواكب أعتقد أن المعد حميد فارس وبالرغم من تقديرنا لالتزامه بالنص الأصل “رسالة من المريخ” كان بامكانه ادخال الكوكب الجديد الذي يعتقد العلماء بوجوده ولكنه لم يكتشف لحد الآن وهو كوكب إكس العاشر في منظومتنا والذي هو أكثر بُعداً من بلوتو الكوكب الثلجي. وربما بامكان حميد فارس أن يناقش حال كوكب إكس البعيد المنسي من الكواكب العشرة، صحيح أن الأمر لا يعني كوكب إكس إذ هو متعلق باجتماع يتخلف عنه كوكب الأرض لمرضه لكن من باب تقديم المعلومة العلمية للطفل في المسرح بأن هناك كوكباً آخر نجهله، ليس إلا.. فكرة بسيطة يقوم النص على فكرة بسيطة وهي أن الشمس الأم قد علمت الكواكب أن تتدارس أوضاعها آلامها، مشاكلها، والأرض لم تحضر، إذ لم تجد الأرض وسيلة لإرسال مبعوثها ليأتي إلى الاجتماع، وفجأة يأتي ممثل الأرض، حيث يدخل إلى المسرح من خلال الحلقة الدائرية التي نصبها المخرج في عمق القاعة وهي تحمل وروداً وتوزعها على الكواكب فتغني: احبتي واخوتي كواكب الفضاء اتيت رغم الجهد والأحزان والعناء لمهرجان الحب والوفاء كان المفترض أن تتغير كلمة “مهرجان” إلى “اجتماع” لتكون “لاجتماع الحب والوفاء”. وفجأة تسقط ممثلة الأرض مغشياً عليها، وتأتي أشعة الشمس البعيدة وتسطع بقوة لتعيد للأرض وعيها وهي تخاطب الكواكب. - لا تخافوا ان الله منحني قدرة الشفاء. تنهض الأرض. وتشكو الأرض مرضها بسبب الكوارث البشرية التي يصنعها الإنسان، ومنها التلوث الذي يقضي على كل شيء على الأرض ويقضي حتى على الإنسان. خطاب بصري هنا يستغرق النص بفكرة الحكاية، حيث يصبح الحوار مملاً حقاً، ولكن ما ينقذ الأمر، ويكسر حاجز الملل، هو حركة الإخراج المسرحي بأن يحرك مبارك ماشي النص باتجاه الخارج حينما تأخذ الأرض الكواكب في رحلة على مركبة الفضاء التي صنعها مبارك ماشي بجمالية وهي تهبط من سقف المسرح على الدائرة المضاءة على أرض الخشبة ويطفئ الأضواء وتصعد المركبة الشفافة لتجد الكواكب أنفسها على سطح الأرض مشاهدة الكوارث التي تعرض على شاشة سينمائية كبيرة. عبر مركبة عبور الزمن التي تعتبر إنقاذاً لعادية القصة تدور المركبة وتصدر شعاعاً أبيض في دورانها مع موسيقى تجسد حركة المركبة. هنا استغل مبارك ماشي التقنية بإحكام حينما رفع جميع الكواكب إلى الأعلى، ويدخل الجميع من طرف القاعة الأخرى مع الأرض. دخان سجائر وسيارات ومعامل ومقالع وانفجارات وحروب ونفايات وقمامة وتدمير البيئة البحرية وانجازات نفطية وبقع على المحيطات ومشاهد موت الطيور غارقة في النفط. مشهد تصويري يعرض على شاشة بيضاء يؤدي غرضه التعليمي، حيث تختفي مخاطبة الطفل لغوياً فيتحول إلى خطاب بصري، تروي الأرض مأساتها. مبارك ماشي مشكلة المخرج مبارك ماشي انه يبرع في حركة المسرح بأفكار جذابة للطفل في المسرحية عبر “المركبات الفضائية من فوق الجمهور” و”المركبة الفضائية للزمن” و”شاشة السينما” إلا أنه لا يتواصل حيث يريد أنهاء النص المسرحي بالحوار الذي لا يبهر المتلقي، إذ الحوار أصبح جزءاً بسيطاً من تقنيات المسرح الموازية الأخرى الأكثر جاذبية، بعد ذلك ندخل إلى الحوار من جديد: وتتساءل الكواكب عن هذا الدمار؟ فتجيب الأرض إنها حروب صنعها الإنسان وهو الوحيد القادر على أن يساعد الأرض وينقذها. وتشفى الأرض بفعل دور الشمس ويحمل الجميع وشاح المجرة الجميل، تقام احتفالية الشفاء وإضاءة سريعة تدلل على أننا قد خرجنا تواً من لحظة الخيال إلى لحظة الحقيقة حيث ينحني الممثلون إلى الجمهور لأداء التحية بعد “60 دقيقة” قضاها الحضور في الخيال المسرحي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©