الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين ضفتي الصخب والعزلة

بين ضفتي الصخب والعزلة
9 مارس 2011 19:39
فيما يشبه الفيض المرتجل، والتعبير الموصول بلحظته الطازجة المتخلصة من القصد والتزيين والاعتناء المبالغ به، تقدم أعمال المعرض السنوي العام التاسع والعشرين لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية انتباهاتها الفنية في هامش مفتوح على التأويل والإحالة والشغل الذهني الذي يمنح اللوحة والمنحوتة الإسهامات المفاهيمية ما تستحقه من انشغالات ورؤى هي في النهاية انشغالات فكرية طليقة، ورؤى تكسر إطار الشائع والتقليدي في سياق الاندفاع الحر والمشاكس في مسارات الفن الجديد والمعاصر. المعرض المقام حالياً في القسم الشرقي من متحف الشارقة للفنون يسعى إلى أن يضع بين يدي (المشاهد) و(الراصد) للحركة التشكيلية في الإمارات تجارب تفصح عن نماذج لأعمال فنانين إماراتيين وعرب وأجانب، بالإضافة إلى أعمال مستقدمة من جامعة فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأميركية ساهم في إنتاجها طلبة وأستاذة وفنانون منتمون لهذه المدينة التي يطلق عليها: مدينة “الحب الأخوي” وهو لقب مستوحى من الفلسفة اليونانية لمكان يملأه شغف العمل، والتوق إلى اللعب والمتعة أيضا. شارك في المعرض المقام بالتعاون مع مجموعة متاحف الشارقة، 34 فناناً محلياً ومقيماً من المنضوين لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، مع مشاركة مجموعة من طلبة كليات الفنون الجميلة بالدولة بالإضافة إلى 12 فناناً من جامعة فيلادلفيا، وقدم الفنانون المشاركون 75 عملا فنيا توزعت على الأعمال التركيبية والمفاهيمية وأعمال الفيديو آرت، والمجسمات النحتية وأعمال الكولاج والتصوير الضوئي المتداخل مع الرسم الزيتي والطباعة، بالإضافة إلى تقديم صيغ تشكيلية وتعبيرية تستلهم روح الأمكنة المعاصرة المتماوجة على ضفتي الصخب الخارجي والعزلة الداخلية التي تفرز وجهات نظر متباينة، وذات أوجه متعددة فيما يخص تفسير العمل الفني وتأويله. هواجس متداخلة وعن طبيعة ومقاييس الأعمال المشاركة في المعرض أشارت ليلى جمعة راشد (مقيّمة المعرض) إلى أن الأعمال المشاركة لم تدرج ضمن موضوع أو فكرة معينة حتى يمكن ترك أقصى قدر من الحرية لدى الفنان عند تنفيذه لعمله الفني. وحول مشاركة الفنانين من جامعة فيلادلفيا الأميركية قالت ليلى راشد: “هذه المشاركة عززت كثيراً المستوى النوعي للمعرض خصوصاً وأنها أعمال أتت من إحدى الجامعات ذات المستوى العريق، والتي يمكن أن تفتح لنا مجالا أوسع في المستقبل لتبادل الرؤى والأفكار فيما يخص التنظيم وإثراء التجربة الفنية والتعرف على نتاجات مجهولة وبعيدة بقدر ما تحمل من خصوصية معينة، بقدر ما تتمتع أيضا بروح إنسانية مشتركة”. وترى مقيمة المعرض أن العملية التقييمية ما هي إلا نتاج وعصارة لمراحل الفرز والانتقاء المتعلقة بالنتاجات الفنية المقدمة، وأن معايير التقييم تختلف من قيّم وآخر وفق فكره وتصوراته، كما أن اختيار عمل لفنان دون آخر لا يعني تنحية فنان ورفضه، لأن ذلك يعتمد في الأساس ـ كما أشارت ـ على رؤية القّيم وذوقه الشخصي وما يريد إيصاله للمشاهد في صالة العرض. وفي نهاية تصريحها أوضحت ليلى جمعة أن القياس أو الحكم الغالب على مستوى العرض يشمل ناحية (فنية) وأخرى (تنظيمية) وهذا القياس يختلف ويتباين وفق معايير عدة، قد يرتبط معظمها بالمشاهد الذي يبني تصوراته على حسب ثقافته واطلاعه، وإن وجدت مؤشرات واضحة تدلل على مستوى أي معرض فني فهي قطعا لا تقيس الأداء الفعلي للقيّم فقط، لكنها تشير أيضا إلى جهود الفنانين وإلى جهود الأشخاص والمؤسسات التي ساهمت في إنجاحه. ويلاحظ المتابع لأعمال المعرض في دورته الحالية تجاور أعمال نفذها فنانون مخضرمون في المشهد التشكيلي المحلي، مع أعمال لفنانين شبان يملكون الرؤية والطموح للتواصل والاستمرار مع هذا الحقل الفني المليء بالوعود والإضاءات، حيث رأينا أعمالا لفنانين ذوى تجارب طويلة ومتراكمة أمثال حسن شريف وعبدالرحيم سالم ومحمد القصاب ونجاة مكي ومحمد كاظم وخليل عبدالواحد ومحمد أحمد إبراهيم وغيرهم، وهي تجاور وتحاور أعمالا لفنانين شبان وجدد مثل منى آل علي وناصر نصر الله وشيخة المزروع وعدد من طلبة كليات الفنون الجميلة، ولعل هذا التداخل بين عمل الفنان المخضرم والفنان الشاب جاء أشبه بالانصهار البصري الذي يمنح مزيجاً من التنويعات التشكيلية التي تفترق في التكنيك المستخدم ولكنها تجتمع في ذات الوقت على تقديم صورة زاهية للمشهد التشكيلي المحلي الذي بات يتوافر على قدر مهم من الحرية وتذويب صورة المكان والذات داخل إطار كبير ومنفتح على أفق التجربة الإنسانية الشاملة. خرائب أنيقة ويلاحظ المشاهد أيضاً غياب الفارق الفني الكبير بين الأعمال المحلية والأعمال المستضافة، فمعظم ما هو معروض جاء على سوية فنية متقاربة توحي بالنضج وتدلل على القفزة الجمالية التي حققها الفنان المحلي وهو يضع تجربته الخاصة ورؤيته العميقة وسط تيار الفنون المعاصرة وفي قلب أسئلة الحداثة وما بعدها. والتالي قراءة في بعض الأعمال المشاركة التي أنتجها فنانون مخضرمون ومعروفون في المشهد التشكيلي المحلي، وآخرون شبان أثبتوا امتلاكهم لوعي خاص ومتجاوز لدى تواصلهم مع صنوف وأطياف الفن الحديث، وهي قراءة تنشد الكثافة والتنويع واستبصار الأنماط الفنية المتداخلة والأخرى المتوافرة على قدر من الخصوصية الذاتية والانحياز الكبير للوهج الروحاني المعتمل في ذات الفنان والمتصل في ذات الوقت مع رؤيته وتفسيره للعالم، وللواقع المحيط به. الفنان حسن شريف الذي يعتبر من أبرز رواد الفن التشكيلي في الإمارات قدم عملا بعنوان: “علب” المكون من صفائح قصدير لامعة ومتراصة تبدو من زاوية محايدة مثل كومة من الخرائب الأنيقة والمعتنى بها جيدا، وهي كومة محمية في ذات الوقت من الشتات والاندثار، وهو عمل يدخل ضمن مفهوم حسن شريف بضرورة تجاوز الخرافة المحلية والانتصار “للجهد الفني” الذي يعلّي من قيمة الخيال، حيث يعتبر شريف أن الخيال موجود في القوة الفيزيائية، وفي الطاقة الكامنة التي تقوي الإنسان وتجعله فعالا في المجتمع، ويرى هذا الفنان الإشكالي أنه مع ظهور حركة التنوير الفلسفية في القرن الثامن عشر اكتسب موضوع الخيال طابعاً دنيوياً وأصبح عنصراً من العناصر الأساسية للإبداع الفني في جميع مجالاته، وبدأ الفنان يعمل بطريقة أكثر ذاتية وأكثر ارتباطاً بالمصير الحر للفنان، هذا الفنان الذي استطاع في القرن التاسع عشر أن يتخلص من العديد من القيود وتحول الخيال لديه إلى لغز إنساني كبير، كلما ازدادت متاهاته ومغاليقه، كلما ازداد شعور الفنان الحديث بقدرته على الإدهاش وبذل الجهد الأدائي والذهني من أجل الغوص المكتمل في محيط الفن. الفنانة ابتسام عبدالعزيز قدمت في المعرض لوحات أطلقت عليها (الصور المجمعة) وهي عبارة عن ملصقات داكنة يتخللها بياض “كاليغرافي” تفرضه الخطوط والعبارات المكتوبة بلغات أجنبية مجهولة، وتستدعي ابتسام هنا مخزونها البصري الشائك وكأنها وسط ضباب لاسع وهياجات ذهنية وحلمية تشق طريقها بصعوبة في أدغال الذاكرة ومتاهاتها، استخدمت ابتسام في العمل تقنية الكولاج المتماهي والذائب في الانطباع الحار والحي الذي يعكسه العمل الفني على مرآة القابليات الذهنية والاسترجاعية لمتلقي العمل الفني، والمشارك فعليا في عملية إنتاجه من جديد. وتصف ابتسام عملها بأنه أشبه بالعاصفة الهادئة، وتقول: “هو عمل يعكس أفكاري أثناء تجميعها. وإحدى المتع في تجميع الصورة هي خلق نوع من الارتباك والتوتر لدى الناس، والمتعة هنا تكمن في الإصغاء إلى آراء الناس وتعليقاتهم، فعلى الرغم من أن كثيرا من الناس يشعرون بالتوتر في مثل هذا الوضع، لكنهم لحسن الحظ يبحثون في رموز تلك الصورة. تلك العناصر التي جاءت من أماكن مختلفة وأزمنة متفاوتة جميعها قد تمازجت بصرياً، وبدت وكأنها تجتمع لتجعل تلك الصورة جوهرية لتراكمات بصرية”. وتضيف: “أن العمل الإبداعي يعتمد على خلق شكل جديد متفرد، وتكمن أهمية الخطوط في قيامها بدور فاعل بين الموضوع والمحتوى المطلوب الوصول إليه في الصورة، الأمر الذي يجعل نجاح أي صورة يرتبط ارتباطاً وثيقاً باستخدام الخطوط الأساسية التي تعبر عن المحتوى المطلوب وطبيعة الموضوع”. وترى ابتسام أن عمل الفنان يعتمد على المخزون الصوري في الدماغ الذي هو من صنع العقل الباطن فالخط هنا هو بصمة الفنان في عملية خلق الحالة الشعورية للعمل، ويعد الخط العنصر الأساسي الأول في التكوين. وهذه التوليفة تشبه إلى حد ما الأعمال السريالية التي يتم صياغتها وإعادة رسمها من جديد على سطح اللوحة أو الصورة وعملية دمج للأفكار تعتمد على المخزون الصوري ليس لمخيلة الفنان فحسب بل وإنما لأجهزة الوسائط الحديثة أيضا. صدمة بصرية وفي عمل فني آخر لافت قدمت الفنانة الإيطالية المقيمة في الإمارات كريستينا دي ماركو صياغة بصرية تجمع بين الثبات والحركة، وبين التأمل والضجيج، داخل إطار يضم صور فيديو مقسمة على ثمانية شاشات تم تصوير محتوياتها في سوق السمك الشهير في إمارة الشارقة، ويبرز التباين البصري والذهني هنا في جلوس امرأة على طاولة تقطيع السمك وهي تمارس اليوغا ـ قامت الفنانة ذاتها بالأداء الجسدي في هذا العمل ـ بينما يقوم العمال بتقطيع السمك وتتداخل أصواتهم العالية مع الصورة الممتلئة صمتا في وسط الشاشة، وتشير الفنانة دي ماركو إلى أنها ركزت في عملها على عنصر “التناقض”، وهو تناقض يتشكل بوضوح بين الارتباك والفوضى في السوق، وبين الهدوء التام اللازم لممارسة اليوغا، وكذلك في التركيز على المفارقة المتولدة بعنف بين حشد من الأفراد المتحركين، وبين فرد واحد ـ هو المؤدي ـ يبدو وكأنه منغلق في عالمه الخاص والروحاني. وتضيف الفنانة بأن عملها يدخل أيضا في صلب المطالبة بحقوق المرأة، كون المؤدي امرأة محاطة بالرجال، وتتجرأ على الوقوف في هذه البيئة دون مبالاة بردود الأفعال، أو التعليقات التي لا مفر منها. الفنانة الإماراتية الشابة شيخة المزروع المتخرجة حديثا من كلية الفنون الجميلة في جامعة الشارقة، والتي قدمت عملا جداريا يحوي ترانزستورات ودارات إلكترونية بألوان غلب عليها الأخضر والأحمر، تشرح طبيعة عملها قائلة: “استقيت فكرة عملي من أطروحات الفنان الفرنسي مارسيل دو شامب حول إعادة التعامل فنيا مع المنتجات الاستهلاكية في حياتنا العامة، وإضفاء معان جديدة على هذه المنتجات من خلال تقديمها للمتفرج بأنماط ومعالجات تشرح عنف وتسلط هذه المنتجات علينا”. وأضافت شيخة: “استفدت في عملي أيضا من الاقتراحات اللونية المدهشة التي قدمها الفنان الشهير بول كلي في العام 1920 والذي أراد ترجمة وتحويل الأصوات والإيقاعات المحيطة بنا إلى ألوان، بحيث تحدث هذه الألوان لدى المتفرج ما يشبه الصدمة البصرية المكثفة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©