الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تحولات الوعي والغياب

تحولات الوعي والغياب
9 مارس 2011 19:38
يبدأ السرد في رواية “خذها لا أريدها” لليلى العثمان من منتصف الحكاية، ما يتيح للسارد حرية الانتقال نحو الخلف ونحو الأمام . وعلى الرغم من أن جملة الاستهلال التي تقتحم حدث الرواية الأساسي المتمثل في لقاء بطلة الرواية بأمها في لحظة موتها بعد أن ظلت تؤجل هذا اللقاء بانتظار المناسبة الملائمة، حتى أصبحت عقدة الذنب تطاردها في حياتها، فإن هذه الجملة ترتبط بشخصية البطلة مشكلة بؤرة أساسية، تتفرع منها بؤر سردية أخرى متماثلة في سماتها معها مشكلة بنية العمل السردي الحكائي. في بنية السرد إن اختيار الروائية للسرد بضمير المتكلم في المشهد الافتتاحي، وفي مشاهد الرواية الأخيرة التي تتسم بكثافتها الوجدانية والعاطفية، في مشهدي الموت وطقوسه يضفي على السرد طابعا من الحميمية على مستوى العلاقة بين شخصية السارد وشخصية المتلقي نظرا لغياب الحواجز أو الوسائط المستخدمة في عملية السرد بينهما. ولعل القارئ لهذه الرواية سوف يلاحظ تداخل السيري مع المتخيل فيها، إذ تبرز العلامات العديدة التي تميز شخصية بطلة الرواية، والتي تحيل على شخصية الكاتبة مثل زواج والدها من امرأة غير كويتية على الرغم من محاولة الأهل تزويجه من ابنة عمه ورفضهم لهذا الزواج، وعلاقته بالشعر التي دفعته إلى تسمية ابنته بلبنى، وهنا يظهر مكر التسمية ومخاتلة الاسم، إذ جرى استبدال اسم ليلى بلبنى وإن كانت كل منهما ترتبط بقصص الحب العذري في الشعر العربي القديم، إضافة إلى خروج بطلة الرواية وهي في سن الثانية عشرة من المدرسة، وعلاقتها منذ الصغر بالكتابة. وتتجلى الحركة الدائرية للسرد في عودة بطلة الرواية في نهايتها إلى نفس المكان الأول الذي تبدأ منه وصف لقائها بأمها المسجاة على اللوح الخشبي، وهو بيت أمها محاولة استعادة ذكريات طفولتها التي عاشتها فيه، ورائحة أمها القديمة في أشيائها المتروكة للغبار والنسيان. إن هذه العلاقة بين جملة الاستهلال وخاتمة السرد يدل على تماسك بنية السرد الروائي، ويكشف عن رؤية الكاتبة إلى العالم. تنّوع الكاتبة في استخدامها لشخصية السارد في الرواية، فهي تترك بطلة الرواية لبنى تقوم بمهمة السرد ما يجعل الكاتبة تهيمن على عملها من جهة، ومن جهة أخرى يصبح السرد ذاتيا وتحليليا عندما نجد شخصية البطلة تفصح عما تفكر فيه وما ينتابها من مشاعر واندفاعات وأفكار، الأمر الذي يدفعها إلى استخدام ضمير الغائب أو الراوي العليم الذي تساوي معرفته ما تعرفه تلك الشخصية، إلى جانب شخصية الأب التي تتولى سرد حكاية عشقها حيث تسعى الكاتبة من خلال ذلك إلى التنويع في ضمائر السرد، إلى تقديم أكثر من وجهة نظر في الرواية، خاصة وأن استخدام ضمير الغائب في السرد يمنح الكاتبة إمكانية الاختباء خلف تلك الشخصية دون أن يلغي حضورها فيه. وإذا كانت الكاتبة تفتتح السرد بمشهد الأم المسجاة بعد أن فارقت الحياة، فإن نهاية الرواية تتضمن مشهد موت صديقتها ماري وما بينهما يظهر مشهد موت الأب المفجع وموت مربيتها أو الأم البديلة مسعودة التي لا تتوقف عنده كثيرا ليكون الموت هو ثيمة الرواية الأساسية في حين تكون علاقات الأمومة والأبوة والحب والصداقة هي الثيمات الفرعية التي تتقاطع مع الثيمة الأساسية وتتداخل معها مشكلة مشهد الحياة الصاخب بمصائر حيواته المختلفة والمؤتلفة، الذي يتوزع بين الكويت وعمان ولبنان في هذا العمل. درامية المصائر والأحداث تتميز الرواية ببنيتها الدرامية التي يطغى عليها جانب الزمان الذي يسيطر عليه الجانب الحركي. وقد عمدت الكاتبة إلى استبدال التقسيم التقليدي للرواية إلى فصول بعناوين خاصة لكل جزء، تكون بمثابة مفاتيح دلالية لها، من خلال علاقتها الشعرية معه، ودورها المحوري الذي تلعبه على مستوى تلخيص وتكثيف مضمونه والإيحاء به، ما يدل على علاقة الإحالة المتبادلة القائمة بين العنوان والنص، والنص والعنوان ودوره في ترتيب أحداث الرواية وتوزيعها (الغسول ـ فراق دون وداع ـ صوت الضمير ـ بيت غريب ـ حكاية الأب...). لا تكتفي شخصية بطلة الرواية لبنى في تجسيد مشاهد الموت وعلاقتها الوجدانية المؤثرة جدا بها، بل هي تنقل تفاصيل طقوسها المختلفة في الإسلام والمسيحية، إضافة إلى ما يشكله من تحولات درامية بالغة التأثير في حياة شخصيات الرواية ووعيها ومواقفها عموما، وفي شخصية لبنى التي يكون عليها أن تسعى إلى ملء الفراغ الذي يخلفه في أعماق روحها ووجدانها بحب آخر، كما هو الحال عندما يموت الأب فلا تجد سوى حب الأم تعوض به عن غيابه، أو في قصة الحب التي تعيشها بعد موت أمها واكتشافها لمعنى الحب والعلاقة مع الآخر الرجل. تجسد شخصيات الرواية أنماطا مختلفة من الوعي من قضايا الحب والحياة والجسد والموت تتجلى بصورة أكبر من خلال حواراتها التي تفصح عن مواقفها ووجهات نظرها حيال تلك القضايا، لكن بعض تلك الشخصيات تتميز باتساقها وانسجامها مع ذاتها مثل شخصية ماري وزوجها يوسف ومسعودة، في حين تتميز شخصية لبنى بقلقها وصراعها الدائم بين عواطفها ومواقفها المختلفة، لاسيما من الأم التي تحاول أن تبرر لها تخليها عنها بعد طلاقها من والدها تارة، وتارة أخرى نجدها ناقمة وساخطة عليها إلى الدرجة التي لا تتسامح فيها معها، ما يجعل تلك الشخصية تعيش قلقها وصراعها الدائم مع ذاتها، حيث يمتد هذا الخوف إلى علاقتها بابنتها الوحيدة. تلعب العلاقة بين الأب والأم منذ الطفولة المبكرة عند بطلة الرواية دورا بالغ التأثير في حياتها ووعيها ليس على مستوى علاقتها بأمها وحسب، بل على مستوى العلاقة مع الذات والجسد والرجل والعالم بسبب الآثار النفسية العميقة التي خلَّفتها المشاكل الدائمة داخل الأسرة، ومن ثم غياب الأم وتخليها عنها لوالدها الذي كرس حياته كلها من أجل رعايتها حتى تحول كل منهما إلى محور لحياة الآخر. إن التحولات والتبدلات التي تطرأ على وعي الشخصيات ومواقفها وعلاقاتها مع بعضها البعض هي التي تمنح الرواية طابعها الدرامي، وتسهم في تنامي أحداثها وتطورها فالحب الذي يميز علاقة الأب بالأم ينقلب غلى خلاف محتد ينتهي بالطلاق، والأم التي تتخلى عن ابنتها في لحظة غضب وعناد تحاول استعادة علاقتها بابنتها، والأب الذي يخرج عن موقف العائلة ويتزوج من امرأة غير كويتية يحاول أن يزوج ابنته من ابن عمها، وبعدها من رجل يكبرها كثيرا، حيث يشكل هذا الموقف تمثلا لرؤية المجتمع المحافظة إلى الزواج. كذلك صديقتها ماري المقبلة على الحياة يفاجؤها مرض السرطان الذي يسلبها حياتها، وأخيرا شخصية لبنى ووعيها على مستوى علاقتها بأمها وعلاقتها بالزواج وجسدها عندما تكتشف معنى مختلفا للحب والجسد خلال زواجها الثاني الذي كان ثمرة حب مع رجل آخر، الأمر الذي يكشف عن تحولات وعي ومصائر ومواقف شخصيات الرواية المختلفة، وتأثير ذلك الحاسم على بنية السرد وحركته وتناميه في الرواية التي سعت الكاتبة من خلالها إلى أن تكون رواية حياة يتعانق فيها الموت مع الحياة، والحب مع الخيبة والفرح مع الحزن والغضب مع العاطفة بامتياز.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©