الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بغداد... مدينة من إسمنت!

بغداد... مدينة من إسمنت!
13 يوليو 2009 01:00
اختفت بغداد القديمة، لكن مع ذلك لم تتخلص تماماً من آثار العهود الغابرة، والأمر يصل أحياناً إلى درجة الاستفزاز عندما يطالعك تمثال الشاعر العراقي معروف الرصافي بهيئته التي تميل قليلا إلى البدانة، والذي تستمد منه الساحة المحيطة به اسمها، بينما تظهر الندوب التي أحدثها الرصاص واضحة. وبالقرب من التمثال تنتشر مدينة تعج بالبنايات ذات الطوابق المتعددة، مما يفقد منظرها الجمال، في وقت غادر فيه الجنود الأميركيون شوارعها وانسحبوا، ظاهرياً على الأقل، إلى خارج حدودها المرسومة. والماضي في بغداد حاضر بقوة تجده في القبة الفيروزية المبنية من الآجور والتي تزينها زخارف إسلامية ومنمنمات قديمة تطل على الشوارع الغارقة في غبارها، في حين يمتد إلى أسفلها صف من الأقواس تعلوه شرفات تعود إلى فترة الوجود البريطاني. وبين الفينة والأخرى يُسمع صوت الآذان من مسجد عثماني قريب يخترق عنان السماء. لكن القبة التي تتوسط المنطقة تظل محتجبة عن الأنظار بعدما حالت دون رؤيتها شبكة متداخلة من الأسلاك الكهربائية التي تعلو الرؤوس وتسلب الشارع آخر ما تبقى من ملامح جمال غابر. وحتى الأقواس التي تظلل الممر، لم يعد من الممكن السير تحتها بسبب الحواجز الإسمنتية. أما صوت الآذان فنادراً ما يُسمع بسبب ضجيج أبواق السيارات المتصاعد. وبكثير من الحسرة يشتكي «حسين كريم»، أحد سكان بغداد، قائلا: «لقد تحول كل شيء إلى أكوام من القمامة بعدما هشمت النوافذ وانهارت البنايات». ورغم مغادرة القوات الأميركية للمدن العراقية في 30 يونيو الماضي، فقد تركت هذه القوات وراءها عاصمة تغيرت إلى الأبد بعد سنوات من التواجد الأميركي. فإذا كان الإمبراطور الروماني«أغسطس» يتباهى بأنه وجد روما مدينة من آجور وحولها إلى مدينة من رخام، فإن بغداد كانت هي أيضاً مدينة من آجور وحولها مجموعة من الجنرالات الأميركيين، بعد دخولهم إليها، إلى مدينة من الإسمنت، هذا الإسمنت الذي ينتشر في كل مكان؛ من المنطقة الخضراء المحصنة وسط بغداد إلى الحواجز والأسوار المضادة للتفجيرات التي تقسم الشوارع، مغيرة بذلك الوجه المادي والروحي والاجتماعي لمدينة دأب نهر دجلة على رسم ملامحها لأكثر من ألف عام. وربما تكون تلك الأسوار أقل أهمية من القوى الأكثر تدميراً التي أطلقتها ست سنوات من التواجد الأميركي، فقد تحولت بغداد إلى مدينة منقسمة على نفسها، إذ نادراً ما تضم الأحياء الشيعية سكاناً من السنة، كما أن الأحياء السنية، أو ما تبقى منها، لا ترحب بالشيعة، أما المسيحيون فقد غادروا المدينة إلى غير رجعة. وفيما يتحصن الأغنياء وذوو النفوذ في منازل تشبه القلاع، يُترك الفقراء لتدبر أحوالهم. والحقيقة أن العواصم الكبرى على امتداد العالم العربي، سواء أكانت بيروت أم القاهرة أم بغداد... فقدت درجة من تسامحها وتراجعت خلف الأسوار، الحقيقية منها أو الوهمية، التي ترسم حدوداً فاصلة بين الطوائف والعرقيات والطبقات الاجتماعية، بحيث يتأسى الجميع على ماضٍ كانت فيه تلك المدن مثالا للتعدد وتنوع الجنسيات، مما كان يضفي عليها مسحة من التألق والجمال. وبهذا المعنى تصبح بغداد أقل تأثراً بحاضرها المرير منه بتاريخها الضائع. وبالطبع لا يمكن إلقاء المسؤولية كاملة على الأميركيين، لكنهم ساهموا بلا شك في إطلاق أسوأ الغرائز البشرية وأكثرها تدميراً. فإذا كان صدام حسين قد حاول تجميل المدينة، فإنه أسبغ عليها طابعاً عسكرياً بملامح صارمة، ورفدها بآراء ليست غريبة عنه، كما تشي بذلك الآثار التي خلفها وساهم في تشييدها؛ ومن بينها قوس النصر، أو ساحة الاحتفالات الذي تكمن ميزته الوحيدة في خشونته الواضحة. فالقوس الذي يشكله السيفان المتشابكان، يعود تاريخ إقامته إلى عام 1985 احتفالا بانتصار عراقي في إحدى معارك الحرب مع إيران، بينما كانت فيه هذه الأخيرة تزحف نحو النصر. وقد صيغت القبضتان الممسكتان بالسيفين على قبضة صدام نفسه بعدما كُبرتا أربعين مرة، ويُقال عن الانحناءة التي تميز السيفين إنها نقلت عن سيف «سعد بن أبي وقاص»، القائد العربي الذي هزم الفرس في القرن السابع الميلادي. وتطلب تشييد هذا القوس 24 طناً من المعدن الذي صيغ من بقايا أسلحة الجنود العرقيين الذين قتلوا في الحرب، كما عُلقت على رسغ القبضتين شِباك تحمل آلاف الخوذ العسكرية التي تعود إلى القتلى من الجنود الإيرانيين. وحتى الجدران التي تفصل بين الأحياء البغدادية، تتمسك بوظيفة أمنية صرفة ولا يوجد ما يميزها، فهي تفتقد للطابع العدائي لجدار العزل الإسرائيلي في الضفة الغربية الذي أقيم لفصل اليهود عن الفلسطينيين، ولا هي أيضاً تشبه جدار برلين بما احتواه من خربشات سياسية، لكن الجدران البغدادية لا تخلو مع ذلك من كتابات ورسومات تحيل إلى طموحات العراقيين، أو ما تبقى منها مثل الكتابات التي تفاخر بماضي تليد يعود إلى العهدين السومري والبابلي، فيما يتعامل معها الباعة كألواح إعلانية يعرضون فيها أسماء محلاتهم، بل حتى الحكومية سجلت حضورها على الجدران بخط شعارات مثل: «كن بطلا واحمِ العراق». وخلافاً للقاهرة وإسطنبول على سبيل المثال اللتين حافظتا على مآثرهما التاريخية، فقدت بغداد الكثير من معالمها بسبب الحروب والفيضانات الموسمية لنهر دجلة. وفيما كان الحي البغدادي القريب من تمثال الرصافي من أكثر الأحياء حيوية بمساجده ذات الطابع العثماني وأسواقه المتعددة، وفيما كانت أحياء أخرى مثل شارع النهر الذي يعرض الموضة وشارع الرشيد بأجوائه الثقافية... علامة عراقية مميزة، تحولت اليوم تلك الشوارع إلى مناطق قُطعت أوصالها وفصلت عن بعضها بعضا بكتل خرسانية وجدران إسمنتية أضاعت معها بغداد هويتها القديمة. أنطوني شديد-بغداد ينشر بترتيب خاص مع خدمة «لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©