الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لا ذنب لي

لا ذنب لي
18 يناير 2009 01:25
في طفولتي كنت شديد البدانة وأبدو أكبر من سني·· أذكر أنني كنت أركب الحافلة مع أمي وجاء المحصل ليأخذ ثمن التذاكر· هنا طلبت منه أمي تذكرة ونصفًا لأنني ما زلت طفلاً·· راح المحصل ينظر لي من أعلى لأسفل كأنه يفحص ثورًا ينوي شراءه، ثم قال ضاحكًا بطريقة من عرف هذا الموقف مرارًا: ـ''سيدتي ·· لا يمكن أن يكون هذا طفلاً·· إنه يحتاج إلى تذكرة كاملة'' بينما أصرت أمي في عناد: ـ''بل هو طفل·· لابد أنك أصبت بالعمى فجأة'' ارتفع صوت الرجل: ـ''سيدتي·· هذا ثور كامل بلا زيادة ولا نقصان·· إن وزنه هو وزني، وطوله قريب من طولي وأنت تريدين إقناعي بأنه كتكوت صغير !'' ثم صاح يطلب شهادة الركاب: ـ''يا خلق الله يا ايها المسلمون·· هل هذا طفل ؟·· فليقل كل منكم ما يمليه ضميره ولا يجامل السيدة··'' هكذا راح جميع الركاب يفحصونني بعيون ناقدة أو كارهة أو ساخرة·· ومنهم من راح يهز رأسه غير مصدق·· وتعالت الصيحات: ـ''كلنا أطفال !'' ـ''هذا طفل ؟·· هع هع !'' ـ''فلتعتبره طفلاً يا أخي·· نصف التذكرة هذا لن يفلس الحكومة··'' وأنا لا أصدق هذا الكابوس الذي أعيش فيه·· يشبه الأمر أن تقف عاريًا في شارع مزدحم·· تمنيت على أمي أن تدفع ثمن التذكرتين وتنهي هذا السيرك· سأدفع لك ثمن كل التذاكر الكاملة التي دفعتها لي طيلة حياتي بمجرد أن أحصل على وظيفة ثابتة· لكن أمي كانت مصرة على ألا تُخدع·· وقد دفعني تمسكها بالمبدأ هذا إلى أن أتلقى سيلاً من الشتائم على رأسي·· منذ ذلك الحين تعلمت أنك يمكن أن تظل صامتًا وتقف في الظل محاولاً أن تحتل أقل حيز من الفراغ، وعلى الرغم من هذا ينهال عليك السباب·· في إحدى الندوات التي تناقش أعمال رسام كاريكاتور شاب واعد، استضافوا فنان كاريكاتور عجوزًا ضيق الخلق· كان أول سؤال وجهه الحضور للرسام العجوز هو: ـ''في رأيك كم يمثل هذا الفنان الشاب بالنسبة للكاريكاتور العربي ؟'' عرفت على الفور ما سيحدث·· لقد انفجر الرجل صارخًا: ـ''صفر في المائة !·· إنه لا يمثل سوى صفر في المائة !·· إنه لا شيء على الإطلاق'' والفنان الشاب الواعد يجلس محرجًا محمر الأذنين، فهو لم يفعل أي شيء ولم يدع شيئًا، وفجأة وجد نفسه يهُان بلا داع·· إن هذا السؤال السخيف من الأسئلة التي تستجدي السباب استجداء·· أذكر أنني وجدت ذات مرة في أحد مواقع الإنترنت من يمتدحني بحرارة، إلى درجة أنه يعتبرني من أهم الكتاب العرب، وأنه من المفترض أن يعرفني الغرب ليلقي الحمقى في القمامة بما لديهم من كتب هيمنجواي وكافكا وتولستوي وإميل زولا وجيمس جويس وهوميروس وسومرست موم وفلوبير، ليضعوا كتبي مكانها·· طبعًا لم أشعر بأي سرور، أولاً لأن هذا الكلام يبعد عن الحقيقة بعدنا عن كوكبة القنطورس في الفضاء الخارجي، ولأنني أعرف ما سيحدث بالضبط·· هكذا جلست في الحافلة·· أعني جلست في مكتبي صامتًا وأنا أقرأ الشتائم التي تنهال على رأسي على شبكة الإنترنت·· من هذا الكاتب الضحل ؟·· من هذا التافه ؟·· هذا الذي لا يعرف كيف يكتب جملة واحدة متماسكة·· إنه الأغبى والأكثر إملالاً والأكثر ضحالة وادعاء·· تقريبًا دخل الموقع ألف شخص متحمس ليكتب عبارات السباب في شخصي الكريم ثم يرحل، لدرجة أنني توقعت أن يقول أحدهم: هذا ثور كامل بلا زيادة ولا نقصان·· حكيت هذه القصة لصديق لي، فالتمعت عيناه وراح يهتز بضحك مكتوم، ثم اعترف لي بأنه هو من كتب هذا المديح لي باسم مستعار·· ـ''لقد أردت أن أجاملك لكن النتيجة كانت عكسية تمامًا ··!'' هذا نموذج للشخص الذي يجلب على رأسك المشاكل بلا ذنب لك· هكذا عرفت الطريقة المثلى كي تنهال الشتائم على خصومك·· امتدحهم بحرارة·· امتدحهم بعنف·· امتدحهم مع الكثير من المبالغة·· ثم استرخ في مقعدك وراقب كيف يتم تمزيقهم إربًا·· صدقوني·· قبل أن توجهوا لي الشتائم تأكدوا أولاً من أنه لا ذنب لي في هذا كله·· لقد ظللت صامتًا وابتعدت عن الحرب، لكن الحرب جاءت لي حيث أنا !
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©